بيت بمنازل كثيرة
ساراييفو "أميرة" الوصل والقطع...[1]

 

خالد الخروب

 

ترقص كأن لا أرض تحت قدميها. تمدّ ذراعيها إلى أعلى بامتداد قامتها، تشبك اليدين فوق الرأس وتدور تدور بلا توقف. تشرق بابتسامة عريضة توزعها على كل الواقفين في الدائرة الوسيعة، يشجعونها ويصفقون لها على وقع موسيقى بلقانية صاخبة كأنما هي نهاية حرب. أميرة تشع بفرح ملغز، محيّر، مستفز لسؤال: أهو نهم إلى الحياة هذا الرقص أم هرب منها؟ توسع من دورة رقصتها وتفيض على كل منا بابتسامة قريبة حميمة كأنما تخصه بها للحظة أو لحظتين. من أين تجيء بكل هذين الفرح والانعتاق؟ ترقص شبه راكضة بخط دائري سريع داخل الحلقة التي نقف حول محيطها، تغمز هذا وذاك جذلة، وتقول "أسلام أليكم" وتواصل الرقص. تعرف أن غالبنا جاء من هنا أو هناك، يأمل في "أسلام على وإلى" كل الناس في البلقان الجريح. كيف يولد هذا الفرح في قلب جرح لا يزال يفور بالدم والذكرى والحزن، يبعثه كل هنيهة هذا الدمار المحيط؟ أتأمل أكثر: ثمة شيء غامض في العينين البراقتين، أهو حزن غاب خلف الابتسامة العريضة، تفضح جزءًا عنه إغماضة العينين لحظات الدوران كأنما تناغي توحدًا صوفيًا يحملها بعيدًا عنا، عن العالم، عن الماضي، عن الحاضر، عن الزمن وتقاسيمه القاسية؟ تهامست مع من بجانبي أتساءل عنها. قيل لي: اعتقلوها أربعة أشهر، قتلوا فيها الحياة، والروح، والجسد. تخيل ما قد تتخيل أن تفعله ذئاب شرهة لئيمة جائعة في حمل وديع: ذاك ما قد وقع لأميرة ابنة الأربعة عشر عامًا. بعد تلك الشهور قررت أن تهرب أو تموت أثناء الهرب. هربت. طاردوها. اختبأت في زير للماء لمدة أسبوع. كانت تخرج رأسها لتتنفس، ثم تختبئ. كادت أن تموت ألف مرة. لكنها نجت.

أميرة تدرس الآن في الجامعة. ضحكتها تشع على الكون كله. لكن دمعتها تملأ عينها. بينها وبين الهطول أقل من رمشة. إن جاءت سيرة الحرب ذوت أميرة في الدموع. تغيب إشراقة الضحكة، تغلق الشمس نافذة النور على كل المعمورة، حزنًا مع أميرة وعليها ويلحّ الظلام في لحظة. دموع أميرة ساراييفو الجميلة تغرقنا جميعًا، نحن المنخرطين في مؤتمر لا يفعل سوى نكء جراح الحرب التي تكرهها أميرة. نزعم بتفلسفنا الفارغ وراء منصة محاضرات شبه منافقة أننا نعلي بسمة السلام ونسيان الماضي.

أرجو منها كي تجلس بجانبي عند عرض فيلم شهير حاز جوائز عالمية عدة يصور بشاعة حرب البلقان، لتترجم لي حوادث الفيلم التي تدور بلغة أهل البلقان. تتردد. أسأل. تقول إنها لا تحب الفيلم، وتبكي كلما شاهدته، لأنه يفتح ما تريد أن تغلق إلى الأبد. أرجو منها أكثر. كأنما أريد أن أرى دموعها، لإعيد اكتشاف روعة الحياة في رقصها في الليلة السابقة. ولأتأمل فيها الوصل والقطع بين دمعة الموت ورقصة الحياة. تجلس بجانبي. يبدأ الفيلم، تسبقه دموع أميرة. ألتقط ما ألتقط من حوادث الفيلم، وأميرة تترجم جملة وتبكي جملتين. تبًا لك يا خالد ما أقساك! أتمتم لذاتي في داخلي. تومئ لي برأسها مغادرة، إذ ما عاد في إمكانها الاستمرار. تخرج أميرة إلى نور القاعة الخارجية، أظل غارقًا في ظلام الفيلم. تسيل دموعي وقد تحررت من وجود أميرة. كنت أشد على دموعي، إذ أشد على يدها لتصمد، أريد أنا من يشد على يدي. الآن أبكي.

ياسين الكركي، عاشق أردني لهذه البلاد. أمضى فيها زهرة شبابه، عشرون عامًا والعدّاد يعدّ! في السلم والحرب، مع الناس، ومع السياسيين، ياسين صار دم عروقه من ماء النهر الذي يتوج جمال المدينة. بحماسة من وصل إليها للتو يشرح لي، هذا قلب المدينة التاريخي، هنا الجامع الكبير، بُني منذ خمسة قرون على الأقل، الوقت قريب من منتصف الليل، والجو صيفي رائق، صفٌّ من المصلين يرتِّل، وكبار في السن يتوضؤن في صحن الساحة. من على الجانب الآخر للجامع، وفي زقاق ضيق مرصوف من قرون تصدر موسيقى صاخبة، شباب وشابات يخرجون ويدخلون إلى مقهى ليلي. تتصالح موسيقى الليل مع ترتيلات الجامع. على بعد أمتار من البوابة الرئيسية للجامع يعرض محل للملابس النسائية موضة الصيف. نمشي دقيقتين، هنا المعبد والمتحف اليهودي الكبير في ساراييفو. اليهود أقلية هنا، لكنهم يحبون البلد. تاريخيًا، ومن عهد جلاء المسلمين واليهود عن إسبانيا، فتحت البوسنة ذراعيها لليهود يوم أقفلت الموانئ الأوروبية مرافئها في وجوههم، يقول ياسين. تطوف بهم السفن من مدينة ساحلية إلى أخرى، لكن ترفضهم المدن. ساراييفو لم تفعل، فقد كانت كما هي الآن دافئة ووديعة. كيف يمكن أن تصمد مدينة بمثل هذه الوداعة أمام تلك الحروب كلها؟

أترى ذلك الجسر، عليه اغتيل ولي عهد النمسا، وبسببه قامت الحرب العالمية الأولى. انتهت الحرب، وبقيت ساراييفو ومن فيها، قدسًا متعايشة. في الحرب العالمية الثانية يوم طارد هتلر اليهود في ألمانيا والنمسا وبولونيا وباقي أرجاء أوروبا كانت البوسنة حضنًا دافئًا نادرًا احتضنهم مرة ثانية. وفي حرب التسعينات الأخيرة بقيت معابدهم سليمة، كما بقيت كل الكنائس، كاثوليكيّها وأرثوذكسيّها. في أرجاء البلقان كله وحيث كانت الجوامع تدمر واحدًا تلو الآخر في كل أرض تدوسها وحشية الصرب، كانت قدس البلقان نجمة. فهناك كانت كنائس ساراييفو ومسيحيوها يعلقون وسام صلاح الدين على سماء المدينة. حوصرت من على التلال ودكّت بالصواريخ والمدافع، وما كان عند سكانها سوى البنادق، وانتصار للحياة كامن في قلب أميرة.

أميرة ترقص وتدور في خط دائري بلا انقطاع. يبرق على جبينها العرق، وتشع من عينيها الفرحتين. تقرأ على الكون قصيدة الحب الأولى: أيها الناس تساموا إلى حبي لكم، أنا عشتار البلقان وإلهة الحب التي لا تُقهر. أشرع لكم ذراعيَّ مفرودتين كما المدى. أحتضنكم واحدًا واحدًا، لا أرى فيكم إلا البياض. أفرح بنقاء الولادة الأولى وطفولة الأشياء. أعيدكم أطفالاً في عيني، أشقياء تتراكضون وتقطفون الورد الصغير فألحقك بكم، تهربون متدافعين وضاحكين، فأحوطكم بضحكة أوسع من كل ضحكاتكم الصغيرة وأحضنكم. لا أريدكم كبارًا سيئين، أنفض في اتجاه روؤسكم عصا السحر لتبقوا أطفالاً. لا أريدكم كبارًا ولا بالغين. دعونا نعود إلى زمن الطفولة الأول، فنتعانق لأجل العناق ونضحك لأجل الضحك. أنا أميرة، إلهة هذا المكان!

تترجم لي أن الجنود الثلاثة الجرحى في الفيلم، بوسنيين وصربًا، وجدوا أنفسهم في حفرة على خط النار بين الطرفين، متقابلين إما الموت وإما الموت. يختصرون قصة الجرح الدامي هنا: الكل في حفرة، والكل جريح! ثلاثتهم جرحوا أثناء اشتباك سقط فيه بقية رفاقهم، وظل هؤلاء الثلاثة وحظهم العاثر، أشباه أحياء. أحدهم، واحد من البوسنيين، يستلقي على لغم، إن هو قام أو تحرك ينفجر اللغم فيه وفيهم جميعًا. الاثنان الآخران، الصربي والبوسني، يتبادلان السيطرة على الآخر. يتشاتمان، يصمتان، يتحدثان، يسأل أحدهما الآخر من أي مدينة جاء، يكتشفان أنهما من المدينة نفسها، وأنهما غازلا الفتاة نفسها في فترة ما. يعاودان العراك. اللغم الذي قد ينفجر تحت ثالثهما يستدعي قدوم جنود الأمم المتحدة. تأتي مدرعات وجنود لإزالة اللغم وإنقاذ الجريح المستلقي عليه، بعدما قتل الاثنان أحدهما الآخر. ويأتي إعلام وكاميرات لتصوير العملية. لكن، يفشل الكل في زحزحة اللغم. يتركون الجريح في الحفرة، نائمًا على لغم ينتظر مستقبله المنفجر حتمًا! قبل النهاية المفجعة، كانت أميرة قد غادرت، كأنما هربت من مستقبل ما كما كانت قد هربت من ماض ما ظل ينزّ بالدم وحاضر مغلق برائحة الألم. سلامًا أميرة!

*** *** ***

عن النهار


 

horizontal rule

[1]  من كتاب وشم المدن: شظايا رجل بلا مدينة، يصدر قريبًا عن دار رياض الريس في بيروت.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود