|
الحلول القصوى أو كيف تنجح في أن تفشل
بول فاتزلافيك أحد الأسماء اللامعة من المدرسة الفكرية المعروفة باسم "مدرسة بالو ألتو"، ويكفي أن نذكر من أعضائها البارزين غريغوري بتسون، إدوارد هال، وارفنغ غوفمان. ولد فاتزلافيك عام 1921 في النمسا حيث تعلم حب العلوم الطبيعية واحترامها. درس فيما بعد في إيطاليا حيث أصبح، عام 1949، دكتورًا في الفلسفة، وشغف بفلسفة اللغة والمنطق. من ثم تعلم في نهاية الخمسينات في زوريخ التحليل والعلاج النفسي وقام بتدريس ذلك في جامعة السلفادور الوطنية. في 1960 عمل فاتزلافيك في فيلادلفيا في معهد التحليل المباشر حيث يعمل ألبرت شغلن مع فريق من الباحثين على تحليل العلاقة بين المُعالِج والمُعالَج من خلال تحليل صور أفلام صورة فصورة. وأدرك فاتزلافيك أهمية أنماط الاتصال الأخرى غير اللغوية في السلوك التفاعلي. من ثم انتقل إلى معهد الدراسات العقلية حيث تأثر كثيرًا بثلاثة عمالقة: - دون جاكسون صاحب القدرات التحليلية والطرق العلاجية الفائقة. - غريغوري بتسون المنظر الكبير الذي يستشيره الجميع. - ملتون اريكسون المحلل النفسي الذي يستخدم المفارقة كطريقة علاج. وتمكن فاتزلافيك، لأول مرة، من صياغة، في صورة دقيقة، بعض أفكار بتسون الكبيرة والخاصة بالاتصال مع أفكار جديدة جاءت من السيبرنتيك ونظرية المنظومات وتطبيقها على العلاج النفسي، فبالنسبة له ولزملائه لا يمكن تقليص التفاعل إلى مجموع عناصره، وركز على العلاقات الثنائية: الأم والابن، الزوج والزوجة، إلخ. (كتاب براغماتية الاتصال البشري، 1967).
وتابع فاتزلافيك في الوقت ذاته أبحاثه الهادفة إلى جعل المشاورة في المعالجة العائلية أكثر فاعلية. وحاول أولاً تركيز اللقاء وتنظيمه حول مهام محددة. وكان يطلب من الأهل الاتفاق بين بعضهم على معنى لمثلٍ شعبي مثلاً ومن ثم شرحه إلى أطفالهم. تهدف هذه الطريقة إلى دراسة ظهور بعض البنى العلائقية بين أعضاء العائلة. لكن فاتزلافيك تخلى عنها لأنها طويلة ونتائجها غير مكفولة. واهتم من ثم بدراسة وتفسير التقنيات العلاجية الحدسية التي يستخدمها بعض زملائه، إذ كانوا يتوصلون من علائم معينة إلى تحليل صحيح ودقيق للحالة المدروسة من دون أن يعرفوا كيف ولماذا. وكان كتابه تغيير الذي حاول فيه استخلاص هذه الطرق بحيث يمكن لبقية المعالجين استخدامها (عام 1974). ودرس فيه مع زميلين له عمل المفارقة في العلاج النفسي. وقالوا بوجود نوعين من التغيير لحالة ما: "التغيير" الذي يتمثل في تبديل داخل المنظومة، و"التغيير" المتمثل في تبدل المنظومة ذاتها. ويمر في رأيهم كل حل عميق لمشكلة نفسية بـ"التغيير" أي بإعادة تنظيم للعناصر في منظومة جديدة، وبالتالي فإن على المعالج النفسي قولبة الحالة في قالب جديد، بحيث لا تبقى ذاتها بل تبرز حقيقة جديدة تعطي معنى مختلفًا للعناصر المركبة لها. وتثير هذه الطريقة العلاجية الناجحة مشكلات فلسفية عن طبيعة الحقيقة عالجها فاتزلافيك في كتابه الرائع كم الحقيقة حقيقية؟ ويتعدى في طرحه ميدان العلاج النفسي ليشمل مشكلة المعرفة برمتها. ويميز بين ما يسميه "الحقيقة من الدرجة الأولى" والتي تتعلق بالخواص الفيزيقية للأشياء و"الحقيقة من الدرجة الثانية" المتعلقة بالقيم الاجتماعية للأشياء والقابلة بالتالي إلى قولبة جديدة.
وفي كتابه لغة التغيير يعود إلى مشكلة العلاج المفارق. يقول فاتزلافيك إنه في حين يترجم المُعالِج التقليدي لغة المريض إلى لغته الخاصة حتى يكشف المنابع، فإن المُعالِج المُفارِق يستخدم لغة المريض حتى يبدل وضعه الحالي وهو يراقب ويستمع لكنه لا يصمت، إنه يأمر. ويهدف إلى تغيير المريض وليس توعيته عن الجذور العميقة لمشكلاته. إنه يتدخل في الحاضر وليس في الماضي ويحاول كشف كيف أن المريض جزَّ ذاته في لعبة تفاعلية لا مخرج لها في محاولة لينظم بنفسه ما يعتقد أنها مشكلته. يعتقد فاتزلافيك أنه يمكن للمريض القيام "بالتغيير" فقط ووحده المُعالِج يقوده إلى "التغيير" (في رأيي أن ذلك تعميم مشكوك في أمره). ونرى هنا قطيعة مع الممارسة التحليلية ومن دون التطابق مع المسلكية.
إلى جانب هذه الدراسات كتب فاتزلافيك عددًا من الكتب والدراسات البسيطة، المسلية والعميقة في الوقت ذاته، أذكر منها كتاب أخرب بيتك بيديك. وفي كتاب الحلول القصوى يتعرض ببراعة وبساطة مسلية إلى بعض المعالم النفسية/الاجتماعية المسببة لمشاكل عالمنا وآلامه. أعتقد أن القارئ قد فهم من العرض السابق أنني أنصح بحرارة كتب فاتزلافيك كلها.
الحلول القصوى أو كيف تنجح في أن تفشل؟ *** *** *** |
|
|