|
في إشكالية المنهج: تحديث أم تأسيس؟
-1- الفلسفة أولاً أريد، من موقعي الشخصي[1]، إبداء بعض الملاحظات المتصلة بالفكر العربي المعاصر والوعي العربي العام، وطرح خيارات عليهما، أراها ضرورية وأولية. بادئ ذي بدء، اعترف بأن شعار "تحديث الفكر العربي" يتركني على عطشي، والذي لا يرضيني في هذه الصيغة هو أولاً كلمة "تحديث". صحيح أن هذه الكلمة لها مبرراتها، فالفكر العربي بهمومه وطموحاته ومسائله، يبدو في معظم الأحيان قديمًا مفوَّتًا. قلَّما يتناول مسائل العصر، قلّما يستفيد من العلوم الإنسانية الحديثة، قلّما يصل إلى إنشاء لوحة العالم العربي الراهن. بالمقارنة مع حالته قبل ربع قرن أو نصف قرن، كثيرًا ما يبدو منتكِسًا. من هنا دعوات التحديث، اللحاق بالعالم المتقدم وعلومه المتقدمة، العقلنة، التثوير... يمكن أيضًا أن نضيف: أوروبا انتقلت، منذ فترة غير قصيرة، إلى العصر الحديث، نحن مازلنا في العصور الوسطى. أوروبا فرزت، في المجموع الثقافي، العقلانية العلمية والتقنية، أنمت الفكر النظري العلمي إلخ، بينما هذا كله لا يزال عندنا، بقدر ما هو موجود (وهو موجود دومًا)، غارقًا في الثقافة الرحبة الواسعة الشاملة للفن والسحر والأسطورة والعواطف والخيال، إلخ، في وحدة لا تنفك. وهناك، عدا ذلك أو من جهة أخرى، في أوروبا، أصوات تمتدحنا نحن الشرقيين على هذه الوحدة. الأمر الذي قد يغريني، كرد فعل على هذا المديح، بقبول شعار "التحديث" كشعار أول وأخير! لكن ألم يكن التحديث هاجس الأجيال السابقة؟ ومع ذلك، وأيًّا كانت مآثر الفكر الليبرالي والماركسي والقومي والإسلامي الحديث، فلا نبالغ كثيرًا إذا قلنا أن الأمور انتهت إلى فشل. والإسلامي الحديث استوُعِب كعنصر في مجموع ديني- سياسي له أوجه أخرى[2]. لعل المطلوب ليس التحديث بل التأسيس. لعل النقص ليس نقص الحداثة بل نقص الأساس. هذا اعتقادي. الحداثة تابع. في صيغة "تحديث الفكر العربي" ليس فقط كلمة "تحديث" بل أيضًا كلمة "فكر" نفسها يجب أن تكون موضع سؤال. ما الفكر؟ لهذه الكلمة أكثر من معنى، لحقيقتها أكثر من مستوى ولفكرتها أكثر من اتجاه. فأي فكر نقصد؟ هناك أولاً المقولة الكبرى الأكثر أساسية: الفكر pense، الروح esprit، الوجدان والوعي conscience، التي تقابله- في المنطق- مقولة الكائن، الواقع، الطبيعة (بما فيها المجتمع). هذا المعنى يشمل الصورة التي في رأس النجار وترشد عمله، ويشمل الفكر النظري المفهومي (فلسفة، علم وعلوم)، ويشمل كل أشكال تملك الإنسان للعالم، عالمه؛ يشمل الحلم والخيال والشعور والعاطفة، الدين والفنون والآداب. هذا الفكر كله يجب أن يكون موضع سؤال. الروح العربية تحتاج إلى انقلاب. الحلم يحتاج إلى انقلاب. فهو حلم موضوعه وغرضه الماضي! حلم وغرضه الماضي؟ هذه مفارقة فاضحة. فالحلم المفيد، حلم الشغيل مثلاً، غرضه المستقبل: صنع هذه الطاولة، تنشئة الأولاد، وعالم أفضل. أما الحلم المسقط على ماضٍ فهو بالأصح منام ورؤية منامية. أنتقل إلى مستوى ثان: الفكر بحصر المعنى، الفكر الناظر النظري. هل الفكر العربي فكر؟ لعله اليوم شيء أقل من الفكر، أدنى منه في المرتبة... لعله، في معظمه، "فقه": فقه قومي، فقه ماركسي، فقه هذا العلم أو ذاك، فقه ثوري، فقه ديني ولغوي وثقافي- حضاري،..."مسيس" دومًا. وليس عندي قضية أرفعها على الفقه. قضيتي هي ضد الفقه الذي يتصور أنه هو الفكر، أولاً وأخيرًا. أدعو "فقهًا" الفكر الذي قوامه "مبادئ وتطبيقات"، "أصول وفروع"... مثلاً: "المادية الجدلية" في عرض ستالين ومقلديه... أما الفكر الحقيقي فيبدأ من الصفر. ركيزته "الصحيفة البيضاء" ، الـ"أنا أشك، أنا أفكر"، "الرأس"[3] ومقابله العالم، مبدأ التجرد الذي يؤسس طريق التجريد، هذا التجريد الواعي أنه تجريد وحيد ومفهوم. هذا الصفر ركيزة كل الفتوحات، آينشتاين والسومري مخترع الدولاب، آدم سميث وهيغل وماركس، فيثاغورث والخوارزمي وباسكال، هيراكليتس وأفلاطون، أرسطو وابن رشد وابن خلدون، كوبرنيك وفييت ونيوتن، فلاسفة عصر الأنوار و"الفلسفة الكلاسيكية الألمانية". إن "التحديث" كلمة تحمل إيحاء مناوئًا للفلسفة، أقصد للفلسفة بالمعنى الكبير. للفلسفة الكلاسيكية، القديمة والحديثة، لصالح أزمنة أحدث. فالأزمنة الأوروبية الأخيرة تعلن (أعلنت مرارًا) نهاية الفلسفة. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، إن الفلسفة لم تشغل بتاتًا مدارس الفكر العربي المذكور أعلاه، بعضها (الفكر الإسلامي) رفض المضمون والكلمة[4]. وبعضها الآخر (الفكر الماركسي قبل الكلمة وأحبها ورفض المضمون: الفلسفة التي قدمها تحت اسم "المادية الجدلية" ليست فلسفة. في أحسن حال، إنها تصور للعالم، علم وجود، لكنها ليست: علم منطق، نظرية معرفة.) ولنذكر أيضًا أن الانتقال، في بعض البلدان العربية، من برامج التعليم الفرنسية إلى برامج التعليم الوطنية، حمل معه تقليصًا أو إلغاءًا لمادة الفلسفة في الصف الثانوي الأخير: بقي (وقلص) علم النفس وعلم المنطق (بمعنى "طرائق العلوم") وعلم الأخلاق (ثم صار علم الاجتماع)، وحذفت الفلسفة العامة أو "الميتافيزيقا": إنها نافلة أو هي هرطقة! تجاه الدين أو تجاه العلم والعلوم والتقدم، لا فرق في ذلك: "الأطراف" تتلاقى على نتيجة واحدة: "الإيجابية". هذه الكلمة الأخيرة تقودنا إلى "المناخ". المناخ الذي عاش ويعيش فيه الفكر العربي هو المذهب الإيجابي أو الوضعي positivism "الوضعوية"، مذهب أوغست كونت وآخرين، لنقل: هو المناخ الوضعوي والعلموي scientism. حسب أوغست كونت: ينتقل الفكر البشري وتنتقل البشرية من الحالة اللاهوتية إلى الحالة الميتافيزيائية التي هي تطوير للحالة السابقة وأخيرًا بعد طول عناء تصل إلى الحالة الوضعية أو الإيجابية، تاركة ما لايقع فيه ولا جدوى منه ولا طائل تحته. إلى هذا المذهب الفلسفي الوضعي أضاف كونت دينًا وضعيًا إيجابيًا هو "دين البشرية" مع كنيسة وطقوس وإكليروس يرأسه بابا (هو أوغست كونت)، دينًا بلا لاهوت، أو نوعًا من "كاثوليكية" بدون "المسيحية"، كما يقول أحد المفكرين! على أي حال، المذهب الديني سقط، المذهب "الفلسفي" بقي، والمذاهب التالية تمده، تواصل المناخ. الفلسفة الحقيقية ملغاة. أوغست كونت يكره "المجردات" ويؤيد "الايجابية"، يرفع لواء "النظام والتقدم"[5]. أوروبا المتقدمة، أوروبا الصناعة والتقنيات والعلوم، بهرت أنظار رجال عصر النهضة العرب. هذا بوجه عام، وسواء أرادوا الحديث وحده أو الحديث مع القديم، سواء أرادوا العلم الأوروبي خالصًا أو أرادوه مع "التراث". قلما عادوا إلى ما قبل أوروبا القرن التاسع عشر، قلما تساءلوا عن أساسات هذا التقدم. ركضوا إلى "النتائج". هذه النتائج ليس فيها فلسفة. الفلسفة، الميتافيزياء، اللاهوت إلخ، هذا من الماضي الذي خلفته أوروبا وراءها. وعلى العرب أن ينتقلوا بدورهم إلى الإيجابية. الجناح الإسلامي في النهضة يضيف أو يبرز أن الإسلام دين الإيجابية والواقعية والعقل: هذه خصوصية الجناح المذكور في إطار فكر النهضة مأخوذًا كمجموع عريض. وبعض الإسلاميين الحديثين (وغيرهم، وليسوا بالضرورة مسلمين) يشددون على هذا الموقف في معارضة أو مقابلة يقيمونها بين الدينين: الإسلام، بخلاف المسيحية أو بعكسها، دين واقعي إيجابي يؤيد العقل والعلم. وإذا كانت الشعوب المسيحية هي التي تقدمت وهي المتقدمة والشعوب الإسلامية في تأخر وجهل، فلأن المسيحيين خالفوا دينهم والمسلمين خالفوا دينهم. كان يمكن أن يقولوا بموجب مسألتهم وبدفع منطقهم إلى نهايته: المسيحيون هم المسلمون والمسلمون هم المسيحيون.. هذا المنطق باطل، الخطأ خطأ المنطلق. لقد استسهلوا الكلمات: واقع، عقل، إيجابية، علم، دين، دنيا ..إلخ. لكن مآثرهم كبيرة. لقد طرحوا السؤال: لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟ وأيدوا العقل. واليوم كما بالأمس، الفلسفة مطرودة من الفكر والوعي عند أنصار "الدين والعلم" وعند أنصار "المعرفة العلمية" سواء بسواء. الفكر الماركسي العالمي، الذي لم يدخل الساحة العربية إلا في وقت متأخر، مأخوذ هو نفسه، إلى هذه الدرجة أو تلك، بالمناخ المذكور. هذا الفكر الماركسي يحمل مشروعًا آخر، غير التقدم البرجوازي، وغير محاكاة الغرب، (هو مشروع الثورة الاشتراكية العالمية). ومع ذلك، ورغم النسب الهيغلي المعلن وبضعة أمور أخرى، فهو تحت تأثير الجو. بين هذه الماركسية الذاهبة إلى أمام وبين الخط الذي دشنه أوغست كونت تعاطف ماهوي: ضد اللاهوت والحالة اللاهوتية، ضد "الميتافيزياء" أو "المثالية"، مع العلوم والتقدم. الماركسية هي "النظرية العلمية" و"الفلسفة العلمية": حاكمة على العلوم؟ تابعة للعلوم وملحقة بها؟ وهذه الفلسفة العلمية التي تذيع شهرتها تحت اسم "المادية الجدلية والمادية التاريخية"، تستغني، في كتاب ستالين (وهو الكتاب الأكثر شهرة في كل تراث وتاريخ الفكر الماركسي)، عن كلمة "مفهوم" concept، وعن تأكيدات لينين "المادة مفهوم" و"المادة مفهوم فلسفي". ستالين يتعامل مع المقولات الكبرى - طبيعة، روح، مادة، وعي، تاريخ، مجتمع - كأنها أصناف وحسب، كأنها أشياء كبيرة ونتاجات كبيرة لأشياء كبيرة، أو كأنها كلمات معلومة وبديهية! حين أحذف "المفهوم"، حين أتعامل مع الكلمات كأنها أشياء، أو كأنها كلمات لكن بدون الإشارة إلى أنها أولاً كلمات، فإن الذي أحذفه هو الفكر. أحذف الفكر كمبدأ لعملية المعرفة التي هي معرفة الواقع، أحذف الفكر العارف الناظر، أحذف الطريق، الطريقة، الوساطة، وبالضبط، والقول بأن الفكر مبدأ هو هو المثالية idealism. بمعنى ما، هذا صحيح: لغويًا، المثالية هي الفكرية والفكرانية والمُثُلية. والماركسيون يحجمون عن الانتقال إلى هذا "العنصر" يبقون مع وفي "عنصر" الوجود. وهذا تعزيز رفيع للحن شرقي وشرقاني قديم يتلقفه الغرب الحديث أيضًا: الوجودية ضد الفكرية، الـ"أنا موجود" ضد الـ"أنا أفكر". في الماركسية المذكورة، الأونطولوجيا (نظرية الوجود أو علم الوجود) أكلت الغنوزيولوجيا (نظرية المعرفة). بموجب هذا الشطط، نعرف أصل الفكر، ونؤكد دوره وأهميته، لا نعرف ماهو، لا نعرف طريقة (كيفية) ذهابه إلى الواقع. ستالين، في الكتاب الذي نحن بصدده، لم يعطنا بتاتًا طريقة فكر أو طريق معرفة، أعطانا - وتحت اسم "الطريقة" (الطريقة الجدلية)! - طريقة عمل الطبيعة، أي جزء من تصور الطبيعة ونظرية الوجود، ولسان حاله: هكذا تعمل الطبيعة وبالتالي هكذا يجب أن نفكر! أي أنه قلب العلاقة "طريقة نظر ونظرية" ملغيًا الطرف الأول. واليوم، في الوقت الذي يكثر فيه الحديث عن مناهج العلوم والميادين العلمية، يجب أولاً رفع لواء الطريقة أو الطريق (بصيغة الفرد). الفكر العارف أو الناظر طريق. بدءًا من أبسط فكر. أريد أن أرى هذا البيت، أن أراه جيدًا، كما هو، يجب أن أنظر إليه من هنا ومن هناك ومن هنالك، وهكذا دواليك، من زوايا كثيرة. المعرفة وجهة ووجهات، حيثية وحيثيات، حدّ وحدّات، تجريدات تركز على مبدأ النظر، على الفكر كمبدأ. المعرفة ليست أكلاً وشربًا وتمثلاً للمأكول في جسم الآكل. المعرفة توسط، الفكر طريق، الذكاء التواء detour ضد المباشر والمباشرية. في عملية المعرفة، لا أحد قاعد في الواقع، كل يذهب إليه، ولا أحد يذهب إليه حرًا فارغًا، كل يذهب إليه بكلماته. فليحذرها، فليحذر "أصنام اللغة". -2- هل الفكر عربي؟ "عربي" كلمة، في "تحديث الفكر العربي" يجب أن لا تتضخم؟ أن لا تتحول إلى إله-صنم في الوعي الصاحي. إن هذا الوصف "عربي" يعني أن الفكر الذي نحن معه أو ضده فكر بشر عرب ومفكرين عرب. كل "تضمين" إضافي يكون مصادرة في غير محلها. بطبيعة الحال، إن كونهم عربًا يفترض ويتضمن: هموم عربية، أداة تعبير عربية.. الخ. لكن هنا أيضًا يجب الحذر من التصنيم: فالهم العربي هم بشري، واللغة العربية لغة، والفكر فكر، ... الخ، هذا أولاً. وثانيًا، يجب الصراع والتسويغ و"إقامة الحد". "الفكر العربي" الذي نحن بصدده ليس "عربيًا" إلا بمعنى محدد ومحدود. الليبرالي، القومي، الماركسي، الإسلامي الحديث والإسلامي الأخير، هذا كله فكر بشري وعالمي. إنه ينتمي للإنسان ككلي مجرد وكعالم أمم. الليبرالي والقومي والماركسي أوروبي المصدر وكذلك - جزئيًا - الإسلامي الحديث. بل والإسلامي كله هو، في جوهره ذاته، عربي وغير عربي. ولا يمكن فهمه ولا تصور وجوده، كمضامين واتجاهات وشعارات، بدون العالم وبدون أوروبا. ويمكن أن نقول عن معظمه أنه لا يعترف بـ"العربية" كقومية. إن "عالمية" الفكر الإسلامي (بل - بمعان محددة - عدم عروبته) تدفعنا بعد التذكير بأن العرب قطعة من المعمورة الإسلامية (فالعرب خمس المسلمين في العالم)، إلى إبراز جانب آخر يمكن أن أدعوه "الإحداثية الزمنية التاريخية". في إطار التاريخ الإسلامي وتاريخ العالم، "العرب" حقبة: العصور (ق7 - ق15). بالمقابل، الأزمنة الحديثة هي حقبة الإمبراطورية العثمانية وفارس الصفوية وكبار مغول الهند، حقبة أوج إسلامي سياسي "حضاري"، والعرب خارجها، فالعرب جزء من الإمبراطورية الأولى، تابع. في تاريخ الفكر الإسلامي، تنتهي الفلسفة العربية الإسلامية مع ابن رشد وتشريقة "شرقنة" محي الدين بن العربي. وتبدأ حقبة جديدة في تاريخ الفلسفة الإسلامية، العرب خارجها. بالطبع، هذه الأحكام الآنفة هي "قَطْعات"، أشكال كبرى، عملية قبض على خطوط عريضة، لا أكثر، وهي ليست صحيحة إلا في سياق المقابلة (المعارضة opposition) المحددة والواجبة. كثير من رجال النهضة العرب وعوا "الفرق"، كما وعاه أيضًا كثير من أوروبي النهضة والأزمنة الحديثة المعاصرة، وكما وعاه وأبرزه أخيرًا أنصار أوروبيون للفلسفة الإسلامية غير العربية (مثلاً هنري كوربان ، تاريخ الفلسفة الإسلامية). ويجدر بنا أن نعيه. الفلسفة الإسلامية العربية شيء والفلسفة الإسلامية التالية (أو بالأصح المرافقة والتالية) شيء آخر. وبعد "إقامة الحد" على المصطلحات، لابد من القول: إن "الإسلامية العربية" هي الأقرب وبكثير للموقف النظري الذي يجب أن يدعى "المفهومية والتاريخية". لقد توقف نمو الفلسفة العربية الإسلامية في وقت مبكر، قبل النهضة (الميلاد الجديد) في الغرب. على هذه الفلسفة عاش هذا الغرب (الغزالي، ابن سينا، أخيرًا: ابن رشد) قبل "العودة" والبدء الجديد (ق15 - ق16). إلى أين وصلت الفلسفة الإسلامية العربية (ابن رشد، وابن خلدون: فكر الاجتماع الإنساني، فكرة العمران،... الخ)؟ وقبل ذلك، ما هي "الأفلاطونية المحدثة"؟ ما "طبيعة" هذه الفلسفة المشرقية المسيحية، ثم الإسلامية؟ تلك أسئلة حيوية لن أتعامل معها هنا[6]. المهم أن عرب سنة 1900، فيما عدا استثناءات قليلة، ليس تحتهم قاعدة فلسفية. والاستثناء لا يتخطى، كفلسفة، فكرة "تصور العالم أو الوجود". مسألة المعرفة، الفكر كفكر، غير مطروحة (في هذه الحيثية الحادة في تجريدها، يبدو "الشكل الديكارتي" عند طه حسين نقطة ذروة، مقطوعة وميتة). والتطورات التالية (لا سيما الفكر الماركسي) لن تساعد على طرحها. يجب أن نميز في "الفكر" جانبين أحدهما "الإيديولوجيا" والآخر الطريقة، المنطق، الخ، سواء كان هذا الجانب الأخير مصرحًا به أو ضمنيًا وغير معترف به كجانب مستقل، ومعين ومقرر في كل فكر و"أفكار". هذا الجانب الثاني (في اعتقادي إنه أول!) لا صلة له بالقومية ولا "حتى" بالطبقية. ويجب أن يكون في السؤال والنقد، قبل أي شيء! أما الجانب الأول - أفكار، أيديولوجيات - فمواصلاتها مع العالم غير العربي معروفة إلى حد لا بأس به. في المجموع، ما يجب أن يوضع في السؤال ليس الفكر العربي أساسًا. بل شيء "أكبر" وبمعنين: أشمل لأنه "أبدأ"، أعمق، أكثر أساسية، منطقًا وأيديولوجيات. والقضية هنا ليست محصورة في المعنى العام والمتساوي الذي نستطيع بموجبه أن نؤكد لا قومية الفكر عن كل فكر لأمة في عالم الأمم، بل هي تتعدى هذا المعنى العام إلى تأكيد عدم التساوي. لا يمكن أن نقول عن فكرنا النموذجي إنه عربي بالمعنى الذي نقول فيه عن فكر ديكارت إنه فكر فرنسي، وعن فكر كنط وفيشته وشيلنغ وهيغل إنه الفلسفة الكلاسيكية الألمانية وعن فكر آدم سميث وريكاردو إنه علم الاقتصاد السياسي الكلاسيكي الإنكليزي وعن الفيزيوقراطية إنها الفيزيوقراطية الفرنسية. في اختصار، لا يمكن أن نقول إنه عربي بالمعنى الذي نقول فيه عن ذلك الفكر العالمي واللاقومي والكوسموبوليتي إنه: ألماني، فرنسي، إنكليزي. ويمكن أن نعقد المعارضة نفسها بين فكرنا الحالي وفكر أسلافنا قبل عشرة قرون. حين تكون هوية لا تكون عقدة هوية. والتمهيد الفكري للوحدة الألمانية كان البعث الروحي والفكري العام (فلسفة، موسيقى، آداب، علوم...) الذي غمر أمة متأخرة ومجزأة وكوَّنها كشعب- ذات. أن يكون شعب مبتليًا بالهوية عقدة فهذا يفهم، يعلل، يبرز. أما أن يركب مفكرون على هذه الحالة فهذا سقوط الذات، إنسانًا وأمة على حد سواء. الفكر العربي ليس الفكر العربي. المثقف العربي المعاصر لم يكتشف الذرة، الفكر العربي لم يفتح شيئًا، وهو لن يفتح إلا إذا توفرت له شروط وأسباب، أولها، في صعيده الخاص، الإيمان بذاته كفكر، وإلغاء التضمينات الملتبسة (القومية والدينية واللغوية للصفة: "العربي"). الفكر العربي ليس الفكر العربي. المطلوب أن يعي هذه الحقيقة. عندئذ، يمكن أن يكون فكرًا عربيًا فاتحًا. يمكن أن يرشد العمل العربي، أن يسهم إسهامًا أوليًا في تكون وعي عربي وذات عربية. أعود إذًا إلى "التحديث". تحديث؟ من أجل ماذا؟ من أجل أي عمل وأي مشروع؟ لقد وصلت البشرية الآن، في هذه اللحظة المنطقية والتاريخية، إلى أكبر مفترق في تاريخها الطويل. وصلت إلى نهاية. إما أن تكون نهاية تقدم وثورة تأسيس لتقدم آخر وإما أن تكون نهاية النوع. هذه القضية تخصنا بالتمام؟ الأسلحة النووية، تلوث البيئة، نفاد ثروات باطن الأرض، التصحر والتصلع، استمرار أو اتساع الفقر والجوع، عودة أمراض وظهور أمراض، التفجر الديموغرافي، أزمة العالم الثالث وسقوط مذهبيته الثورية، عودة الأزمة في الغرب، توسع الهوة شمال/جنوب، أزمة الاشتراكية كعالم أمم وكنظام اجتماعي، ... الخ، هذا كله ليس بعيدًا عنا ولسنا بعيدين عنه. وأزمتنا العربية ليست من "مادة" أخرى أو "جوهر" آخر. وما نحتاج إليه، أي الضرورة والضرورات التي يجب أن توعى، أكبر وأعمق من أن تؤخذ بمصطلح "التحديث". فكرة التحديث جانب مهم جدًا وحيوي وملح لكنه لا يستنفد القضية ولا هو أساسها. كلمة " تحديث" تحمل إيحاء برجوازيًا. هذا المدلول ليس الشيطان وهذه الفكرة أفضل من فكرة التمغرب westernization. التحديث ضروري. "البرجوازي" كصفة لمجتمع ولثقافة وحضارة متقدم على ما قبله في البسط التاريخي للإنسان. و"الشرقي" يقع قبله ودونه، بل دونه بكثير في بعض الحيثيات الهامة. لكن ثمة فرق كبير بين "برجوازي" و"برجوازي"، بين أوروبا وأوروبا، ثمة فرق بين التأسيس والصعود إلى المجتمع الحديث وهذا الذي بهر أنظار أسلافنا القريبين ويبهر أبصار الكثيرين منا. ثمة فرق بين أوروبا المجاهدة وأوروبا المجتهدة. ثمة فرق بين فكر يرفع لواء الكليات-المجردات (إنسان، عمل، مجتمع مدني، أمن، حرية ومساواة وإخاء، ملكية، طبيعة وحق طبيعي، وطن ومواطن، شعب، أمة، دولة، الخ) وفكر "تجاوزها" أو تخلى عنها. الإيجابي الذي حققته أوروبا يجب أن نحققه. وإلا فنحن عائدون، في عصر متقدم، إلى حالة سابقة: مادة لتاريخ عالمي نحن خارجه، موضوع لمصير إنساني لسنا فيه كذات. وهذا الإيجابي الأوروبي المطلوب تحقيقه يتخطى التقنية والصناعة والعلوم. إنه أولاً معقولية فكر ومعقولية واقع واجتماع بشري. والعمل التاريخي العربي الواجب والممكن يتخطى هذا الإيجابي الأوروبي، إيجابًا ونفيًا. إذا كان علينا (وعلى شعوب عديدة أكبر منا أحيانًا وأعرق) أن نحقق هذا "الشيء" الأوروبي، فلأن الأوروبي هو مرحلة في بسط الإنسان كمنطق وكتاريخ، وبالتالي لأن "الإنسان" كمفهوم كلي ليس مستنفدًا في المكانية الامتدادية. "الأوروبي" مرحلة في التاريخ كمتقدم وكدراما. بذوره، عناصره، موجودة "في كل مكان". والاستعمار نفسه، ومع التأكيد الأشد على أن الاستعمار الأوربي الحديث مع جرائمه الكبرى والمشهورة (إبادات ... الخ) ظاهرة جديدة وخطيرة في تاريخ العالم، ليس جوهرًا أو ماهية محصورة في علاقة أوروبا مع العوالم الأخرى. لغة وفكرًا وواقعًا، الاستعمار هو استعمار الأرض والبشر. والتاريخ كله استعمار. فالتاريخ تاريخ البشر في الدنيا، ليس تاريخ الملائكة ورؤسائها والهيمنات السماوية في الملأ الأعلى. الفكر الأوروبي الكبير هو الذي أبرز وأسس فلسفيًا فكرة التاريخ وعلم التاريخ، الفكرة التي لها خلفيات وركائز لاهوتية بينة في "دين الإله الواحد": العَلْيَنَة transcendantalisation (الله فوق، الله هو الصمد) أساس الترخنة historisation والعلمنة laicization, secularization: الدنيا دنيا؛ لها تاريخ، إمكانية تحسن؛ العالم عالم، التاريخ تقدم ودراما ومأساة[7]. إذا كان الفكر الأوروبي الأساسي قد بلغ ذروتين (النهضة، وعصر الأنوار ... الخ) فإن هاتين الذروتين هما ذروتان في حيثية الكلي universal، على وجه التحديد. والتاريخ، كفكرة فلسفية وكمفهوم صحيح، ليس مستنفدًا في مسار خطي، كأنه طريق رحلة مدرسية من مدينة إلى مدينة أو كأنه مشوار لثوار. التاريخ يفترض ويتضمن عودات. إن بذور المجتمع المدن civil society - مثلاً - موجودة وفاعلة في أحقاب سابقة، في عوالم مختلفة: يمكن أن أنظرها في أوغاريت أو في دمشق الأمويين. ولعل فكرة "العمران" الخلدونية أكثر أساسية من مفاهيم أو حكايات ظهرت في أوروبا القرن التاسع عشر. لا تقليد ولا محاكاة. بل منطق واقع وتاريخ، عمل بشري وخيارات. نعم للتحديث، نعم لهذا الذي يسميه التراث الماركسي "المهام البرجوازية" التي يجب أن تفهم بمعنى "المجتمع الإنساني". نعم للتحديث، كجزء عضوي في عمل تاريخي يتخطى فكرة "المجتمع المدني" إلى فكرة "المجتمع الإنساني". والفكر من أجل هذا العمل. فكر في المبادئ والأساسيات للأزمة الأكبر والمنعطف الأكبر في تاريخنا وتاريخ النوع. المبادئ والأوليات هي التي يجب أن تكون موضوع النظر والمناظرة بين المثقفين العرب. في اعتقادي، يجب على الوعي العربي أن يحقق عددًا من الانتقالات أولها الانتقال من الرمزية والشيئية إلى المفهومية والواقعية. -3- الكلمات ليست أشياء الفكر يستخدم الكلمات. الكلمات ليست أشياء. الكلمات تسميات. بعضها تسميات لأشياء. بعضها تسميات لعلاقات، لعمليات، ... الخ. هذا التقسيم - أشياء، علاقات، عمليات، ... الخ - الذي لا يتوخى الحصر ولا الدقة، ليس تقسيم على الصرف أو موروفولوجية اللغة العربية (أو الفرنسية وغيرها). مثلاً، الكلمات: في (حرف الجر)، و(حرف العطف)، القيمة (مقولة علم الاقتصاد)، الهوية، الفرق، التعارض، التناقض ... الخ تسميات لعلاقات. والكلمات: يطير، طيران، فكر، تفكير، ... الخ تسميات لعمليات وأفعال. علم الصرف يبدأ بتقسيم الكلام إلى ثلاثة: الفعل، الاسم، الحرف. هذه البداية تستلزم بداية قبلها، خارج علم الصرف، بداية تكون تعريفًا للكلمة ككلمة. يجب استرجاع كلية المبدأ: الكلمة، ضد تصنم ثلاثة أنواع وضد سلطان المدونة القواعدية اللغوية على الفكر والروح. الكلمات كلمات، هذا أولاً وقبل أي شيء آخر. "كلمة" العربية تحيلنا على الفعل كلم = جرح، و"اسم" تحلينا، من جهة، على: سمة، إذن صفة، حد، تحديد، تعيين، جانب، كيف من كيفات؛ ويمكن أن تحيلنا، من جهة أخرى، على: سما، يسمو، سماء، وعلى قول هيراكليتس "الأسماء قوانين الطبيعة". الأسماء "قوانين" وليست أشياء. ثمة علاقة بين لوغوس logos ولغة. ثمة علاقة بين النطق والمنطق. الإنسان حيوان ناطق، هذا يجب أن يعني: المنطق، الفكر، القدرة على اكتشاف معقولية الدنيا. بالحد الذي "هو" أيضًا المفهوم. يمكن أن يبقى الفكر البشري في مستوى الشيء والكلمة. أمامي أشياء-أغراض objects وألصق عليها ذهنيًا اتيكيتات كتب عليها أسماءها: طاولة، كرسي، أيضًا كرسي، جدار، نافذة، ممحاة، مصباح كهربائي، قمر، ... الخ. وربما: طبقة، أمة، طبيعة، قيمة، مادة!!؟ لكن، إذا ما بدأت عملية الفكر الناظر، فإنني أقول لنفسي: "طاولة"؟ هذه صفة لهذه الطاولة الكائنة أمامي ولكل الطاولات المختلفات، في البيت والعالم، في الحاضر والماضي والمستقبل، واللواتي هن طاولات كتابة وطاولات طعام .. الخ ولهن دائمًا وبالضرورة صفات كثيرة كثيرة إضافة إلى صفتهن كطاولة. "طاولة" هي صفتهن العامة المشتركة. "طاولة" هي كلي universal. وهذه الطاولة الكائنة أمامي هي كل من كليات، هي حاصل جمع لصفات (=عموميات، كليات) لا حصر لعددهن. فهي طاولة وهي حمراء وهي قديمة وهي مستطيلة وفي طرفها مسمار ناتئ وهي خشبية ... الخ. بل "هذه الطاولة" أو "هذا الشيء" أيًّا كان (بحد ذاته وبدون التأشير بالإصبع) كلي. يمكن أن اقول"هذا" أو "هذا الشيء" عن أي شيء كان، بلا استثناء. وهكذا تنكشف الكلمة الأكثر خصوصية في ظاهرها وبموجب استعمالها عن كونها الكلمة الأكثر عمومية: كل شيء مادي أو فكري يمكن أن نقول عنه "هذا"، اسم الإشارة أو "ضمير الإشارة"؛ وكل إنسان يمكن أن يقول "أنا" (هيغل، لينين). "في اللغة لا يوجد سوى الكلي"، هذا ما يردده لينين في الدفاتر الفلسفية، وراء فويرباخ وهيغل ومدارس الفلسفة اليونانية. لكن، أليست الكلمة "طاولة" أكثر من صفة عادية لهذه الطاولة ولأخواتها الطاولات الكثيرات المختلفات؟ أليست تسمية (= تعيينا) للنوع أو الجنس أو الصنف أو... الجوهر، الماهية...؟ (ماهي؟ - طاولة!). نعم، نعم بالتأكيد، في الحالة العادية، في استعمالي اليومي. نعم، بموجب عملي واهتمامي ومصلحتي. لكن هذا أيضًا نسبي. يمكن أن تكون مصلحتي عند "طاولة الكتابة الصغيرة" لا "طاولة المطبخ" مثلاً. أما عالم الفيزياء، فالأرجح أنه - في عمله المعرفي كعالم فيزياء - لا يعترف بالجوهر طاولة، أو باب، أو كرسي. إنه يتعامل معهن جميعًا بوصفهم أجسامًا، كتلاً، ذرات، إلخ، كلمة جسم العلمية الفيزيائية هي تسمية لأجسام من "أنواع" مختلفة: الطاولة، القمر، جسم الإنسان، النفط، الغاز إلخ. "أنواع" مختلفة جدًا، لكن بينها هذا المشترك: جسم، كتلة، كتيلات molecules وذرات، جاذبية، حجم، امتداد، حرارة، إلخ. المشترك "كبير" ولائحته طويلة. هذه لائحة مفهومية مضبوطة. إنها، في علم الفيزياء، أي في معرفة المستوى الفيزيقي للواقع، علاقات مفاهيم. إن شيئًا من الأشياء لينتمي إلى ما لاحصر له من الأنواع والأصناف، في مستويات واتجاهات شتى: كل صفة من صفاته، كل كيف من كيفاته، كل حد من حداته، إنما يحدد (يعين، يقرر) نوعًا يشمل في مجموع أفراده الشيء الذي نحن بصدده. مثلاً، هذه "طاولة مستطية خشبية عتيقة": إنها تنتمي لنوع الطاولات، وتنتمي لصنف الأشياء الخشبية، وتنتمي لمجموعة الأغراض العتيقة البالية التي يجب أن أتخلص منها: هذا جوهرها أو جوهريها الآن بالنسبة لي ولحياتي. إذن: المنطق (بمعنى هيغل وأرسطو) "يقيم الحد" على فكرة النوع، الصنف، الجوهر، الخصوصي- النوعي. بتعبير آخر، إنه يعلن نسبيتها، ينسبها، أو ينسبنها. المنطق يخضع فكرة الجوهر لفكرة العلاقة أو النسبة... جوهر؟- نسبة إلى ماذا؟ في العلاقة مع ماذا؟ في حدود أية معقولية؟ ليس ثمة جوهر مطلق (ومع الإيحاء العربي للكلمة): كل جوهر مربوط، مقيد، معقول. كل كيف (صفة quality) يحدد نوعًا (كيف؟¬ صفة¬ نوع). حيث الفرنسيون يقولون "كمًا وكيفًا"، العرب أو الألمان يقولون: "كمًا ونوعًا". النوع تابع لكيف أي لصفة. اسم هذا الشيء إجابة على السؤال ما هو؟ لكن السؤال والجواب هما في الـ"كيف؟". كتاب الرياضيات الإبتدائي: في الصفحة الأولى من الكتاب، نجد عددًا من الأشكال الهندسية (مربعات، مستطيلات، مثلثات، دوائر) المختلفة الألوان. الطلب الأول: كوِّن مجموعة المربعات، الطلب الثاني: كوِّن مجموعة الأشكال الصفراء (دائرة، مربع، مثلثان). والكتاب لا يقول للتلاميذ: الشكل الهندسي جوهر، واللون عرض، الشكل الهندسي هو الأساسي واللون ثانوي. هذا الموقف تقدم جذري، يجب أن يستثمر، أن يدفع إلى الأمام. قبل 15 عامًا كان هناك إلحاح (عندنا وفي فرنسا سواء بسواء) في الاتجاه المعاكس: لا يجوز جمع قطتين وكلبين، لا يجوز جمع أشياء من أنواع مختلفة. - لم لا؟ أجمع قطتين وكلبين فيكون معي أربعة حيوانات بل أربعة "حيوانات أهلية لطيفة وألعب معها": هذا أيضًا نوعها وجوهرها. (الواقع ليس مستنفدًا في علم البيولوجيا أو سواه). الآن انقلب الموقف: حسب "الرياضيات الحديثة"، العدد خمسة أصبح بحكم التعريف "مميز" أو "رئيسي" مجموعة من خمسة رجال أو.. "مجموعة من رجلين ودراجة وسيارة وكنيسة". المجموعات حرة! هذا ما تقوله "الرياضيات الحديثة" التي لها على الأقل هذه المزية: سقوط الجوهر، الماهية، النوع المطلق. لنعد إلى المنطق. أجمع 3 كراسٍ، 4 رجال، 3 حيوانات، أحصل على عشرة أجسام. لكن أجمع أيضًا وقبل ذلك: العدد، القيمة، المادة، كرسي، عفريت، فاحصل على خمس كلمات، هذا أولاً، هي خمس فكرات. هذا ثانيًا، وأتساءل عن كيانها خارج الرأس، هذا ثالثًا. بتعبير آخر، قصدت ما يلي: يجب على الفكر العارف (الفكر في المعرفة أو مسيرة معرفة) أن يعي، قبل كل شيء وفوق كل شيء، أنه يستخدم كلمات، وأن يحذر كلماته، أن يحذر ما يسميه فرانسيس بيكون "أصنام اللغة" الكلمات ليست أشياء- أصنامًا- آلهة. كل الكلمات هي كلمات. هذه حقيقة توتولوجية، إنها صفر. لكن الفكر يسقط إذا لم يبدأ بهذا الصفر. المادة كلمة. كذلك الطبيعة، الواقع، الحزب، الفكر، العقل، الشيء، المجتمع، التاريخ، العمل، الوجود، العدم، العالم.. كلها كلمات. وهي كلمات صعبة. حصان، طاولة، بيت، كرسي.. كلمات سهلة. مع ذلك، إن الفلسفة، أي إفلاطون ولينين، "تبدأ" بهذه الكلمات غير السهلة! الفلسفة تعلن أن هذه الأسماء العادية هي كليات universalities. والفلسفة الأوروبية الوسطوية (ق 13) تدخل في "مشاجرة الكليات"، إحدى أعظم لحظات الفكر البشري وتاريخه. "الواقعيون" realists (أنصار أفلاطون) يقولون إن "الكليات" هي الواقع أو الواقع الحق. "الاسمانيون" nominalists يقولون إن "الكليات" ماهي إلا أسماء: الكائنات الحقيقية هي الأحصنة أمامنا. هناك أيضًا "المفهوميون" في الوسط. في نظرهم، الكليات أكثر من أسماء يمكن القول إن هذا الموقف الأخير هو الصواب. لكن المهم، الأجدى، هو الطرفان النقيضان، اللذان دفعا المسألة إلى الحدين الطرفين الأخيرين بعيدًا عن كل انتقائية وتوفيقية واختلاط. ومن أفلاطون عبر حلقات وسيطة متنوعة (ديكارت، العقلانية) إلى هيغل: هذا خط في تاريخ الفلسفة. إنه خط "المثالية الموضوعية" التي تصير عند هيغل "المثالية المطلقة" (و"الفكرة المطلقة" مسلمة المنطق). المفهوميون يمكن أن نضعهم على خط يبدأ مع ارسطو ويصل إلى؟... إلى ماركس؟ - لنقل: إلى "الجميع"! لكن المهم هو الخروج من الاختلاط ودفع الأمور إلى نهاياتها، إدراك صواب الطرفين النقضين. الاسمانيون هم ماديو العصر الوسيط. وقد لعب أشهرهم دورًا فكريًا وسياسيًا ثوريًا ومقاتلاً. من الاسمانية (العصر الوسيط) إلى التجريبية (العصر الحديث: جون لوك ، ق 17): هذا خط ثان. ومن لوك إلى بركلي Berkeley هذا ما لاحظه لينين في المادية والتجريبية النقدية، حيث قال: "من لوك يمكن الذهاب إلى ديدرو (المادية) أو إلى الأسقف بركلي (المثالية الذاتية، مذهب اللامادية أو اللامادة)". لكن لينين لم يتعامل مع "الاسمانية" و"الواقعية"، مشاجرة الكليات، قضية القرن الثالث عشر. بركلي ينتسب إلى الاسمانية، عن طريق التجربية (لوك)، بل ومباشرة بدون هذه الوساطة. بركلي، المثالي الذاتي، يقف على خط الاسمانية المادية! "بالمقابل"، لنذكر أن مدرسة مهمة في الرياضيات المعاصرة تسمي نفسها اليوم المدرسة "الواقعية الجديدة"، واقعية أفلاطون والقرن الثالث عشر. تسمية ضاربة، استفزازية. فالأرجح أن أحدًا من هؤلاء لا يعتقد أن هذه الطاولة المحسوسة غير واقعية وغير حقيقية، إنما يؤكدون "رياضية الواقع وواقعية الرياضي". ومن المؤكد أن كل العلم، وكل الفكر، الذي يستحق أن يسمى فكرًا، يؤمن بـ"مفهومية الواقع وواقعية المفهوم"، أو - بمفردات أفلاطون - يؤمن بـ"مُثُلية الواقع وواقعية المثل"، على هذا النحو أو ذاك. هكذا الفلاسفة والعلماء (بل لنقل هكذا البشر المنتمون لمفهومهم ونوعهم: "الإنسان العاقل"، "الإنسان الصانع العاقل"). والخلاف بينهم قائم على قضية "هذا النحو أو ذاك". ثمة واقع وراء المباشر. يجب رد الاعتبار لأفلاطون "مخترع" المُثُل، مدشن الفلسفة المفهومية، طارد الشعراء من المدينة مكللين بالزهور... ليس فقط الكنعاني الذي "اخترع الذرة" (الذرة/الفراغ) أو ذلك الذي اخترع اللغة ثانية أو ثالثة (الكتابة الأبجدية: إلغاء الصورة أو المعنى، الانتقال من الكتابة التصويرية إلى الكتابة الصوتية) واليوناني الذي أكمل الشوط بفصله الوحدة الصوتية إلى صائتة وساكنة لا "وجود" لأي منهما، وليس فقط السومري الذي اخترع الدولاب "معلنًا" مبدأ وحدة الدائرة والخط المستقيم (الدولاب يدور، العربة أو السيارة تتقدم)، هذا المبدأ الذي سوف يعلنه نظريًا نقولا دوكوزا وجوردانو برونو في مطلع الأزمنة الحديثة، إلخ إلخ.. بل أيضًا وأولاً أولئك الذين "صنعوا" الثورة النيوليتية وعمروا القرى وأقاموا أسسًا نهائية للحضارة. هؤلاء كأنهم قالوا لأنفسهم ذات يوم - يوم يمتد من الألف العاشر إلى الألف السادس قبل الميلاد -: منفعة؟ ثمة منفعة ومنفعة، مباشرة وبعيدة، ونمسك بالبعيدة. واقع؟ ثمة واقع مباشر و"واقع-وراء" هو مفتاح المباشر. هؤلاء انتقلوا تحت حكم ضرورات آنية متفرقة، من القطف إلى الزرع ومن الصيد إلى الرعي، من الأخذ والإتلاف إلى المكاثرة، من كهف إلى "بيت" ووطن وعالم مؤنسن. هؤلاء جبروا وحسبوا وهندسوا، استوعوا وتوجدنوا. ونطقوا. يجب رد الاعتبار للإنسان الصانع والعاقل. قبل أي "حديث". -4- المفهوم ليس الرمز الكلمات تعبير عن فكر، مثل ideas، مفاهيم concepts، إنها ألفاظ، حدود terms. إنها "مفردات". المفردة اللغوية ليست كائنًا مفردًا بل "عكسه" إنها تعبر عن كلي، عن عام. المفردة لغة كلية كائنًا- هذا ما قلناه. الكلمة تعبير عن فكرة ومعنى. بما أنها ليست شيئًا كائنًا مفردًا، لذا لها أكثر من معنى، من اتجاه، من قصد. المعنى المحدد محكوم بعلاقة الكلمة مع كلمات ولنقل مع مقابلات أو معارضات. المعنى المحدد يحدده سياق محدد، وهذا السياق لا يستنفد اتجاهات الكلمة التي يمكن أن تتخذ معنى مغايرًا في سياق مغاير. هكذا بشكل خاص الكلمات الكبرى، الفلسفية-الشعبية، من نوع: شيء، عمل، واقع، فكر، وجود، مادة، مجال، قيمة، طبقة، شعب، ضرورة، جوهر، طبيعة، شكل، روح، عقل، حقيقة، إلخ.. ثمة فرق بين لغة ولغة. هذا واضح، فيما يخص الكلمات الآنفة. مع ذلك، فالقضية التي أكدنا ونؤكد عليها ليست قضية ألسنية (بين الألسن-اللغات) بل هي أولاً قضية لغوية-فلسفية: علاقة اللغة والفكر والواقع؛ اللغة كوسيط بين الفكر والواقع. مقولتي المعرفة الأوليين؛ واللغة بوصفها "مادة بناء الفكر" و"واقعه المباشر" أو حقيقته المباشرة والمحسوسة، كما يقول ماركس. "لا فكر بدون لغة". يمكن استنادًا إلى هذه الأطروحة المادية أن أرفض دراسة الفكر كفكر وإقامة فكرة المنطق. هذا الرفض يمكن أن يتخذ ثلاثة أشكال: الشكل الأول "ماركسي": حقيقة أن "لا فكر بلا لغة" يمكن أن تعزز الاتجاهات ضد الفكرية، ضد "المثالية"، ضد التأمل النظري أو المضاربة النظرية speculation الهيغلية. الشكل الثاني "عربي": في التاريخ العربي، وقف صاحب النحو ورد على صاحب المنطق: المنطق (ارسطو) هو علم نحو اللغة اليونانية ونحن لنا لغتنا وعلم نحوها! في هذا الكلام صواب صغير وباطل كبير، باطل جذري: رفض الفكر كفكر بذريعة ارتباطه باللغة. العرب كان عندهم لغة أدبية قومية، أنشاوا علومها، ربما أعظم بناء من نوعه في تاريخ الحضارات الكبرى جميعًا. الغربيون كانوا في حالة مغايرة، بنوا فقهًا من نوع آخر، تفننوا في المنطق الشكلي، الارسطي السكولائكي، بنوا ما يمكن أن نسميه علم تفعيلات القياس الصحيح ضد القياس الفاسد. (قياس syllogism). قلنا "تفعيلات" على غرار تفعيلات العروض. مع فارق: ألفاظ تفعيلات القياس الصحيح أبعد أيضًا عن أي معنى، إنها ألفاظ بربرية وأعجمية تمامًا، والمجموع بلا وزن أو موسيقى أو طرب. لكن يبقى فعل Eter ذو المعنى وهو الرابطة في الحكم الارسطي المبني على هذا الفعل الهندوأوروبي مبدئيًا. وقديمًا قيل إن اللسان أحسن وأسوأ ما في الوجود. يمكن القول إن مذهب سحرية الكلام هو أقدم ضلال في سيرة بني آدم، وأثبت ضلال. وهو يتخذ أشكالاً مختلفة في تاريخ الشعوب. لا فكر بدون اللغة، ولا إنتاج ولا اجتماع بشري. إذن يعطى الكلام قيمة سحرية، تقدس اللغة، تؤقنم، تؤله: تعزل وتضخم. الشكل الثالث "عملي حديث": إحلال علاقة الدال والمدلول محل علاقة الفكر والواقع، الاستغناء عن نظرية المعرفة باسم الألسنية. هذه التضحية بالفلسفة لن تخدم عملية الخروج من "الرمزية والأشيائية" إلى "المفهومية والواقعية". هذا الخروج هو، في نظري، القضية الأكبر أمام الوعي العربي. الوطن ليس العلم و"أشياء". العلم رمز والأشياء يمكن أن تكون قبيحة. الحزب ليس لافتة وثوابت- جمادات. في الوعي الزائف، "المعنى الحقيقي" ينحط إلى "جامد ذات" و"المعنى المجازي" خيال وعسف. ضد هذه الحالة، أقول: إما الرمزية الشيئية وإما المفهومية الواقعية. "عنصران" elements بالمعنى الذي يقول فيه الفرنسيون أو غيرهم: الماء عنصر السمك، العنصر الذي يعيش فيه ومنه السمك. بالمعنى الذي يقول فيه هيغل: المطلق عنصر الفلسفة. بالمعنى الذي يقال فيه: في وقت من الأوقات، غيَّر الإغريق عنصرهم، انتقلوا من البر إلى البحر. علينا الآن مغادرة العنصر اليابس. المفهومية الواقعية هي التي تعطي الرموز والأشياء حقها. هي التي تصل إلى "طبيعة الأشياء" وهي التي تنصر "الأشياء" ضد "الكلمات". "شيء" من أصعب الكلمات. الفرنسيون يقولون chose، والإنكليز thing. العرب عندهم "شيء" و"أمر" الألمان عنهم Ding (معنى مادي أو صغير) وSache (الشيء-القضية، الحالة): في الحرب، الوسائل ليست أشياء، والحرب كلها شيء، شيء قضية، شيء عظيم. هكذا لغة كلاوسيفيش مترجمة إلى العربية. إذا قلت "طبيعة الأشياء" مفضلاً إياها على طبيعة الأمور فإن هذا التفضيل يمكن أن يكون من قبلي تأكيدًا على الموضوعية: الواقع كله خارج رأسي، "الأشياء" لها طبيعة ولها منطق ولها حياة. المنطق منطقها هي أولاً! وهو صلاحيتها الحقيقية! هنا تخطينا "الأغراض" (طاولة، كرسي) إلى المجتمع مثلاً! اللاتينة res (شيء) أعطت realite,reel das Reale إلخ (=الواقع). وأعطت من جهة أخرى res publica ¬ republique (الشيء العام، قضية الجمهور¬ الجمهورية). يمكن أن نكتب تاريخ الفكر كبسط لهذا اللحن ولهذه القضية: شيء؟ واقع؟ من بدايات الإنسان العاقل حتى نظرية النسبية: ذرات/فراغ؟ هذا خط. مادة /شكل؟ هذا خط ثانٍ. فيزياء، تاريخ، علم اقتصاد. "الواقع" كلمة، فكرة، مفهوم فلسفي. هذا المفهوم في الماركسية السائدة. ستالين قسم الواقع سلفًا في ذهنه إلى "طبيعة" و"مجتمع"، مقولتين- صنفين، بينهما علاقات واهية. نقل في الصفحة الأولى من كتابه نصًا مهمًا لماركس (المعارضة ماركس/هيغل) برزت فيه الكلمة "واقع" وفوتها. ضيع الهوية "واقع" والتقابل واقع/فكر أفكر/واقع. فالهوية "واقع" قائمة في هذا التقابل الذي ليس تقابل كرسي وطاولة في غرفة، بل تقابل مفهومين أوليين في المعرفة الواعية: الفكر المقصود هنا هو فكري أنا فيما إذا كنت قد حزمت أمري على عملية معرفة ومسار معرفة. وتجاهي، إن أفكار الناس وعواطفهم وأوهامهم تدخل جميعًا في "الواقع" القائم بتمامه خارج الرأس العارف أو المفكر. وإذا ما لجأت، في مسار المعرفة، إلى مخبر مادي كبير فهذا المخبر المادي الكبير إن هو مبدئيًا إلا امتداد للرأس ويقع تحت مقولة الفكر التي وردت في المبدأ: فكر/واقع. يمكن القول إن الواقع والطبيعة والكينونة مضحى بهن، كمفاهيم لكن ليس ككلمات، لصالح المادة، الرمز والعلم والعنوان، الأداة السحرية، المخدة التي يرتاح عليها الرأس. ضد أي "التباس" ودرءًا لأي تساؤل تعطى "إيضاحات" أو تأكيدات من نوع: "الكينونة المادية، الواقع المادي". هذا النغم يسلطن في العقل الماركسي العام الذي لا يرى أن "الواقع" و"الطبيعة" و"الكينونة" لها، في المعرفة ونظريتها، في الفلسفة الماركسية وفي اللسان الشعبي، وبصرف النظر عن أية تفاصيل، وظائف أخرى، ولا تستطيع "المادة" أن تنوب عنها في أي حال! وهذه الحال الماركسية العامة لا تساعد الفكر العربي والوعي العربي على الخروج من الرمزية الشيئية والانتقال إلى فكر الواقع. المفهوم ليس الرمز. في الوعي الصاحي، الرمز بديل يعي نفسه كبديل. في الوعي الزائف، الرمز بديل حاذف. كشرح للخيار: "شيئية ورمزية" أم "مفهومية وواقعية"؟، لابأس من مثال افتراضي استوحيه من درس حساب في الصف الأول الابتدائي. موضوع الدرس العدد أربعة (حسب البرامج القديمة). أنا معلم الصف. معي 4 بالونات، 4 برتقالات إلخ، وأقلام. اعرض "وسائل الإيضاح"، أشرح، أسال … أخيرًا، أكتب على السبورة 4، 4 صغيرة، كبيرة، بالأبيض، بالأصفر، بالأحمر. يبدأ الخطأ حين أعتقد (وقد أقول) إن 4 هذه هي المجرد وهي المفهوم. وإن التفاحات الأربع والبالونات الأربعة باطل أساسي في الوعي. "4" محسوسة تمامًا: نراها على السبورة، نستطيع أن نلمسها، أن نذوقها. في اختصار إنها رمز، رمز للمفهوم أربعة، رمز واصطلاح، إشارة متفق عليها. وهذا الرمز الاصطلاحي، بل التعسفي أو الاعتباطي، يمكن أن يكون 4، وهو كذلك في العالم بما فيه بلدان المغرب العربي[8]، وهو IV في الأرقام الرومانية، أو 4 ، وهو 4 في الكتابة الرياضية العشرية المعتمد على نظام المجموعات 100 ,101, 102, 103 إلخ. وهو يختلف بموجب اختلاف الأنظمة، مثلاً في نظام الترقيم الاثنيني (المعتمد على المجموعات 20, 21, 22, 23,، إلخ) يكون 100 (واحد وصفر وصفر) هذه الـ100 تكون هي المفهوم أربعة والحقيقة أربعة. وهذا النظام الاثنيني هو المعتمد اليوم في كل المعلوماتية الحديثة (يمكن القول إنه يجد تبريره "الفلسفي" في الثنائي: صواب/خطأ). فهو نظام حديث جدًا، لكنه أيضًا قديم وبدائي[9]! المفهوم أربعة لا يمكن أن يكون على السبورة. أين هو؟ إنه "في الرأس"، وكيانه خارج الرأس - في الواقع - لا ينحصر بتاتًا في أربعات الأشياء. فهو أيضًا كل علاقة رباعية "ممكنة" في الكون. الثلاثة مثلاً بنت علم المثلثات. بفضلها وفضله نعرف المسافات بين الكواكب... و"كل ما هو واقعي فهو عقلي، وكل ما هو عقلي فهو واقعي" (هيغل). إذا سألني التلاميذ (ربما في صف عال) أين المفهوم أربعة، أي الحقيقة والهوية أربعة؟ يجب كإجابة أن أؤشر إشارتين: الأولى إلى الرأس، والثانية إلى الخارج، لا على التعيين، في الهواء (إضافة إلى تأشيري على الأربع تفاحات). كذلك الحرارة، المفهوم العلمي، علم الفيزياء: أين الطاولة؟ أين النافذة؟- إشارة معينة نحو الشيء المادي... ثم: يدك حارة، كذلك يدي، ألمس البلاطة (أرض الغرفة: إنها باردة! هل لها حرارة- نعم!- أين الحرارة؟- إشارات إلى الخارج، "لا على التعيين" (في كل مكان، كل الأشياء). الحرارة حار وبارد. هكذا المفهوم العلمي. إنه يتخطى الفكرة "المباشرة". "الحرارة حار وبارد" كيف واحد، جوهر واحد، لا جوهر... إنه (ضد تفكير أوغست كونت) قابل للتقليص ، وهو يقلص ويقهر reduction، يحول إلى "شيء" آخر في المعرفة العلمية الفيزيائية (حركة، كتيلات، تكاتل...). مفهوم الحرارة غير فكرة أو مفهوم الطاولة. الكلمة العربية "مفهوم" مشتقة من الفهم الذي هو فهم الإنسان. هذا جيد شرط أن نؤكد قابلية الفهم: أنا أفهم لأن الواقع قابل لأن يفهم. بتعبير آخر، يجب التحذير من الإيحاء الذاتوي للكلمة، يجب الاعتراض على مثنوية لغوية فكرية شائعة تساوي بين المحسوس والموضوعي وتساوي بين المفهوم والذاتي. هذا الباطل "متضمن" في اللغة المتداولة، في التعليم المدرسي، و... يمكن أن يبرز فلسفيًا في كتاب مبادئ الماركسية اللينينية بواسطة جمل ملتبسة. مثلاً: "الفِكَر(ideas المثل)، المفاهيم، ليس لها وجود إلا في الفكر البشري". جملة ملتبسة ("وجود"؟؟)، أو في أحسن حال، كما سنرى، "كلمة حق أريد بها باطل"، حاصلها العام باطل كبير، سقوط الجدل! ونتابع القراءة: "المفاهيم concepts تعكس الخصائص والملامح العامة للعالم المادي". "المفاهيم"!، الكتاب استغنى الآن عن "ideas" ، فِكَر، مثل، اكتفى بكلمة "المفاهيم" فهو يحب "عملية المفهوم" ويحب المادية الفلسفية ويكره مُثُل أفلاطون. ونتابع القراءة: "هكذا مثلاً مفاهيم (هنا notions: مفاهيم، فكر، مصطلحات؟) الإنسان، المجتمع، الاشتراكية، الأمة، إلخ". نسي الحصان، البيت، الطاولة!؛ لينين 1914-1916. "المفاهيم تعكس الملامح العامة للعالم المادي". "تعكس" reflect: ما معنى تعكس/ انعكاس reflect؟ وأحد الأمثلة المذكورة هو "الاشتراكية"!! "الاشتراكية" تعكس؟ تعكس الخصائص أو الملامح العامة للواقع المادي، للمجتمع السوفييتي؟- الاشتراكية مفهوم موجود في رأس ماركس وغيره وملايين من البشر قبل الواقع المادي الاشتراكي بكثير! إذن: "تعكس" ملتبسة، وهي، في هذا العرض وفي كل هذا الكتاب، باطلة. الفكر الذي هو انعكاس ومحض انعكاس ليس الفكر. الفكر انعكاس-استباق anticipation. هكذا الفكر البشري كله، بدءًا من الصورة التي في رأس النجار والتي ترشد عمله وينفذها خارج رأسه فيجعلها واقعًا ماديًا، وصولاً إلى الاشتراكية، النظرية الكبيرة جدًا. فكرة الاستباق صريحة في مفهوم الشغل عند ماركس، وكلمة "استباق" واردة مرارًا في نصوص ماركس، والفكرة مؤكد عليها عند لينين مع إنماءات شتى لكن الماركسية المكرسة تترك الفكرة والكلمة anticipation لـ برغسون و"الطاقة الروحية" مثلاً. والمثقف العربي المحب للاستباق يركض إليهما: برغسون والطاقة الروحية. الكتاب هو كتاب مبادئ الماركسية اللينينية، كتاب ضخم، تأليف عشرة من المفكرين السوفييت، بإشراف القيادة والرفيق كوزينن، الفصل الأول، الفقرة 6، خصوم المادية الفلسفية، المقطع: "المثالية الموضوعية"، ص 30-31 (موسكو، طبعة فرنسية، 1964)... في اختصار، "المثالية الموضوعية" حماقة كبيرة، تفاهة! "المفاهيم تعكس الخصائص والسمات العامة للعالم المادي": هذا "عقل سليم"، وهو استدراك لما سبق. المثل ليس لها وجود إلا في الفكر البشري، لكن: الواقع نفسه له سمات عامة. - هل له "شيء آخر" يفلت من أسر هذه "التلحيقة"؟ هل له خاص ليس عامًا؟ هل له مواد وجواهر؟ الماركسية السوفياتية تجيب: نعم، على سؤال لا تطرحه. هكذا "العقل السليم". الجدل: عقل وحسب؛ وعند اللزوم وبشكل مبدئي، العقل ضد "العقل السليم". المفهوم فكرة، مثال idea، من "الطاولة" وصولاً إلى "المادة"، "القيمة"، "الاشتراكية". هل المفهوم صورة؟ المفهوم صورة من نوع خاص. في الوعي العربي تضافرت الماركسية والتراث والعقل السليم على البقاء عند "الصورة". فكرة المفهوم تتلازم مع فكرة الشكل form، المتقدمة تجريديًا على فكرة الصورة. وترتبط بفكرة الحد اليونانية (والعربية أيضًا): حد، تحديد، نهاية، ... وبفكرة القطع. فكرة الشكل الفلسفية تتضمن فكرة القطع والقطعية والفعلية. (بالفرنسية: ordre formel تعني "أمر قطعي" وليس "أمر شكلي"). فكرة الشكل، في الاستعمال اللغوي، مزدوجة ازدواجًا جيدًا إذا وعيناه: قضية شكلية، قضية لا شكل لها. وهذا الازدواج قائم مبدئيًا في العربية والفرنسية إلخ، رغم الاختلافات العديدة. في الماركسية السائدة، الزوج أو الثنائي "مضمون-شكل" ألغى الثنائي "مادة-شكل". في الزوج الأول تخفيض للشكل لصالح المضمون أو المحتوى، ويصير هذا الزوج كأنه الجوهر والسطح، أو الجوهرة والقشرة. نبقى إذن في الوجودية المحسوسية. بالضبط، ليس الزوج الأرسطي هكذا بتاتًا: لا موجود ولا واقع بلا مادة، لكن المادة بلا شكل سديم وخواء، المادة بلا الشكل عدم، العدم. كلمة شكل مصطلح لم يضبط في واقعنا اللغوي، فكرة الشكل form الخطيرة الأهمية متسيبة في الاستعمال ومع الاستعمال: "فنون تشكيلية" plastiqes، "تشكيل رياضي" composition إلخ. هذا لا يساعد في الاتجاه الضروري: الشكل-المفهوم-الحد، نبقى في الشكل الحسي، الصورة... بعض الماركسين يترجمون form "صورة" ويركبون على "التشكيل" أو "التشكيلة" formation الاقتصادية الاجتماعية بآن معًا! كتاب الرياضيات المدرسي قد يعرف المستطيل بأنه "شكل هندسي إلخ"، ثم يقول "انظر الشكل رقم 2". هذا تضييع للمفهوم، لفلفة للمفهومية. الشكل رقم 2 هو بالأصح صورة أو رسمة figure. "الشكل الهندسي" موضوع التعريف مثال idea لا يرى، كلية لا تقع تحت البصر، إنه مفهوم رياضي. هذه قضية أرسطو؟ أرسطو، هيغل، ماركس، العقلانية كلها؟ القضية تبدأ من أفلاطون. في مكان سابق من الكتاب السوفياتي المذكور آنفًا، عرف المؤلفون (في نصف سطر) مذهب أفلاطون بأنه مذهب "idees ou formes"، وعبروا، مروا مرور الكرام الماديين"الفلسفيين"! أهملوا "الترادف"! الكلمة اليونانية الشعبية ideos أو idos قريبة من قولنا الشعبي "كَسْم". والعبارة الفرنسية التي نقلناها عن الكتاب السوفياتي يمكن أن تترجم كما يلي: "فكر، مثُل- أو- صور، أشكال". والمسألة الفكرية النظرية هي هنا! إنها بمصطلحاتنا العربية عند هوية وفرق هذه الكلمات: صورة؟ شكل؟؟ فكرة؟ مثال؟ معنى... وأيضًا مَثْل أعلى؟ فالمسألة صورة أو شكلاً. وهكذا يصنع شيئًا، يخلق واقعًا جديدًا له معقولية مع جملة الواقع. الفكر انعكاس- استباق، لأن الإنسان يجرد مفهوميًا، أي يعمل (واعيًا أو غير واع ذلك) بالمفاهيم، الفكر، المثل، أي "بشيء ما" يتخطى المعنى المباشر لفكرة الصورة والإنعكاس. واللغة، جهاز الإشارة الثاني والخاص بالإنسان حسب بافلوف، لها هذا التخطي كوظيفة. العمل، الشغل، مثلاً عمل الحذاء، يتضمن الفكر (الصورة، التصور، التصميم) كتعيين لازم في كل عمل. هذا هو فرقه عن عمل العنكبوت أو النحلة، حسب ماركس[10]، الإنسان، قبل التنفيذ، يتصور، يصمم conception تعني "تصور بالمفاهيم". Form: شكل[11]؛ formation: تشكل، تشكيل (وتكون!)؛ information: إعلام (إعطاء الشكل؛ غير المشكول هو المعجم، غير المعرب)؛ transformation: تحول (الانتقال من حال إلى حال، تغير الشكل أو تجاوز الشكل السابق). والتاريخ تغير الأشكال، بل- حسب قول لماركس- "تنويعة على الأشكال"، variation sur les formes. إذا حللنا العالم إلى عناصر أخيرة، إلى مادة، يتساوى وينعدم. هذه ليست مسألة وجودية وأونطولوجية وجمالية، بل قضية معرفية. إذا ميزنا وراء إرنست بلوخ أو بوحي منه[12]، خطين كبيرين في تاريخ الفكر والعلم والعلوم، أحدهما خط الشكل (أرسطو: المادة/الشكل) والآخر خط الذرة (الذرات/فراغ)، أمكننا القول إن ماركس (رأس المال) على خط أرسطو. الخطان بعيدان عن المعنى الحالي لكلمات عربية محببة: جوهر، ماهية: مادة، روح. فكرة الصورة تقيم مادية نظرية المعرفة: وحدها فكرة الشكل تؤسس جدلية نظرية المعرفة. -5- الواقع ليس المادة الواقع والمادة، عدا عن كونهما كلمتين تتخذان شتى المعاني في الاستعمال اليومي[13]، مع اختلافات صغيرة أو كبيرة بين لغة وأخرى إلخ، هما مفهومان نظريان مختلفان، بل وفي اعتقادي متعارضان، وأريد إقامة معارضتهما وتسويغ جدوى هذه المعارضة وضرورتها النظرية والعملية. أترك تاريخ الفلسفة والمصطلحات: متى ظهرت هذه الكلمة وتلك، كيف تطورت هذه الفكرة وتلك. مبدئيًا، أترك أيضًا علم الفيزياء وإشكاليته العلمية والفلسفية في القرن العشرين. أكتفي هنا بالإشارة إلى أن غطس الفلسفة الماركسية "المادية" في هذا الموضوع كان باطلاً بالمعنيين: كغطس وكنتائج وأحكام. وبهذه المناسبة، لابد من نقل قول يستحق الشهرة: "المادة، كمادة، محض إبداع من الفكر وتجريد خالص". ليس قائل هذا القول هو الأسقف بركلي بل الرفيق أنجلز، في جدل الطبيعة. بحذف المواد، الاختلافات، الكيفات، يبقى المادة-الكم. هكذا مادية القرن الثامن عشر التي يمكن أن أدعوها "المادية الفيزيقية"، والتي هي، حسب أنجلز، انتكاس إلى مذهب المثالية الكمية الفيثاغوري. لنقل: "المادة" مفهوم، وكل مفهوم هو مدحلة تسوية، والمفهوم الكبير- المادة- مدحلة تسوية تامة. كذلك، من جهة أخرى، مفهوم القيمة، مفتاح الاقتصاد السياسي. القيمة علامة مساواة بين السلع الأشد اختلافًا. القيمة (القيمة التبادلية أو القيمة المحض) هي، مثلاً، إعلان أن "علب الدهان" وقصرًا جميلاً في شارع اكسفورد ستريت هما واحد (المثال من ماركس، في مقدمة نقد الاقتصاد السياسي). مساواتان مختلفتان: الأولى- المادة- لا يمكن أن تكون، في وعيٍ صاحٍ، أكثر من إعلان أولي لحقيقة أن العالم قائم خارج رأسنا وأن ادراكي المباشر له هو إدراكي له كأشياء كائنة، بدون مصادرات (مسلمات) إضافية، ضمنية، لا تسويغ لها. في الماركسية كما انحدرت: مسلَّمة المادية (مادية العالم) أكلت مسلَّمة المعقولية (معقولية العالم)؛ العالم أشياء ثم تربط: "قوانين". بعد هذا الاستطراد الطويل، الذي ليس محض استطراد كما سيرى القارئ، أدخل القضية: الواقع ليس المادة، مفهوم المادة، أيًّا كان محتواه، لا يمكن أن ينوب عن مفهوم الواقع، وكل معرفة الواقع تسقط إذا ما سمح لفكرة "المادة" أو ما شابهها بأن تبسط نفسها على فكرة "الواقع". الواقع كفكرة لا ينحل في الواقع الفيزيقي. المادة فيزيقية وفيزيائية. الواقع فكرة مجتمع وعالم وإنتاج وطبيعة وتاريخ. الإيضاح الذي أقدمه لا علاقة له بعلم الفيزياء، إنه مثال من التاريخ. القرن السادس عشر يشهد انقلابًا كبيرًا: النهضة، الطباعة، الاكتشافات الكبرى والاستعمار الأوروبي، الإصلاح البروتستانتي، كوبرنيك، وفيزال، توماس مور وتوماس منتسر، جوردانو برونو وياكوب بوهم، الأمم ولغاتها وآدابها ومصائرها، و... ثورة الأسعار. ثورة الأسعار، التضخم النقدي، تدفق المعدن الثمين (ذهب، فضة) على أوروبا والبحر المتوسط. "ناس" يثرون و"ناس" يفقرون... الإمبراطورية العثمانية قائمة فوق ثلاث قارات، اخترقت أوروبا إلى ما وراء الدانوب وإلى شمال البحر الأسود وإمبراطورية اسبانيا لا تغيب عنها الشمس. المصائر التالية للدول والأمم معروفة، "نسبيًا". أريد النظر في جانب من آلية صعود البعض وانحدار البعض. افترض، في سنة من سنوات ذلك العصر (ق 16)، رجلاً يعيش في مدريد أو لندن أو استامبول أو القاهرة، لا فرق، يملك كيلو غرام من الذهب. وبعد ربع قرن أصبح يملك خمسة كيلو غرامات. مالُه، مُلكُه زاد. لكن القدرة الشرائية لهذا الملك أو المال انخفضت (بسبب إنتاجية الذهب، بسبب وفرة الذهب والمعدن إلخ). إنه "خسر". هل هو يدرك أنه خسر؟ ربما الجواب: نعم ولا. ربما هناك اليوم من يقول إنه ربح. لكن القضية ليست هنا. ليست القضية ما يقال، أو "رأي" opinion، بل هي "الحقيقة" كما يقول الأقدمون! ما معنى"مال" و"ملك"؟ ما هذه "القدرة الشرائية"؟ هل هي قدرة سحرية موجودة في عمق مادة الذهب أو الفضة؟ يمكن أن نقول: إنها القيمة، قيمة الذهب المنتوج- السلعة (مصطلح ماركس وآدم سميث وربما أرسطو)، أي القيمة التبادلية. لكن، سواء على جسر مفهوم القيمة العلمي- الاقتصادي أو بدون هذا الجسر، فإن "القدرة الشرائية" لمال يملكه رجل أو شركة أو دولة تحيلنا على فكرة العلاقة: علاقة هذا المنتوج بكل المنتوجات في العالم الاقتصادي، علاقة التساوي الكلية- الكونية. المذهب المركانتلي هو بالأصل والأساس (ق 16) عبادة المعدن الثمين، العقيدة التي مفادها أن الثروة هي الذهب والفضة. الإسبان، الفرنسيون، الإنكليز هذه عقيدتهم. فيما بعد (قرن 17)، يطور هذا المذهب (على مذهب صناعة وتصدير، تجارة شركات مونوبول حكومي). وأخيرًا (ق 18) ينسف. تنسفه الفيزيوقراطية (حكم الطبيعة، العمل الزراعي، حرية العمل والتبادل)، ثم ينسفه نهائيًا آدم سميث (كلية العمل المجردة، العمل كمحض فاعلية ذاتية، العمل بدون موضوعاته المادية، إذن "العمل" من فوق أصناف العمل كموقع أول في الفكر العارف). ورغم أن المركانتلية المطورة (صناعة وتصدير وسياسة) استمرت طويلاً، فقد كان وزير الملك هنري الرابع (حوالي سنة 1600) قد أطلق شعارًا حفظه وأبرزه التاريخ المدرسي الفرنسي: "الفلح والرعي هما الثديان اللذان يطعمان فرنسا، هما مناجم ذهب البيرو الحقيقية". وقبل آدم سميث والفيزيوقراطين، صدرت مئات الكتب من نوع فوائد زراعة القمح (وماركس قرأها، بدأ بقراءتها في شبابه بعد دراسته الفلسفة، قبل التفكير بالثورة البروليتارية). العثمانيون (وكذلك الإسبان) كانوا بعيدين عن هكذا موقف. ولست في مقاضاة العثمانيين وتاريخنا والأجيال الماضية. بل المهم مقاضاة فهمنا الحاضر لتاريخنا الماضي. فهذا الفهم حاضر وراهن وفاعل، ولعله فلسفة عميقة في ضلالها. ما يجب أن يُدان أولاً ودائمًا، من فوق الحكام والشعوب وأحقاب التاريخ، هو: وثنية الروح، شيئية المعرفة، مركانتيلية الاجتماع. تجارة commerce؟ الكلمة لها معنيان اثنان ممكنان في الواقع والفكر والروح: أ- معنى عادي ركيك mercanti بيع وشراء ونهب تجاري، "ربا"، ب- معنى كبير: الـcommerce بين البشر هو التبادل بين البشر، التعامل، الاجتماع، الكينونة الاجتماعية. المجتمع عمل وتعامل. كذلك الأخلاق/ ضمير (وجدان)، عمل وتعامل، ميدان "العقل العملي" حسب الفيلسوف كانط. العثمانيون لم يكونوا ضد التجارة بالمعنى أ. كانوا بعيدين عنها بالمعنى ب. هذا المعنى الكبير يبرز في القرن الثامن عشر الأوروبي (مع مفهوم "المجتمع المدني"، مع الفصل مجتمع / دولة = كينونة البشر / الولاية على البشر)، ولكن بذرته موجودة في أحقاب سابقة، في أصقاع شتى وتحت سماوات شتى. بعد ذلك، أقول بمفردات "علم الاقتصاد": العثمانيون كانوا مع التجارة لكنهم كانول ضد "اقتصاد السوق"، ضد سلطان "القيمة". فكرة "المال" مزدوجة[14]، فكرة الملك أو الملكية كذلك. هذا الازدواج الثنائي ليس قائمًا في رأسي ورأسك فقط (حين نعيه!) بل في رأس العالم، في منطق الواقع. نعود إلى صاحبنا كانز ومُنَمّي الذهب في القرن السادس عشر. ثمة جهتان في ماله أو ملكه. الأولى مادة، كتلة، وزن، كم، صلابة، ثبات، عزل، مادة مادية جدًا: يمكن بسبيكة ذهبية قتل رجل بضربة واحدة. الثانية "شيء آخر": علاقة، معقولية، موصولية مع العالم، مع الإنتاج، مع جملة العمل والتعامل، كينونة حرة، صيرورة، واختفاء الذهب- المادة. في الأولى + (زيادة) في الثانية - (نقصان) أيهما الواقع؟ أين الفعلي؟ الواقعي، الحقيقي؟ إن "المعنى الحقيقي" في مثالنا الآنف ليس الـ"جامد الذات" ولا هو "المعنى المجازي". مذهب وجود الأشياء أو المادة، ومذهب وجودها والملائكة والشياطين، كلاهما يضيعان الواقع بتضييعهما المنطق. هذه قصة من القرن السادس عشر... يمكن أن تكون قصة اليوم؟ نمسك الطاولة ونقول "مادة"، نمسك البندقية ونقول "ثورة"، نعبد الذهب ونبلع النفط: "ثروة". في جهة المادة- الكتلة- الكم نحن شيء. وفي الجهة الثانية- شكل، عقل، روح،¬ واقع، راهن، ذاتية- نحن شيء آخر. فكرة المادة هي أيضًا فكرة الذرة والذرات والتذرر! *** *** *** مجلة الوحدة العدد 1، 1984. [1] موقعي الشخصي: الماركسية، الفكر العربي، وعملي كمدرس. أعتقد أن قضية التعليم بالغة الخطورة، وأعتبر نفسي مدينًا بالكثير الكثير لعملي في هذه المهنة، لاسيما كمدرس في دار المعلمين الابتدائية باللاذقية. [2] من الأفغاني ومحمد عبده إلى رشيد رضا إلى سيد قطب إلى الحاضر. رغم الاستثناءات، ورغم وجود خط بالعكس: قاسم أمين، على عبد الرزاق، طه حسين، خالد محمد خالد... [3] الرأس مقولة هامة (ماركس، هيغل، فوبرباخ). وليس المقصود الجمجمة، ولا الدماغ أو المخ المادي. بل المقصود الرأس/العالم (خارج الرأس). المقصود الفكر، أي الفكر الذي حزم أمره وقرر بدء مسيرة المعرفة: "الرأس" في عملية المعرفة هو الصفر حامل اللانهاية. [4] سيد قطب، في التصور الإسلامي، لا يذكر الفلسفة والفلاسفة إلا سلبيًا، ولا يستخدم الوصف "فلسفي" عن "التصور الإسلامي" حتى حين السياق يدفع تلقائيًا إلى استخدام هذا الوصف. [5] يكره المجردات، أي بالحقيقة يرفض الكليات الكبرى، ولا يعي فعليًا أن كل "الكلمات" هي مجردات، ولاسيما مفاهيم العلوم والقوانين العلمية. مثلاً، أوغست كونت يعلن "عدم" nullity جميع نظريات الضوء، ولاسيما نظرية نيوتن، يؤكد أن كل "هذه التصورات المناهضة للمعرفة العلمية عديمة جذريًا"... "رغم كل الافتراضات المتعسفة، إن الظاهرات الضوئية ستكون على الدوام صنفًا قائمًا بذاته، مقولة من جنس ذاتها sui generic ولا يمكن تقليص أو تحويل هذه المقولة إلى أية مقولة أخرى أو صنف آخر: إن ضوءًا (une lumiere، أو: إن الضوء؟ عمل بالمفاهيم أم لا) سيكون إلى الأبد غير مجانس heierogene لحركة أو لصوت". (كونت، دروس الفلسفة الوضعية أو الإيجابية، الدرس الثالث والثلاثون، ج2). [6] أين تقع الفلسفة العربية الإسلامية في إشكالية الصورة، الشكل، المفهوم؟ لعل هذا السؤال هو السؤال الأهم، السؤال المركزي. هنا مسألة الجدل لا مسألة "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية"، (كتاب حسين مرة...). في عصر النهضة (ق15- 16)، أوروبا تعود إلى أفلاطون، إلى بارمنيد الخ، من فوق الخلائط المتقدمة. [7] لو كانت أوروبا مسلمة (منذ القرن الثامن مثلاً) هل كان سيتغير المسار الأوروبي؟ أسرع؟ أبطأ؟ شكل آخر؟ لا يجوز تضخيم دور "الدين" في التاريخ، تفسير التاريخ بـ"المثالية الدينية"، تحويل الدين إلى سحر. الدين، كعامل في الدنيا، يؤخذ في مجموع جملة واقعية، يتحول إلى إيديولوجيا دينية وإيديولوجيات دينية مختلفة الاتجاهات. هذا أولاً. وثانيًا، إن الركائز اللاهوتية المسيحية التي أشرنا إليها في متن النص والتي انتقلت من الخلفية اللاهوتية إلى الصدارة الفلسفية، بجهد وصراع طويلين، موجودة في العقيدة الإسلامية، صريحة في القرآن والحديث. [8] ولا يزال المشرق يتحرى مسألة عروبة الـ4 علمًا بأنه وصل مرارًا إلى: نعم، بدون أن يتبناها... الأرقام التي يسميها العالم "عربية" (والتي هي على الأرجح هندية، عربية، أوروبية، وربما أولاً فيتنامية..) ضرورية للمشرق. النقطة للصفر: غير معقول! وذلك لأسباب مشهورة - وأيضًا لهذا السبب: يجب فصل الرمز والمفهوم، فصل "الرقم" و"العدد""، إبراز الصفر جيدًا، جعله كتابيًا بحجم الـ1،2،3،...9، فصل المصطلح الكتابي عن الحقيقة، علمًا بأن هذه الحقيقة (الصفر) ليست صغيرة أبدًا! [9] من المفيد في سبيل فكرتي المفهوم والرمز، وتعزيز فكرة المفهوم، إدخال دروس نظرية وتطبيقية عن أنظمة الترقيم. يجب أن يتعلم طلابنا أن الأربعة تكتب 4، 100، 11 بموجب نظام الكتابة المعتمد، أي أن الأربعة كمفهوم وكحقيقة ليست أيًّا من هذه "الصور".
[10]
رأس المال، الكتاب
الأول، ج1، الباب الثالث (إنتاج فضل- القيمة المطلق)، الفصل السابع، الفقرة
الأولى (إنتاج القيم الانتفاعية) ص 180- 181، إليكم هذا النص الذي يمكن
اعتباره "تعريف" ماركس للعمل- الشغل- الكدح
travail: [11] يجب التخلي عن ترجمتها بصورة، ويجب الانتقال من فكرة الصورة إلى فكرة الشكل. وإلا فإن كل الحب العربي لـ"المفهوم" يذهب هباء. [12] إرنست بلوخ، فلسفة عصر النهضة، دار الحقيقة. [13] أحد استعمالات كلمة "مادة" هو المادة بمعنى المال، العملة، النقد، الفلوس. هذا استعمال جيد، شرط أن يوعى. كلاهما- "المادة" و"المال"- تجريد، "تسوية" كبيرة، عادم للفروق، لا مبالية. كلاهما يجرد، كلاهما كم. وكلاهما يهيمن ويسلطن. من جهة ثانية، لنلاحظ أن القرابة كبيرة بين مادة، matiere وsubstance. [14] لا ننس في العربية: ماله¬ ماله. لكن القضية ليست، اساسًا، لغوية. المال كعدد، كم؛ والمال كمفهوم وعلاقة، كيف، كاثنية. هلى زاد ماله، هل نقص؟ الإجابة ليست تلقائية.
|
|
|