|
من الإبستمولوجيا إلى المجتمع
قليلة هي الكتب العربية التي تبحث في قضايا الفلسفة والبحث الفلسفي، وهو ما يشكِّل نقصًا واضحًا في مدى انشغال الفكر العربي بذلك، ولاسيما أن المهتمين والمتابعين لحركة التأليف في هذا المجال هم من المختصين في الغالب. ويعتبر كتاب من الإبستمولوجيا إلى المجتمع: التاريخانية والمجتمع المفتوح عند بوبر لمؤلفه فؤاد محمود خير بك واحدًا من هذه الكتب التي تناقش قضايا التاريخانية والمجتمع المفتوح عند واحد من أهم الفلاسفة الإنجليز في مجال السياسة والعلوم الاجتماعية والتاريخ. ويشير المؤلف في مقدمة الكتاب إلى أهمية فلسفة كارل بوبر، لاسيما فيما يتعلق بموضوعة التاريخانية، ولذلك ينطلق من هدف يسعى إلى تفحص مفهوم التاريخانية الذي تحدث عنه في كتابه عقم التاريخانية قبل حوالي نصف قرن، والذي اعتبر الملهم للنظم الاستبدادية والداعية إلى المجتمعات المغلقة، الأمر الذي دفعه من جهة ثانية إلى دراسة المجتمع المفتوح، بالإضافة إلى تناول تصوره عن العلم وتطبيقاته على العلوم الإنسانية. إن أول ما يتناوله الكتاب هو نظرية المعرفة عند بوبر، وموقفه من العلم منهجًا ومعيارًا، إذ يخصص الباب الأول لدراسة النظرية التي تقوم على أن المعرفة هي موضوعية ومؤقتة، والصدق شيء يمكن الاقتراب منه شيئًا فشيئًا من دون أن نتمكن من الوصول إليه، في حين أن المنهج العلمي هو منهج استبطاني افتراضي لا وجود للاستقراء فيه، وأن المعيار المميز له يتحدد في قابلية العبارات المستخدمة في العلم للتكذيب من دون المنهج الاستقرائي الذي كان مساندًا في السابق. يتألف الكتاب من مدخل وثلاثة أبواب، يتألف كل باب منها من عدد من الفصول؛ ففي الباب الأول يدرس فلسفة العلوم عند بوبر في ثلاثة فصول، يبحث الفصل الأول منها المعرفة الموضوعية، حيث شكلت رؤيته إلى هذه المعرفة تحولاً في نظريات المعرفة إذ انشغل بوبر بتقدم المعرفة ونموها لاسيما العلمية منها، وقد ساهم تناوله لنظرية المعرفة على أساس نموها وتقدمها في معالجتها بعيدًا عن آثار الذات العارفة، فهو يربط بين المعرفة والموضوعية التي تعني عنده قبولها بالنقد وقطع كل صلة لها بأي ذات، وهي تتكون من الأفكار العلمية والفلسفية ومن مخزونات العقول الإلكترونية وكل النظريات المصوغة. وفيما يتعلق بنظرية الصدق يؤكد المؤلف أن وظيفة العلم عند بوبر هي البحث الدائم عن الصدق والحقيقة في حين أن منطق المعرفة الموضوعية يمثل فعلاً نقديًا مضادًا للدوغمائية. ويبحث الفصل الثاني في المنهج العلمي فيتناول أولاً المنهج الكلاسيكي الذي ينقسم إلى منهج استبطاني ومنهج استقرائي، ثم يناقش مشكلة الاستقراء عند هيوم، وكيفية حل مشكلة الاستقراء، إذ حاول بوبر تقويض أسس هذا المنهج. أما منهج العلم فيشكل أساس نظرية بوبر المنهجية التي قامت على أن خاصية العلم التجريبي تقوم على إمكانية تكذيب عباراته العلمية إذ أن ذلك يساهم في تعيين الخطأ في العبارات، ومن ثم القدرة على إخراج تلك العبارات من البناء العلمي. وتتمثل قواعد هذا المنهج في إيجاد منهجية تمنع التملص من التكذيب، فلا نعيد تأويل الأدلة لتأتي متفقة مع عباراتنا العلمية، أو نطرح فرضيات تعين على التهرب من التكذيب. ثم ينتقل المؤلف إلى دراسة مراحل التفكير النقدي العلمي. ويبحث الفصل الثالث في معيار تمييز العلم الذي يقوم على ثلاثة معايير هي معيار قابلية التكذيب الذي يرتكز على معطيات تعتبر شبه بدهية، في حين أن العبارات الأساسية، كما يراها بوبر، لا تتأسس على الخبرة الخالصة وإنما على موضوعيتها. ويخصص الباب الثاني لدراسة "التاريخانية" كما تتجلى عند بوبر، إذ يقول عنها أنه حاول أن يقدمها كفلسفة متسقة وجديرة بالامتحان معتمدًا على صياغة أحكام جديدة لدعمها، ولذلك فهو يعرِّفها بأنها الطريقة في معالجة العلوم الاجتماعية، تفترض أن التنبؤ التاريخي هو غايتها الرئيسة، كما تفترض إمكان الوصول إلى هذه الغاية بالكشف عن القوانين أو الاتجاهات أو الإيقاعات التي يسير التطور التاريخي وفقها. ويناقش بعد ذلك معنى التاريخ لأن وقائع التاريخ لا تحدث على هواها وإنما تحدث لتحقيق غاية محددة هي التقدم. ينتقل بعدها لدراسة المحاكمات التاريخانية والنزعات التاريخانية، وذلك كمقدمة لتحليله ونقده للتاريخانية التي تعارض المذهب الطبيعي، حيث يقوم هذا النقد على تبنيها لمفهوم علمي خاص في ميدان علم الاجتماع يؤدي إلى الفصل الحاد بين مناهج العلوم الاجتماعية ومناهج العلوم الطبيعية. وهنا يناقش مشكلة التعميمات الكلية في المذهب التاريخاني، والتي يؤكد بوبر فيها أن القوانين العلمية ذات صورة واحدة لا تختلف بين الطبيعي والاجتماعي، ثم مشكلة التجريب إذ يرى ممثلو الاتجاه التاريخاني أن هذا المنهج يقوم على أن الأمور المتماثلة تحدث في الظروف المتماثلة، وهذا يتاح للعلوم الطبيعية، ويمتنع على العلوم الاجتماعية. أما المشكلة الأخرى فهي مشكلة التنبؤ التي ترى أنه عسير في العلوم الاجتماعية، وأخيرًا هناك مشكلة رفض المناهج الكمية وتطبيقها على العلوم الاجتماعية. ثم ينتقل الدارس إلى عرض نقد بوبر لهذه الدعاوى، حيث يقوم نقده على أن الشمولية هي صفة أساسية للتاريخانية لا تنفصل عنها وأنها صفة غير علمية، ولذلك يناقش عددًا من القضايا أهمها التكنولوجيا التجزيئية وتناقضها مع التاريخانية واتصافها بالشمولية. ويعالج الفصل الثالث تحليل بوبر ونقده للتاريخانية المؤيدة للمذهب الطبيعي في محورين: الأول هو محور التحليل البوبري لذوي التاريخانية المؤيدة للمذهب الطبيعي، والثاني هو النقد البوبري لدعاوى التاريخانية المؤيدة للمذهب الطبيعي. أما الفصل الرابع فيبحث في النتائج المستخلصة من تحليل بوبر للتاريخانية، متوقفًا بصورة أساسية عند المواضيع التي تمثل صلب العلوم الاجتماعية وهي التنبؤ التاريخي، الإصلاح الاجتماعي، التقدم، وصورة العلم، ففيه تتأسس النبوءات على مشاهدات لا تجريب فيها فإن النبوءات التكنولوجية تتأسس على معرفة تجريبية بقوانين الفيزياء. وينتقل المؤلف من دراسة التاريخانية ونقدها إلى دراسة مفهوم المجتمع المفتوح في الباب الثالث من الكتاب، ويبحث في أعداء المجتمع المفتوح المتمثلين في ثلاثة من الفلاسفة هم: أفلاطون، هيجل، وماركس. فأفلاطون اعتمد في فهم وتفسير الثورات السياسية على اعتقاده بأن أشكال التنظيمات الاجتماعية المتحققة أو المحتملة ليست سوى نسخ رديئة عن الدولة الكاملة التي تتغير والتي تقوم على عالم المثل. فالدولة المثالية في جمهورية أفلاطون هي دولة يعمل فيها كل فرد بإخلاص لإرضاء حاجة الجماعة من الموقع الطبقي الذي يشغله مما جعله فيلسوفًا رجعيًا في رأي بوبر. أما بالنسبة لهيجل وماركس من بعده فإنهما لم يدركا أن السؤال الحق هو ليس من سيكونون الحكام بل كيف يمكن ترويضهم. ومشكلة ماركس هي نبوءته الزائفة التي لم تتحقق. وهذا ما يجعله يتناول مفهوم المجتمع المفتوح الذي يقوم على أن الحياة لا تتوقف عند حل المشكلات، وعلى المجتمع إتاحة فرصة حل هذه المشكلات لأنها ستكون المجتمعات الأفضل. وتقوم نظرية بوبر في التطور التاريخي على فكرة المجتمع المفتوح والمجتمع المغلق. فإذا كان الأخير يمثل المجتمع القبلي النموذجي الثابت الذي تسيطر فيه المحرمات بصورة صارمة على جميع مناحي الحياة، فإن المجتمع المفتوح يقوم على أساس التغير الاجتماعي المستمر الذي يكافح فيه الفرد من أجل أن يرتقي بمستواه الاجتماعي وينافس ليأخذ مكان غيره ما يؤدي إلى بروز ظواهر اجتماعية هامة أهمها الصراع الطبقي. الكتاب: من الإبستمولوجيا إلى المجتمع المؤلف: فؤاد خير بك الناشر: وزارة الثقافة – دمشق – 2002. *** *** *** |
|
|