|
أوراق في الكائن نون
1. قطعان العبيد هل فكرت يومًا بالثمن الذي تقاضيته مقابل بيع حضورك، وقدرتك على التفكير، وإحساسك باللحظة الآنية. وهل تعتقد أن الثمن موجودة في جيبك؟ إذا أجبت بنعم فتوجه لتلفازك وحاول أن تشاهد بتمعن فيلمًا ما، ومن ثم اسأل نفسك: ماذا فهمت؟ لأن كل ما تراه يحمل صيغتين: أولى ظاهرية تهدف لتغييبك وعدم إحساسك بالآن، وشدّك لإمضاء أطول وقت ممكن منومًا بعيدًا كل البعد عن الواقع؛ وأخرى مستترة، يحمل كل تفصيل صغير تراه أمامك، لدى معرفتها، معنى ما وإسقاطًا على ما تشهده (وأنت الشاهد). وفي الحقيقة، قليلة هي الأفلام التي تهدف لإيقاظك بدلاً من تنويمك، وأحدها هو ما دفعني لقول كلماتي هذه. إنه فيلم تقع أحداثه في المستقبل القريب، إذ يشتري رب أسرة ميسورة رجلاً آليًا مبرمجًا لخدمة البيوت، وبعد فترة يكتشف المالك أن خادمه الآلي قابل للتعلم، وقادر على فعل أشياء يدوية لم يبرمج لفعلها، دون ابتغاء أي منفعة غير إمضاء الليل (لأنه آلي ولا ينام)، مثل أعمال النجارة. ومن ثم يكتشف الموسيقى الكلاسيكية ويسحر بها. وأخيرًا يبدأ بالقراءة دون انقطاع أثناء أوقات فراغه، ونراه يناقش مالكه في التاريخ والفنون والعلوم الإنسانية جمعاء. يقرر المالك أخذه للشركة المصنعة لينبههم إلى أن سلعته التي اشتراها قادرة على الإبداع، وعلى القيام بأمور لم تبرمج لفعلها، وأنها تبحث وتتعلم وتنتج دون أي أهداف سوى المعرفة ذاتها. فيجيبه صاحب الشركة بأنهم آسفون ويطلبون استرداده، ويعرض عليه استبداله بآلي جديد محسّن لن يشوه سمعة الشركة ويَشبُهها بوصمة الإبداع. إذ أن آخر المطلوب هو الإبداع. يجيبه صاحب الرجل الآلي بأنه لن يتخلى عن صديقه الآلي مقابل أي ثمن، وينصرف. في طريق العودة يسأله الصديق الآلي عن سبب رفضه تسليمه للمعمل، فيجيبه إن آخر شيء يتوجب قبض ثمنه هو التفرد. نعم، قيمتك تنبع من تفردك، من إمكاناتك ورقي تفكيرك، ولا تستمدها من مجرد الانتماء إلى مجموعة ما أو عرق أو ديانة. والمطلوب دومًا هو أن تتعلم وتفكر لتبدع، لتسقط عنك أردية القطيع-الجماعة، وتعيش حالتك الفردية. لا أحد منا، في هذا الزمان (وليس في كان يا ما كان)، يبدو مرتديًا شيئًا مختلفًا عن الأستار، ولا أقصد هنا أقنعتنا الاجتماعية بل الحالة العامة للقطيع-الجماعة. فمن يشذ يعاقب أو يعزل أو يكفّر. وهنا رأيت أن الإسلام البدئي الوليد لم يكن قط ديكتاتوريًا أو شوفينيًا بل كان ديمقراطيًا. كل ما طلبه كان أن تقرأ وتتعلم وتختلف، أن تحاول الفهم بعد المطالبة بالعلم والتجربة. واليوم، لا ترد أسماء أفراد أي قطيع وجد يومًا في التاريخ، بل نجد أسماء من خرجوا عن السرب. أسماء من عاشوا حالتهم الفردية وفهموا العالم كما رأوه وليس كما يفهمه القطيع. لربما لفظهم العالم، لكنهم كانوا بالتأكيد أحد النعال التي انتعلها القطيع ذاته ليجد كلأ أفضل، وماء أنقى، وبيئة أصلح. فاسأل نفسك مرة ثانية: بأي ثمن بخس بعت نفسك للجماعة-الشيطان؟ في السابع من نيسان الذي مر بنا أو مررنا به عام ألفين وسبعة * * * 2. الحضارة اليباب لا أدري لماذا توضع خبر عظيم الأهمية، شديد القوة، ورائد في معانيه، كأول خبر على لائحة عناوين نشرات الأخبار حول العالم، ومن ثم حولناه إلى خبر تافه ورميناه دون اكتراث كآخر نبأ على شريط أحمر صغير يمر باستمرار تحت مستوى نظر من ينظر إلى شاشة تلفازه. شريط يدور ويدور دون رحمة... حاملاً الغث والسمين، المبكي دائمًا لقراء العربية. هذا الخبر نفسه احتل العناوين الأولى، وتصدر صفحات الصحف، وكان حديث الناس في العالم. وقد تتساءل متشوقًا: ما عساه يكون؟ لقد كان نبأ الهبوط الناجح للمسبار الأمريكي على المريخ، وإرساله للصور الأولى التي تحمل معالم عالم آخر ينتظر. ينتظرنا كما يفعل الكون كله. لماذا يا ترى يبدو المكان المناسب لهذه الأخبار، عندنا، في آخر القائمة؟ ففي عالم متغير كالذي نعيش فيه لا يتوقف الإنسان الحاضر المنصت عن التساؤل حول كل ما لا يتوقف حوله. البشر والأشكال والأدوات والسياسيون وأسلحة دمارهم وكل ما يفضي لتغييب الإنسان وتنويمه بصلة. هل تساءل الإنسان يومًا لم لا تتغير الطبيعة حوله كما تتغير ذيول الإنسان؟ هل سيكون لأي خبر من كل تلك التي سبقت خبر المسبار المريخي أي أهمية بعد مئة عام؟ وإذا بقي برنامج (حدث في مثل هذا اليوم) حيًا لمائة أو مائتي أخرى، فهل سيقولون فيه: أدى فلان اليمين الدستورية ليصبح رئيسًا لدولة عربية بائسة ما، أم سيقولون هبط المسبار الفلاني في مثل هذا اليوم؟ ما يثير عجبي هو أن الناس حولي لا يرون، بأي طريقة من الطرق، أنهم يعيشون حالة من التخلف الفكري أو القصور الذهني. فهم دائموا التفكير بعدم قدرتهم على فعل كذا، والحصول على ذلك، والذهاب إلى هناك، وقضاء الصيف في بقعة ما، أو إرضاء زوجة أو زوج، أو أي أحد آخر. يفكرون دومًا بعدم القدرة. ولا ينظرون أبدًا إلى العالم من حولهم، من النافذة الأخرى في الغرفة. الاحتمال الآخر النبش داخل النفس، البحث عن المكان الذي ضيعناه أثناء اعتمادنا قرونًا على قدوم الشخصيات الأسطورية. حضارة بائسة هذه التي نعيش فيها وليست بالمتخلفة. فالمتخلف كائن يعيش في عصر بائد، لكنا لسنا كذلك أبدًا... نحن نقف خارج خط سير الزمان-الحلبة، نراقب عن بعد منتظرين عنترة وصلاح ليقفزا من فوق السور وينقذا الحشد... ولعلنا لا ننتظر شيئًا آخر غير يوم القيامة. فكلما تعجبت من أمر ما بصوت عالٍ هزّوا رؤوسهم مؤكدين: (إنها علامات يوم القيامة). نقف خارج الخط الزمني، ومع ذلك نبلى. لا يمر علينا الوقت، ومع ذلك نشيخ. تفشل أمامنا نظريات النسبية وتقف مذهولة... إلى أي كون تنتمي تلك الجماعة الكالحة الألوان؟ لم نستطع اقناع أنفسنا بقيام دول عربية ديمقراطية، ولم نستفد قط من أي شيء يجمعنا لأننا ما زلنا ننظر إلى الماضي ونطالبه بأن يعود للحياة. كاليهود الذين انتظروا المسيح وعندما أتى أنكروه. سننكر من سيأتي إن أتى. وسنمد أيدينا بين الحين والآخر لِنَمُصَّ عصارة فكر الشعوب الحية آخذين عنهم بعض اختراعاتهم متباهين بتملكنا لأشياء نحملها لنريها لآخرين. حتى اليوم يحلم كل منا باقتناء سيارة خاصة بعد أن أكل الدهر وشرب على ذلك العصر، ودخلنا في طور إنهاء كوكبنا الرائع الذي نعيش عليه ناخرين عظامه كالديدان التي لا تشبع، منفجرين أعدادًا مؤلفة كل لحظة، ندور وندور حول أنفسنا كدواب عمياء تشم ولا تسمع. ما الذي يفرقنا عن الدواب؟ أشكالنا البشرية؟ ذلك القميص الذي ترتديه الروح لتمر بين بوابتي الحياة والموت؟ ما الذي يميزنا عن الدواب؟ إنه العقل. الفكر، المنارة المشعة التي تولد محملة بكل أمل ممكن بهذا الكون ليصبح هذا الكائن شيئًا عظيمًا. هل ما زال هناك أي اعتراض على أن ما نعيشه هو رحلة في أرض يباب؟ لننظر حولنا، داخلنا، في شريط أخبارنا ونقارنه... أين نحن من الإنسان ... وأين الإنسان منا؟ *** *** ***
|
|
|