بـديـهـيـات

دارين أحمد

بديهي أننا كائنات حية، نأكل ونشرب وننام ونتعب الخ، نغضب ونفرح ونحقد ونحب الخ، نتكلم لغة ما ونفكر ونتقنع الخ. بديهي أن لدينا أصدقاء وخصوم، أشخاص قريبون وأشخاص بعيدون في المسافة والطباع. بديهي أننا نختلف ومع ذلك نحب أن نقول آرائنا في الأشياء التافهة أو العميقة. بديهي أن آرائنا آراء فقط وأننا لا نريد إدخالها عقل الآخر قسرًا. بديهي أن اختلافنا نعمة نمونا وأننا قد ننفعل إن عجزنا عن قول ما نريد. بديهي أن يكون هناك مختلفون لا يقبلون اختلافنا.

لنعد من جديد: بديهي أننا نأكل ونشرب وننام ونتعب ولكن بديهي أن نشك في كوننا كائنات حية، فالحي البشري أكثر من متعضية تمارس غرائزها الصغيرة ولذلك فهو يحتاج أكثر من سرير ومائدة. بديهي أننا نغضب ونفرح ونحقد ونحب، وبديهي أن نشك في كوننا نمارس انفعالاتنا لأننا منفعلون حقًا أو لأننا نقلد صورة نريد أن نكونها، لأننا فارغون من انفعال حقيقي ونريد أن نمتلئ بشيء يعيدنا إلى وجود نفقده. بديهي أننا نتكلم لغة ما ونتقنع ونفكر، وبديهي أن نشك في كوننا نستخدم عقلنا إذا كانت جهودنا تهدف فقط لوضع نقاط في نهاية الجمل ونهاية الفكرة، فالعقل ليس الأفكار التي ننجزها، على أهميتها في بعض الأحيان، بل هو استمرار دوران هذه الأفكار واستمرار استيلادها وموتها حين يجب أن تموت. بديهي أن لدينا أصدقاء وخصوم، وبديهي أن نشك في كوننا كائنات اجتماعية إذا كنا عاجزين عن إقامة علاقات سوية معهم. بديهي أننا نحب أن نقول آرائنا في الأشياء التافهة والعميقة وأن آرائنا آراء فقط، وبديهي أن نشك في كوننا مختلفين إذا كنا نتحدث كلٌّ من كهفه وإذا كنا نريد سماع أصداء أصواتنا فقط.

لنضف بديهيات أخرى: بديهي أننا لسنا ما نقول أو نفعل، في لحظة القول والفعل، فقط، وبديهي أننا ما نقول ونفعل - والاختلاف هو في كلمة فقط -، لأنه بديهي أننا نخطئ وأننا نتغير، وبديهي أننا نبقى أنفسنا ذاتها.

بديهي أن الإنسان في مجتمع-قفص هو إنسان-قفص، وبديهي أن يتحول إلى مستبد صغير لا يسمع إلا ما يريد أن يسمع، ولا يرى إلا ما يريد أن يرى، ولا يقرأ إلا ما يريد أن يقرأ. بديهي أن كلمة "يريد" هنا خطأ كبير، وأن الإرادة في مجتمع-قفص هي إرغام وعقاب، وأن الإنسان-القفص، المستبد الصغير، لا يريد أن يريد.

بديهي أن من لا يعرف القراءة والكتابة لا يمكنه قراءة أعمال الفلاسفة الكبار، وبديهي أن من يعرف القراءة والكتابة يمكنه احرق أعمال الفلاسفة الكبار في جهله.

بديهي أن التطور يسير إلى الأمام، وأنه لا يمكن قسر الزمن على المشي عكسًا، وبديهي أنه يمكن ذبح آلاف الضحايا المبتسمين والعابسين على شرف على هذا الوهم.

لنكمل مع بعض البديهيات العربية: بديهي أن العلمانية حاجة ملحة في مجتمعاتنا، وبديهي أنها لا تتعارض مع الدين من حيث هو علاقة الإنسان بربه.

بديهي أن الأصالة والحداثة والحضارة مفاهيم متلازمة، وأن الأصالة التي تعني التواصل مع الأصول تتناقض مع القدامة التي تعني اعلاء شأن هذه الأصول فوق التاريخ والواقع، والتثبت عند نقطة في الماضي على حساب الزمن وتغيراته.

بديهي أن الإلحاد حق طبيعي لكل فرد كما الإيمان حق طبيعي لكل فرد، وبديهي أن يدافع الطرفان عن حقهما في اختيار منظوماتهما الفكرية دون إهدار دماء.

بديهي أن التطرف لا دين له، وأن السياسة "السلطة" هي التي تستغل الدين وتسيره، وأن رجال الدين ونساءه لا يملكون وكالة حصرية للنطق باسم الله وتأويل آياته المكتوبة واللامكتوبة.

بديهي أن النساء والرجال متساوون، وأن للنساء ما للرجال من حقوق وواجبات، وبديهي أنه يمكن للتبجيل أن يحمل التحقير في طياته.

بديهي أن النساء والرجال متساوون، وأنه لا يحق لأحد الوصاية على أحد، وبديهي أن المغلفات بعبوديتهن سيدافعن عن "حقهن" في العبودية.

بديهي أن العقل ملكة إنسانية قابلة للصدأ، وبديهي أن يكون الصدأ معد.

بديهي أن العقلانية والتجاوز مفهومان متلازمان، فلا تجاوز بدون فهم، ولا عقلانية مع السكون.

بديهي أن القانون أعظم منجزات الإنسان، وبديهي أن يتحول إلى كلب مطيع للسلطة.

بديهي أن السلطة مسؤولية، وبديهي أن يُحاسب المسؤول عما يفعل بسلطته.

بديهي أن الخوف هو رأس المستبد، صغيرًا كان أم كبيرًا، وأن العطالة قلبه والأرض المحروقة مدينته.

بديهي أن الإنسان كائن ضاحك، وبديهي أن تخاف الأيديولوجيات الكائن الضاحك.

بديهي أن الخوف استعباد والضحك حرية، وبديهي أن يثور المقدس العابس في وجه ضحكة.

.....

قد قلتُ بعض البديهيات الأساسية والتي يمكن أن تضيفوا إليها ما ترونه مناسبًا لواقع الحال، هذا الواقع الذي يحدث في لحظات يائسة أن نراه وقد تجاوز كل البديهيات وانقلب إلى مسخ لا يمكن التنبوء ولا التفكر فيما سيؤول إليه، ولا كيف يمكن رفع جثته الضخمة عن كواهل الأفراد الحالمين بإحياءه.

أخيرًا، بديهي أن هذه آراءٌ، والآراءُ تختلفُ.

*** *** ***