|
الفلسفة في التحليل النفسي
مقدمة: التحليل النفسي بوصفه منهجية فلسفية إذا انطلقنا من التصور المألوف للفلسفة باعتبارها تساؤلاً عن الكينونة الأساسية للعالم فإن الإنسان يعتبر محورًا للتساؤل الفلسفي عبر العصور، لأن الإنسان كمحور للعالم هو المتسائل والمجيب بآن واحد. وهذه الجدلية بين السائل والمجيب تشكل امتدادًا موضوعيًا للجدلية التاريخية بين الإنسان والعالم الموضوعي. بدأت تلك الجدلية من انطلاق الإنسان من العالم لمعرفة نفسه، وبذلك الانطلاق البدئي وضع الخطوة الجبارة الأولى نحو المعرفة عن الذات في العالم من العالم، وبعد ذلك عاد الإنسان ليقلب ذلك التساؤل منطلقًا من الذات لمعرفة العالم. وهنا بدأت ثورة ثانية هي ثورة سقراطية منطلقة من ضرورة معرفة الإنسان لنفسه وعمادها معرفة العالم من خلال الذات. إذا كانت الثورة الأولى خلقت المعارف الطبيعية فإن الثانية خلقت ما يسمى بالعلوم الإنسانية التي محورها الإنسان في العالم، لهذا فإن تلك العلوم، ومن ضمنها علم النفس، لن تستطيع التخلي عن محورها الفلسفي المتسائل عن الذات في العالم، ومن هذا المنطلق فإن علم النفس كان وما يزال يدخل ضمن الإطار العام للفلسفة الباحثة عن كينونة الإنسان في العالم، حيث يؤكد العالم النفسي يونغ على هذا الترابط العضوي بين نمطي المعرفة النفسي والفلسفي قائلاً: أظن أنه يوجد من علوم النفس بقدر ما يوجد من الفلسفات، وذلك لأن بين علم النفس والفلسفة روابط لا انفكاك منها، على اعتبار أن كليهما يشكلان نظام رأي يبحث في موضوع لا يمكن اختباره تمامًا وبالتالي لا يمكن فهمه وفق منهج تجريبي بحت، وعلى ذلك فإن كلا الميدانين من الدروس يحفز على التفكير مما ينتج عنه تشكيل آراء تبلغ من الكثرة حدًا يتطلب معه جهود ضخمة لاستيعابها جميعًا، لهذا لا يمكن لأحدهما الاستغناء عن الآخر لأن كلاً منهما يمد الآخر بمسلماته الأولية الضمنية التي غالبًا ما تكون خافية[2]. من هذا المنطلق تكتسي الجذور الفلسفية لعلم النفس أهمية خاصة دون أن يعود ذلك لأسباب محض تاريخية، فإن بعض الاهتمامات الخلفية لعلم النفس فلسفي في طبيعته، بالمعنى الميتافيزيقي والدلالي معًا[3]. لهذا بالذات نجد أن التحليل النفسي اكتسى، منذ نشأته كتيار وصفي تفسيري للإنسان، طابعًا فلسفيًا اختلفت منهجياته قربًا أو بعدًا عن التصورات الميتافيزيقية حسب مدارسه المتنوعة وتفرعاتها الفكرية، وأحد مصادر حيوية التحليل النفسي تكمن في أنه شكل نوعًا من النظريات الشمولية، وإذا ما استخدمنا المصطلح الأرسطي نقول بأنها نظرية مفتاحية استطاعت أن تلج أبوابًا كثيرة، فلم تقتصر على دراسة الأحلام والغرائز والأمراض النفسية أو الانحرافات وحسب، وإنما دخلت أبواب الحضارة والدين والفن والاجتماع والميثولوجيات والتطور وحتى الميتافيزيقا[4]. لقد أعاد التحليل النفسي النظر في كثير من المعتقدات السائدة التي يعتمدها الإنسان منذ عهد الفلاسفة اليونان عندما درس السلوك دراسة وصفية ليس فقط من حيث الشرح الوضعي، وإنما من حيث المعنى أيضًا. وهذه القفزة كان من نتائجها، حسب الدكتور مصطفى زيور، أن الإنسان المعاصر لم يقتصر على إعادة النظر فيما كان مسلمًا به سابقًا، لكن تعدى ذلك إلى العمل الفكري في عقلانيته حسب المفهوم الديكارتي الذي اعتمد العقل كوسيلة وحيدة لاستكشاف الواقع. فالباحث أو العالم منذ أن عرف مكامن رغباته لم يعد يعتبر نفسه مستقلاً ومتحررًا من علمه أو اكتشافاته، فما يصدر عنه ليس إلا وليد الهوام الذي كان يرافقه طيلة حياته على غير علم منه كمادة مكبوتة وما إنتاجه إلا عودة للمكبوت[5]، لذلك لا يمكننا أن ننكر الانقلاب الفكري الكبير الذي رافق ظهور التحليل النفسي والذي طبع القرن العشرين بطابعه، إنه انقلاب ابستمولوجي جديد يدعو، صراحة، الإنسان إلى التحرر من القيود المكبوتة ليفتش عن حقيقته الكامنة وراء جموده واستسلامه. وهذا ما سنحاول دراسته من خلال الاطلاع على تصورات مؤسس مدرسة التحليل النفسي وأحد تلامذته المنشقين. أولاً: المنهجية الفلسفية في التحليل النفسي (نموذج فرويد) لا يمكننا إنكار أن اكتشافات فرويد الأساسية كانت تشكل نوعًا من الحدس الفني بأسلوب التأمل الفلسفي (لا سيما في كتاباته المتأخرة) مع الالتزام بقواعد البحث العلمي الدقيق والصارم أحيانًا. ولعل هذه المصادر الثلاثة لاكتشافاته تفسر لنا التناقض في ما وجِّه إليه من نقد. فقد اعتبر نقاده، من أهل العلم، أنه يميل إلى الاتجاه الروحاني في أبحاثه، في حين أن نقادًا آخرين أخذوا عليه اتجاهه المادي في أبحاثه النفسية حتى قالوا بأن النفس عنده أضحت شيئًا آليًا. إن الجدة الحقيقية للتصور الفرويدي لا تأتي من التصور الجنسي للعصاب حيث تحدّث فلاسفة سبقوه عن هذا الأصل بشكل غير مباشر، وإنما تكمن ثورته الفكرية بالكشف عن الدلالة، أي دلالة الظواهر النفسية التي اعتبرت دائمًا فاقدة للمعنى، ومن اكتشاف الحيل التي تحتجب وراءها تلك الدلالة، لذلك ليس من قبيل الصدفة أن يعتبر فرويد أفعالاً بسيطة كزلات القلم أو فلتات اللسان، وهي ظواهر اعتبرت دومًا لا دلالة لها، مدخلاً لدراسة الأعصبة. ومن تلك الفكرة التي اكتشفها أصبح الاهتمام منصبًا على كشف العلاقة الرمزية بين الدال والمدلول، حيث تتجلى المهمة الرئيسة لمنهجية التحليل النفسي الفرويدي من خلال الكشف عن تلك الدلالة من خلال البحث المعمق عن دلالات لا يفكر المرء قط بوجودها. إن محاولة فك رموز تلك اللغة الرمزية بين الدال والمدلول تشكل خصوصية المدرسة الفرويدية في التحليل النفسي، حيث تتحول الأفعال النفسية بكل مظاهرها إلى لغة ذات معنى، ويغدو الحلم والتعبير العصابي يتصفان بقدرة التعبير بطريقة مقنَّعة، وهذا بالضبط ما أكده لاكان من خلال إعادة قراءته لفرويد عندما اعتبر بأن كل نتاجات اللاوعي، بما فيها الحلم والعرض العصابي، لها دلالتها وبعدها الرمزي[6]. من خلال الكشف عن دلالة ومعنى السلوك حقق فرويد قفزة ابستمولوجية عن علم النفس الكلاسيكي القائم على أرضية ميتافيزيقية من فصل ديكارتي بين الجسمي والنفسي والبيولوجي والسيكولوجي، حيث أعاد فرويد دعائم الربط بين البيولوجي والنفسي بربطه بين العوارض البيولوجية والكوامن النفسية، فالهستريا، على سبيل المثال، لم تعد عبارة عن طقوس وحالات من السلوك السحري التي لا معنى لها، بل أصبحت حالة اختلال عضوي يستند إلى أرضية نفسية عميقة تعبر عن نفسها من خلال صراع داخلي بين مكونات الأنا الأعلى والهو. وبذلك استطاع فرويد اكتشاف لغة جديدة هي لغة اللاوعي، لغة الجسم في الهستريا، والصورة في الحلم، والأفكار في الوساوس. إنها لغة كان فرويد أول من حاول فك رموزها، وبتلك المحاولة لتوضيح العلاقة الرمزية بين الدال والمدلول استطاع فرويد تعميم فرضياته، وبدونها لبقي التحليل النفسي مجرد تقنية من تقنيات العلاج النفسي[7]، ومن تلك الأرضية قدم فرويد تصوراته الفلسفية فعبر عن مفهوم ثلاثي لتطور الحالة النفسية والفكرية للإنسان، تذكرنا بحالات كونت الوضعية الثلاثة للتاريخ، حيث تطور البشرية يبدأ عند فرويد من المرحلة الإحيائية التي تقابل النرجسية وهي مرحلة إسقاط الذات على العالم، ثم المرحلة الدينية وهي مرحلة موضعة العلاقات الاجتماعية حيث يتثبت الليبيدو على الأهل، والمرحلة الثالثة هي العلمية التي يتم بها التخلي عن اللذة والخضوع لمتطلبات الليبيدو حيث تظهر آليات الكبت الاجتماعي في الحضارة[8]. تقوم هذه المراحل على بنية سلَّم بها فرويد وبنى عليها نظريته هي مسلمة اللاشعور الذي أعطاه معنى واسع الدلالة، فاللاشعور عنده لم يعد كما في التصور القديم يعمل كيفما كان كمقابل للشعور وإنما يعمل ضمن إطار من القوانين ذات الدلالة والمعنى كالنقل والتكثيف والمجاز والاستعارة بحيث نجد تلك الأوليات الثابتة باستمرار[9]. وباكتشاف الحلم أصبح للتحليل النفسي معنى جديد قائم على أساس المنهج الوصفي حيث يغدو الحلم عند فرويد واقعة نفسية ينبغي تحديدها بشكل جديد وإعادة توضيح كيفية ارتباطها بالفرد، حيث تتحول الواقعة المادية إلى واقعة نفسية متصلة جدليًا بالفرد وليست منفصلة عنه. بذلك قدم التحليل النفسي الفرويدي تصورًا جديدًا للحوادث النفسية من خلال تأويلها وفهم معانيها، وهو ما يدعى بمنهج التأويل والتفسير الفرويدي، خلال حديثه عن الأحلام والعصاب. لذلك لا يمكننا أن ننظر للتحليل النفسي كتقنية علاجية قدمها فرويد بل ينبغي للمطلع أن يركز على البنية النظرية الكامنة خلف تقنيته. حيث يعطينا التحليل النفسي الفرويدي من خلال مفاهيمه النظرية الأسس التي ينبني عليها كل علم من حيث تحديد الماهية المجردة والصورية لموضوعه كشرط لإمكانية كل تطبيق عملي على الموضوعات العينية. إن تجريديات التحليل النفسي تشكل عند ألتوسير المفاهيم العلمية الأصلية لموضوعاتها، حيث تظهر النزعة العقلية الفرويدية القائلة بأسبقية التصور العقلي على الفعل (الإسقاط - العصاب)[10]. لذلك يمكننا التأكيد على النزعة العقلانية في تحليلية فرويد التي طبعت معظم دراساته بما فيها الفن، حيث يؤكد بأن وراء الأعمال الفنية تنوعات لاستيهام كلي، أي أن وراء الفروق تشابه بنيوي يتمثل في مبدأ معقولية تلك الأعمال، فهناك مبدأ شمولي حتمي عقلاني تخضع له سلوكيات البشر بما فيها النماذج الإبداعية عبر التاريخ، حيث يقارن فرويد بين أوديب الملك لسوفكليس وهاملت لشكسبير والأخوة كارامازوف لدستيوفسكي، مؤكدًا أنه ليس من قبيل المصادفة أن تعالج هذه الروايات الثلاث في ثلاثة عصور موضوعًا واحدًا هو جريمة قتل الأب وأن تكون الدافعية لجريمة القتل لدى المؤلفين الثلاثة قائمة على الأمر ذاته هو المنافسة الجنسية على امرأة[11]، حيث تشكل عقدة أوديب النواة الأصيلة لكل ثقافة وفن وأخلاق؛ ومن تلك المنطلقات العقلانية الشمولية تبنى فرويد التصور الحتمي في تحليله للنفس الإنسانية. والمصادرة الأساسية للطريقة الفرويدية تتضمن بأن لكل شيء دلالة تعود لقوانين كلية هي اللاشعور، وبالتالي لا يوجد سلوك أو فكر أو تصور بلا معنى، وبذلك نقل فرويد الحتمية الفيزيائية المادية ممثلة بنيوتن ثم آينشتاين إلى الميدان السيكولوجي. فالسلوك يخضع لقانون اللاشعور وبالتالي يمكن التنبؤ بسلوك الإنسان إنطلاقًا من معرفة دلالات اللاشعور التي يسير بمقتضاها، محاولاً من خلال فرضيته في اللاشعور أن يلغي التناقض الذي تقع فيه فلسفات الشعور. إذن، لم يخرج فرويد في تصوراته الحتمية عن الإطار السائد في عصره المتأثر بآخر مراحل السببية والحتمية، حيث يمثل فرويد أحد أواخر ممثلي المذهب الميكانيكي الحتمي الكبار بعد أن امتد به إلى السلوك الإنساني وآلياته مع عدم التخلي عن التأثر الواضح بالفلسفة العقلانية. فعلى الرغم من أن علم النفس قد رسخ نفسه مع منعطف القرن العشرين كعلم مستقل يبنى على الملاحظة والتجربة المنهجيين، إلا أنه لم يلبث أن خضع لافتراضات الفلسفة العقلية حيث أخذ يتبدى إلى حد كبير كنوع من التفكير الجديد. فالمدارس الجديدة في علم النفس، التي بزغت خلال العقود الثلاث الأولى من القرن العشرين، يمكن النظر إليها على أنها ثورات قامت ضد افتراض أو آخر من الافتراضات المستمدة مباشرة من مأثور الفلسفة التجريبية. ونتيجة للمؤثرات الفكرية من العلوم الأخرى فإن معظم علماء النفس المهتمين بفهم الظواهر الدافعية للسلوك يشتركون على الأقل بإيمان بالحتمية العلمية الشاملة حيث كل أنواع السلوك ترجع إلى أسباب معينة وحيث يتيسر من حيث المبدأ اكتشاف قوانين منهجية سببية تحكم السلوكين الإنساني والحيواني. هذا المنهج تبناه فرويد الذي أكد على أن أشكال السلوك البشري ناجمة ليس عن عمل القوى الشعورية العقلية، بل عن آليات لاشعورية وقوى لاعقلية وغريزية. تلك القوى لا يمكن أن تُفهم إلا بمجموعة القوانين السببية والتفسير العقلي العلمي الذي اعتبره مفتاح فهم السلوك البشري، فيقول: يوم يُكْرَه الناس على الخضوع لسلطان العقل سيرون بأنه الرابطة الأقوى من سائر الروابط التي تربط بينهم، وهو الرابطة التي يحق لنا أن نتوقع منها تحقيق المزيد من التوافق بينهم[12]. ذلك التأثر بالتفسير الميكانيكي للسلوك لم يكن عند فرويد إلا امتدادًا لتأثره الشديد بالمدرسة الفيزيولوجية للعالم بروكه، الذي يعتبر من أقطاب مدرسة هلمهولتز الآلية التي قامت كرد فعل على فلسفة شيلنغ العاطفية، مع الأخذ بعين الاعتبار اهتمام فرويد الكبير بأفكار النظرية التطورية لداروين الأمر الذي حمله للاهتمام الكبير بالطب في بداية حياته العلمية. فتلك الحماسة الكبيرة للداروينية ومبادئ هلمهولتز كانت بمثابة الضابط لميله الفطري نحو الجدل الفلسفي والتحليق في أهواء المشاكل الإنسانية الكبرى، حيث نجد أصداء مفاهيم تلك المدرسة الآلية ضمن مفاهيم التحليل النفسي الأساسية كمفهوم فرويد عن الطاقة الاقتصادية التي تعتمد على تقويم الطاقة النفسية تقويمًا كميًا، فكتب فرويد أن العمل الوظائفي النفسي يمكنه أن يعرف من خلال مقاربة ثلاثية أولها دينامية وهي تلك التي تنشد دراسة النزعات اللاشعورية، أي الدراسة التي تمنح إنتاجاتنا معنى الدلالة، وثانيها اقتصادية وهي التي غرضها أن تحدد القوى المتواجهة وقوة المعنى ممثلة بالطاقة النفسية، وثالثها موقعية وهي التي تصف مراجع العمل الوظائفي النفسي؛ وبالتالي فلا قيمة لعلم نفس يستثني في أبحاثه الظواهر المرضية أو ينسبها إلى علل غريبة عن قطاع الحتمية العلمية. إن السلوك النفسي يعود إلى جدلية سببية يحكمها مبدأ اللذة والألم، حيث كل ما هو دوافعي ينزع إلى اللذة ويتجنب اللالذة، ولا يمكن إبطال التوتر المفعم باللالذة إلا بإرضاء الحاجة التي هي هدف الدافع. هكذا استطاع فرويد أن يقدم نظرية شمولية تعود لروابط سببية متينة، وهذا الصراع الجدلي جعل أحد تلامذة فرويد، وهو رايخ، يحاول الربط بينه وبين الماركسية على اعتبار أن كلا التصورين ألحا على الصراع الخفي، هذا الصراع الذي أبرز فرويد الجانب الداخلي منه في حين أظهره ماركس في جانبه الخارجي الاجتماعي[13]. من هذا المنطلق تماشت الفرويدية مع التيار المادي في التفسير، فتبعًا لفرويد ليس حب الذات وحب الموضوع متضادين، فحب الموضوع ينشأ عن الليبيدو النرجسي وممكن في أي وقت أن يعود ويستحيل إليه وطالما أن الاثنين يمثلان ميلين إلى الحب فهما متماهيين وكل منهما يعود إلى منبع واحد هو الجهاز النفسي الجنسي البدئي والنرجسية الأولية، والأمر نفسه يتحقق في العلاقة بين الوعي واللاوعي فهما نقيضان لكنهما في سلوك كالعصاب القهري يكونان متضادان ومتماهيان بالوقت نفسه، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالعلاقة بين الأنا والهو الذين يشكلان نقيضين متماهيين، فليست الأنا سوى جزء متباين من الهو بشكل خاص، لكنها تصبح بالوقت نفسه وتحت تأثير العالم الخارجي عدوة ومناوئة وظيفيًا للهو[14]. ومن الناحية الأيديولوجية نجد أن كلا المفهومين الماركسي والفرويدي جاءا كرد فعل عنيف على بنية العلاقات الرأسمالية، كما طرحا مفهوم الاغتراب في هذه العلاقات. وهذا جعل رايخ يقول بأن التحليل النفسي هو البذرة التي ينشأ عنها وينمو علم نفس مادي جدلي[15]، لكن هذا في الواقع لم يكن رأي فرويد، وهذا التشابه لا يجعلنا نذهب إلى حد الدمج بين التصورين. ففرويد، رغم انطلاقته المادية في تفسيره للسلوك البشري ودلالاته، فإنه بقي في سياقه العام ضمن الإطار المثالي الذاتي لهذا التصور. وهذا جعله ينتقد بشدة التصور المادي لبنية النفس البشرية، فهناك تغاير وتعارض في التفسيرين الماركسي والفرويدي للتركيب النفسي للفرد وعلاقة ذلك بالمنظومة الاجتماعية. فالأنا الأعلى عند الطفل، كما يصرح فرويد، لا تتكون على صورة الوالدين وإنما على صورة أناهما العليا، فهو يمتلئ بالمضمون عينه ويغدو ممثلاً للتقاليد ولجميع الأحكام القيمية المتناقلة على هذا النحو عبر الأجيال، ومن خلال ذلك يمكن أن نعرف الدور الذي يضطلع به الأنا الأعلى في فهم السلوك الاجتماعي للإنسان. ويقول فرويد أرجح الظن أن قصور تفاسير التاريخ التي تسمى مادية يرجع إلى إهمالها لهذا العامل الذي تنحيه جانبًا بحجة أن إيديولوجيات البشر ما هي إلا نتاج فوقي لشروطهم الاقتصادية الراهنة، وهذا عند فرويد لا يشكل كل الحق فالبشرية لا تعيش حاضرها فقط بل إن ماضي الأعراق والشعوب وتقاليدها تبقى مستمرة ضمن إيديولوجيات الأنا الأعلى، هذه التقاليد لا تتأثر إلا ببطء بالحاضر وظروفه، وما دامت تفعل فعلها عبر الأنا الأعلى فإنها ستبقى وتظل تضطلع بدور هام في الحياة الإنسانية وبشكل مستقل ومنفصل عن الشروط الاقتصادية[16]. لذلك يؤكد بأن الماركسية لا تدين بقوتها لتصورها للتاريخ ولا لتنبؤاتها المستقبلية التي تستخلصها من هذا التصور وإنما لبيانها الحاذق للتأثير الحازم الذي يمارسه الوضع الاقتصادي على نشاط البشر الفكري والفني والأخلاقي. لكن من المستحيل عند فرويد التسليم بأن العوامل الاقتصادية هي الوحيدة التي تحدد مسير البشر في المجتمع فمن الحقائق التي لا سبيل إلى إنكارها أن الأشخاص والأقوام والأعراق المختلفة لا يسلكون سلوكًا متشابهًا حتى وإن عاشوا في ظروف اقتصادية واحدة، لذلك لا يجوز التغاضي عن دور العوامل السيكولوجية حين يتعلق الأمر بردود فعل الكائنات البشرية الحية، فهذه العوامل لا تضطلع بدور في بناء الشروط الاقتصادية وحسب بل تعين جميع أفعال الناس الذين لا يستجيبون لهذه الشروط إلا من خلال دوافعهم الغريزية كغرائز البقاء والعدوانية واللذة وتفادي الألم[17]. من ذلك نجد التباعد البنيوي الكبير بين التيارين بشكل يجعلنا لا نوافق رايخ فيما ذهب إليه، فالتشابه الأيديولوجي الظاهري بين التيارين لا ينفي وجود تباعد فلسفي وابستمولوجي جعل أحدهما وهو الفرويدي ينفي أسس المادية العلمية الممثلة بالعوامل الاقتصادية رادًا إياها لمبدأ نفسي لا يراه الماركسيون إلا انعكاسًا ثانويًا لبنية العلاقات الاقتصادية، والأمر الوحيد منهجيًا الذي يجمع بين التيارين كما نرى هو إيمانهما العميق بالحتمية. وباستمرار القراءة لفكر فرويد نجد أن منهجه الحتمي يتنقل بين تيارين هما التجريبية ذات التصورات البعدية والعقلانية ذات التصورات القبلية. فرغم تبنيه الواضح للتيار التجريبي نجده يتحدث عن وجود كوامن فطرية في الإنسان كنوع، حيث يؤكد وحدانية النفس البشرية الجوهرية. فعملية التطور الجنسي والكمون الجنسي مثلاً تعود إلى وراثة عامة سابقة للنوع دون أي تأثير متعلق بالتربية والاكتساب حيث يقول: يبدو أن حياة الأطفال الجنسية تبزغ عادة في صورة تقبل المشاهدة حوالي السنة الثالثة أو الرابعة من العمر وبعد ذلك تأتي فترة الكمون الكلي أو الجزئي حيث تُبنى القواعد والقوى النفسية التي تكون فيما بعد بمثابة عقبات في طريق الغريزة الجنسية حيث تحد من تدفقها كما تفعل السدود، وهذا يحدث لدى الأطفال المتحضرين بشكل خاص وهو ناتج عن التربية، ولا ريب بأن للتربية نصيب كبير في ذلك، لكن هذا النمو محدد عضويًا ومنبثق عن الوراثة وقد يتم بين الفينة والأخرى بدون مؤازرة التربية التي لا تتخطى مجالها المخصص لها في تتبع خطوط ما رسم لها وراثيًا فتبرزه بروزًا أجلى وأعمق[18]. فكل شيء محدد قبليًا بشكل فطري غريزي ووراثي وهذا يشمل النوع البشري بأكمله، وجميع البشر لديهم البنية الليبيدية نفسها وهم خاضعون لنفس القوانين السيكولوجية كمبدأ اللذة والكبت والتحويل والاستبدال الرمزي والإسقاط والتماهي والتصعيد، ومن ذلك يمكننا أن نفسر سلوك المعاصرين لنا من البشر كما نفسر سلوك أناس ما قبل التاريخ بنفس الطريقة[19]. ومن هذا المنطلق يرفض فرويد المصادفة تمامًا في دراساته فيقول: يمتاز المحلل النفسي بالإيمان العميق بمبدأ الحتمية في الحياة النفسية التي لا يمكن أن تكون اعتباطية أو وليدة المصادفة، فالمحلل يفترض وجود سبب معين لكل ظاهرة نفسية في الوقت الذي لا يتصور غيره إمكانية وجود ذلك السبب. لذلك رفض فرويد المنهجيات التأملية في الفلسفة، والمعرفة التي يطلق عليها فرويد بالفلسفية ليست هي مشكلات الميتافيزيقا التي يرفضها فرويد رفضًا قاطعًا، بل هي فلسفة تجريبية تقوم على قواعد الاستقراء العلمي، إنها فلسفة العالم التجريبي فقط، لهذا لا نستغرب الحملة التي شنها على الفلسفة التأملية التي في الواقع لم يخرج هو نفسه عنها في التحليل الأخير حيث يقول: إن الفلسفة لا تعارض العلم، بل تتصرف هي نفسها كما لو أنها علم وقد تقتبس أحيانًا مناهجه وطرائقه غير أنها تبتعد وتفترق عنه من حيث أنها تتعلق بالأوهام وتدعي بأنها تقدم صورة جديدة مكتملة لا ثغرات فيها عن الكون، وهو ادعاء يتيح لنا كل تقدم جديد في المعرفة أن نتحقق من بطلانه، حيث تضل الفلسفة عن سواء السبيل من وجهة نظر المنهج بمغالاتها في القيمة المعرفية لعملياتها المنطقية وتسليمها بوجود مصادر أخرى للمعرفة كالحدس مثلاً[20]. لكن هل خرج فرويد عن التصورات الفلسفية للفلسفة التأملية؟ في الواقع نجده لم يخرج إطلاقًا عن ذلك الإطار الذي انتقده، فعندما نقرأ فرويد نجده قد انطلق من تصوراته للنفس البشرية من مبدأين هما مبدأ الواقع (الأنا) ومبدأ اللذة (الخيال الجنسي) حيث تكون دوافع الأنا أكثر تلاؤمًا مع الواقع من الدوافع الجنسية التي تجد إشباعها في جسم الطفل، وذلك الإشباع لا يلبث وأن يكبت إبان فترة الكمون لدى الطفل الذي ينشأ بعد عقدة أوديب، وعندها يحدث ترابط متين بين دوافع الأنا والفاعلية الشعورية ومبدأ الواقع من جهة، وبين الدوافع الجنسية والاستيهام ومبدأ اللذة من جهة أخرى. فإذا ما تمسكنا بالمعنى الحرفي لهذا التصور الفرويدي نجده بقي حبيس التصور التقليدي الذي يفصل بين المتخيل والواقعي ويجعل الخيال فاعلية بديلة ثانوية وتعويضية عن الواقع الذي أصبح سيئًا، فلم يخرج هنا فرويد عن تيار الفلاسفة الكلاسيكيين الذين يرون بأن للخيال منزلة الوسيط بين النفس والجسم، فعند ديكارت نجد بأن الخيال هو انطباق النفس على الجسم، وهو يستخدم للبرهان على إمكانية اتحاد النفس بالجسم؛ وعند اسبينوزا الخيال هو وسيط بين الفهم والأهواء؛ وعند كانط يمثل الخيال وسيط بين مقولات الفهم والحدوس الحسية[21]. وبالفصل الثنائي الذي اتخذه فرويد بين الواقع والغرائز، وضمن الغرائز نفسها بين غريزة الموت (ثاناتوس) وغريزة الحياة الجنسية (ايروس)، وفي مجال الحالات العصابية كثنائية المازوخية والسادية والشعور واللاشعور؛ نجده قد تقارب مع التصور الثنائي الديكارتي مع الفارق في أن الثنائية الديكارتية ميتافيزيقية وهذا ما حوله فرويد إلى ثنائية جدلية متفاعلة. كذلك يمكننا استجلاء تأثيرات كانطية في تصورات فرويد للمعرفة التي يحاول من خلالها تقديم نموذج جديد يخالف قليلاً تصورات كانط عن كون المعرفة الإنسانية تعتمد على الحس والتجربة اللذين ينقلان معلومات متفرقة عن العالم لا يمكن للعقل ترتيبها إلا بالاستعانة بمبدأين أوليين هما الزمان والمكان حيث الأول صورة أولية في العقل. ففرويد يحاول استبدال تصورات الزمان بمفهوم العمليات النفسية اللاشعورية التي تخرج عن كل إطار زماني قبلي فيقول: إننا نستطيع أن نعرض المناقشة لنظرية كنط التي تقول بأن الزمان والمكان شكلان ضروريان للفكر إذ نعرف بأن العمليات النفسية اللاشعورية عمليات تخرج في صميمها عن الزمان ولا صلة لها به على الإطلاق، فهي ليست مرتبة ترتيبًا زمنيًا وإن مرور الزمن لا يغير منها ولا يبدل فيها أي تبديل[22]. كما أن فرويد يبرز كثافة التجربة الإنسانية، فحيث كان هيجل مثلاً يربط بين الموجود والمعقول نجد بأن فرويد يجعل الإنسان يتأرجح بين القيم الأخلاقية والعقلية والجمالية وبين النزعات الغامضة اللاشعورية، وهذه الكثافة تتمثل من خلال علاقة الإنسان بأناه الخاص. فعلى العكس مما يبدو للمواقف العابرة السطحية نجد عند فرويد أن الإنسان جاهل لنفسه ومن هنا يمكن أن نعطي أبعادًا تحليلية لدعوة سقراط إلى أن يعرف الإنسان نفسه[23]. لكن فرويد لم يأخذ بالنظرية النفسية للفلاسفة التجريبيين الإنكليز، فرغم إصراره على النهج التجريبي نجده يرفض تصور التجريبيين الذين يرون النفس مجموعة من الأحاسيس التي تتباعد وتتلاقى وفقًا لقوانين التداعي النفسية فتبدو كأنها ذرات متعددة تترابط وتتفكك بفعل قوانين خارجية، حيث رفض فرويد ذلك التصور وهو على يقين عميق بأن الظاهرات النفسية تكون على تفاعل دائم فيما بينها إذ أن ديناميكيتها آنية وتاريخية[24]. ويتقاطع فرويد في تصوراته مع فلاسفة الحياة والإرادة كشوبنهاور الذي سبق التحليل النفسي بفرضية الإرادة اللاواعية التي تقابل بشكل أو بآخر الغرائز النفسية التي تحدث عنها فرويد. وقد تحدث فرويد عن دور مهم لشوبنهاور في نظرية الغرائز عندما قال بأن هذا الفيلسوف هو الذي ذكّر البشر بأهمية صبواتهم الجنسية المهوّن من شأنها على الدوام[25]. ويضيف في كتاب آخر أن شوبنهاور قد بين للناس منذ أمد طويل إلى أي مدى تحدد نوازعهم الجنسية نشاطهم وجهودهم[26]. بذلك يمكننا التحدث عن فرويد كاستمرار لتيار فلسفي يؤكد على الديناميكية الواعية للحياة محاولاً إبرازها بأسلوب تجريبي شابه الكثير من التأملات الحدسية التي استمر تأثره بها من خلال المرور بالفلسفة المعاصرة حيث نجده يتفق مع الفلسفة الظاهراتية بأن النفسي ليس حالة جامدة ولا هو جوهر يتبدى في ظواهر، كما يتفق معهم في إثبات شفافية النفسي وإمكانية فهمه عبر ما يحصل فيه من معنى وفي الوقت ذاته إثبات ارتباط النفسي بالمجتمع والعالم، ومن هذا المحور نجد التقاطع بين منهجية هوسرل الظاهراتية ذات التوجه التأملي الفلسفي وبين منهجية فرويد ذات المنحى العلاجي التجريبي، فكل منهما ربط السلوك بالمعنى ممثلاً بقصدية هوسرل ورمزية فرويد، بحيث ينبغي بالضرورة فهم التصرفات الإنسانية لا تفسيرها فقط[27]. وبذلك يغدو فرويد شموليًا وحتميًا وماديًا لكن ليس على الطريقة الماركسية، وعقلانيًا مثاليًا لكن ليس على الطريقة الثنائية الديكارتية ولا القبلية الكانطية، وتجريبيًا لكن ليس على طريقة التجريبيين الإنكليز، بل لقد جمع بين كل هذه التيارات في تصور علمي توافقي جعلنا نتصور فرويد لا كفيلسوف، بل كعالم بالدرجة الأولى تبنّى بعض التصورات الفلسفية السائدة في عصره التي لم تترك مجالاً لأي تفسير خارج الإطار الحتمي، ذلك الإطار الذي وإن أعطى الإلهام الأكثر شهرة للتحليل النفسي إلا أنه جعل تلك المدرسة نفسها تنقسم لتيارات مختلفة. لهذا لا يمكننا ونحن نتناول تصورات تلك المدرسة الفلسفية إغفال دور العالم النفسي الفيلسوف كارل يونغ. ثانيًا: المنهجية الفلسفية في التحليل النفسي (يونغ كنموذج معارض) رفض يونغ، بدايةً، كل المنهجية الشمولية التي تبناها فرويد في تصوره للنفس الإنسانية حيث يقول: يجب ألا نفهم الإنسان على أنه وحدة متكررة، بل يجب النظر إليه باعتباره شخصًا فريدًا لا يمكننا في التحليل الأخير أن نعرفه ولا أن نشبهه بأي شيء آخر سواه، وبالتالي فإني إن أردت أن أفهم كائنًا بشريًا ينبغي أن أطرح جانبًا جميع المعارف العلمية عن الإنسان المتوسط (الإحصائي) وأن أنبذ جميع النظريات بغية اتخاذ موقف جديد وغير متحيز، ولا أستطيع أن أقوم بتلك المهمة إلا بتبني العقل المنفتح. وبالتالي، فإنه عند يونغ في حكمنا على الإنسان حكمًا علميًا يتخذ الطابع الشمولي المتكرر والنمطي لا نتعدى التعرف العام الذي يعين البشر ويرتبهم بحسب حروف الهجاء، ولكن إن أردنا أن نفهم الإنسان كطبيعة حقيقية لوجدنا بأنه الكائن البشري المفرد والفريد، وهذا التصور للإنسان هو وحده التصور الجدير بالبحث وذلك بعد أن ننزعه عن جميع المطابقات والمقاييس العلمية الغالية على رجل العلم[28]. لذلك نجد أن منهجية يونغ هي منهجية الفهم والتماهي قبل الوصف والتفسير العقلي التي تبناها فرويد، فسياقات العقل البشري لا يمكنها أن تحيط بروح العصر لذلك نجد يونغ يمثل اتجاهًا فلسفيًا مضادًا للنزعة العلمية فيقول: كما كان الاعتقاد السائد سابقًا بأن كل ما هو موجود فإن وجوده مستمد من العناية الإلهية المبدعة هو اعتقاد لا مراء فيه، كذلك أصبح اكتشاف القرن التاسع عشر للحقيقة القائلة بأن كل ما هو موجود فوجوده مستمد من أسباب طبيعية اعتقادًا لا مراء فيه. بتلك النظرة يتبنى يونغ منهجية معاكسة للحتمية التي تأثر بها فرويد بشدة، فيقترح مفهوم الارتياب متأثرًا بالجو العلمي والفكري السائد في عصره حيث أدخل مفاهيم اللاحتمية في السياق النفسي كما أدخل سلفه مفهوم الحتمية في هذا السياق، حيث يؤكد يونغ بأن الواقع يؤكد وجود المصادفة في كل مكان وهي تفرض نفسها علينا فرضًا قاطعًا، فالحياة في ملئها تخضع لقوانين تارة وتفلت منها تارة أخرى وهي عقلية تارة ولا عقلية تارة أخرى، فالعقل والإرادة التي يعول عليهما لا قيمة لهما ولا فاعلية إلا في نطاق ضيق، وكلما اتسع المسار المعُتمد اعتمادًا عقليًا كلما ازددنا يقينًا بأننا ننفي بذلك امكانات الحياة اللاعقلية التي لها حق الحياة بالمقدار عينه[29]. وفي الوقت الذي لا يشجع فرويد كثيرًا على التأملات الفلسفية في منهجيته العلمية السيكولوجية نجد يونغ بتأملاته يتبنى المنهج الفلسفي تمامًا مؤكدًا ضرورته القصوى وأهميته في فهم الحياة السيكولوجية للإنسان، فيقول: إن نظرية نفسية تتوق إلى أن تكون أكثر من وسيلة تقنية داعمة يجب أن تقوم على مبدأ الأضداد وبدون ذلك لن يكون ثمة توازن ولا نظام بدون قوة مضادة قادرة على تحقيق التوازن[30]. وبتبني هذا التصور الفلسفي نجده يعيد للأذهان تصورات أرسطو القديمة في الغائية رافضًا تصور فرويد الحتمي للشخصية فيؤكد بأن أسلوب الرؤية الغائية يؤكد غنى تصورات النفس في دلالاتها فلا يوجد رمز واحد لكل تصوراتنا في الحلم بل هناك دلالات مختلفة باختلاف الأشخاص ولكل دلالة معنى، ويوضح يونغ فكرته تلك قائلاً: يقتضي شرح حادث سيكولوجي أن يكون منظورًا إليه من وجهتي نظر السببية والغائية، وإنني أتكلم عن الغائية لأتجنب كل لبس في مفهوم الغائية الفلسفية حيث أقصد بالغائية الدلالة عن النزوع السيكولوجي الملازم صوب هدف مستقبلي، فكل حادث سيكولوجي يحمل دلالة من هذا النوع، فالغضب الذي توحي به شتيمة موجهة إلى الفرد يستدعي الثأر والحداد التظاهري يستدعي الشفقة لدى الغير[31]. فيونغ يعود إلى إدخال الميتافيزيقا إلى السيكولوجيا من جديد ومعيدًا التصورات الصوفية ليقول بشكل أو بآخر إن علم النفس لا يمكن أن يكون علمًا وضعيًا وكفى، بل هو طراز معرفي شمولي يتعدى معارف عقلانية متفق على قانونيتها، وهذا ما يعبر عنه صراحة عندما يقول: إن الفكر العلمي المعاصر ابن السببية، فالبحوث عن الأسباب ذات المفعولات هي علته الرائجة، ولهذا السبب تبدو الأفكار الفرويدية أفكار الحتمية الأكثر نقاء ذات إغراء كبير عندما يقتضي الأمر أن نقدم شرحًا علميًا لسيكولوجيا الأحلام، وينبغي مع ذلك أن نضعها موضع الشك، ذلك أنها ناقصة بالضرورة إذ أن النفس لا تخضع لبواعث سببية تترك في الظل كل ما هو غائية فيها[32]. وضمن هذا الإطار الفلسفي التصوفي يقترح يونغ مفهومًا ضبابيًا هو مفهوم اللاوعي الجمعي الذي تصوره كمخزن يحمل المضامين العميقة التي لا تتعلق بالحقبة التاريخية أو الفئة الاجتماعية أو الاثنية، إنه مستودع أو مخزن ردود الفعل النموذجية للبشرية انطلاقًا من الأزمنة البدائية بلوغًا إلى العلاقات بين الجنسين وبين الآباء والأبناء وبين الكراهية والحب والولادة والموت، إلخ[33]. ومن خلال ذلك يتكلم يونغ عن لاوعي لا يمكن أن يصبح واعيًا بحيث يبدو أنه يتكلم عن دفعة ميتافيزيقية شبيهة بدفعة برغسون الحيوية حيث لا يتورع يونغ عن تسمية النمط البدئي بالتصور النفسي فيوافق برغسون الذي يتحدث عن الأبديات اللامخلوقة حيث يقول بأننا نستطيع تحديد صميم معنى اللاشعور الجمعي ولكن لا نستطيع وصفه، وهذا النمط البدئي يوجد بوصفه نظامًا محوريًا كامنًا على نحو قبلي متأصل في النفس حيث يصرح يونغ صراحة بالطابع الميتافيزيقي لمفهومه فيقول: إنه سواء أكانت هذه البنية النفسية وعناصرها من الأنماط البدئية قد نشأت أم لم تنشأ فإن القضية تخص الميتافيزياء ولا نجد لها جوابًا في علم النفس حيث يعد النمط البدئي ميتافيزيقيًا لأنه يتجاوز مستوى الوعي[34]. ومن خلال هذا التصور يستمر يونغ بتقسيماته الميتافيزيقية للنفس عبر جدلية رباعية، ففي الوعي توجد أربع وظائف أساسية متناقضة وظيفيًا متكاملة بنيويًا: فهناك التفكير الذي يعبر عنه العقل المنطقي الذي يميز بين الحقيقي وغير الحقيقي، يقابله الشعور الذي يميز بين الملائم أي السار وغير الملائم أي المزعج، ثم هناك الإحساس المتعلق بالمعارف الجزئية لموجودات العالم أي إدراك التفاصيل الذي يقابله الحدس المتعلق بإدراك الكليات أي المناظر الكلية بحيث تبدو وظائف النفس متضادة ومتكاملة[35]. هذه التصورات الصوفية جعلت المنهج اليونغي يأخذ شكلاً معكوسًا أو مقلوبًا عن منهجية فرويد، ففي حين يبدأ فرويد من محاولة استدعاء المكبوت لفهم العالم نجد يونغ يدعو بالعودة والغوص في اللاوعي لفهم الذات التي من خلالها نفهم العالم، ومن خلال ذلك نجد يونغ يحث على ضرورة معرفة المرء لنفسه مؤكدا أنه من المدهش أن يجعل الإنسان من نفسه كمًا مهملاً وهو المخترع والمحرض للحضارة، فالإنسان لغز بالنسبة لنفسه ويتضح الأمر إذا أخذ بعين الاعتبار افتقاره إلى الوسيلة الضرورية للمقارنة لمعرفة نفسه، فهو يعرف أن يميز نفسه عن الحيوانات الأخرى تشريحيًا وفيزيولوجيًا، لكنه من حيث هو كائن واعي مفكر يفتقر إلى جميع المعايير اللازمة لتقدير نفسه فهو ظاهرة فريدة على هذا الكوكب لا يستطيع أن يقارنها بأي شيء آخر[36]. لكن بأي طريق يمكن المسير لتلمس داخلنا؟ الجواب عند يونغ ليس بتبني المنهجية العقلانية بل بالعودة للتصورات الصوفية والروحانيات لذلك نراه تبنى منهجًا ضد العقلانية والعلمية فيقول: اليوم أصبحت معتقداتنا ذات صفة عقلانية بصورة متزايدة، فلم تعد فلسفتنا طريق حياة كما كانت في العصور القديمة بل انقلبت شأنًا فكريًا وأكاديميًا على وجه الحصر، والواقع أن العقل وحده ليس كافيًا لمعرفة الخافية[37]. فالخافية النفسية ليست شيئًا شيطانيًا جنسيًا وعدائيًا كما صوره فرويد في الغرائز، بل هي شيء من الطبيعة حيادي تمامًا وهي لا تكون خطرًا إلا عندما يكون موقفنا الواعي منها خاطئًا لدرجة ميؤوس منها. ومن هذا الإطار الميتافيزيقي ينتقد يونغ تصورات فرويد في تصوره الجنسي لنظرية الأعصبة قائلاً بأنها تصور أحادي الجانب يعود إلى الطابع النمطي الذي يمثله فرويد للعصر المادي الذي كان يأمل أن يحل ألغاز العالم في مختبر التجربة، وكمقابل لتصورات فرويد اقترح يونغ مفهومه الصوفي الجديد للنفس من خلال تصوره على سبيل المثال لمسيرة الخيمياء السابقة لعلم الكيمياء المعروف فيقول بأن اعتبار الفكر الخيميائي ببساطة أنه مجرد عمليات تقطير وتسخين هو خطأ لا يغتفر، فللخيمياء رغم طرقها وجه روحي أيضًا وجانب نفسي ما زلنا بعيدين عن استخلاص ما يجب استخلاصه منه، فالفلسفة الخيميائية هي المبشر المترنح لعلم النفس الأكثر حداثة ومن خلاله كانت الوظيفة السامية، وظيفة تحول الشخصية مسقطة على تحول المعادن وهو سر هذه الفلسفة ومفتاحها المجهول منذ قرون وذلك بفضل مزج وخلط وتركيب العوامل النبيلة والمكونات الفظة وخلط الوظائف المتمايزة وتلك التي لم تتمايز بعد، هي باختصار فن تزاوجات الوعي واللاوعي في الكائن[38]. من تلك المنطلقات الفكرية نرى أن يونغ أدخل النفس من جديد إلى صرح الميتافيزياء بعد أن أخرجها فرويد منها. هكذا على الرغم من تراوح تصورات علماء التحليل النفسي قربًا أو بعدًا من الفلسفة فإنهم باعتبارهم كذلك استمروا بتقديم تصورات لا تخلوا من تفلسف ما انفك يحاول البحث التاريخي عن الذات وموضعها في العالم ثم عن العالم وكيفية تموضعه في الذات. تلك علاقة جدلية وتساؤل مصيري يبحث عن حلّ. *** *** *** [1] باحث من سوريا مهتم بالدراسات النفسية والفلسفية. [2] كارل يونغ، علم النفس التحليلي، ترجمة نهاد خياطة، مكتبة الأسرة، مصر، 2003، ص 291. [3] مجموعة من المؤلفين، مدخل إلى علم النفس، ترجمة عيسى سمعان، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1997، ص 14 – 15. [4] سيجموند فرويد، أفكار لأزمنة الحرب والموت، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1977، ص 5. [5] د. مصطفى زيور، عبقرية فرويد، مجلة الفكر العربي المعاصر، العدد 11، 1981. [6] رالف رزق الله، فرويد والرغبة، دار الحداثة، بيروت، ط 1، 1986، ص 20. [7] المصدر السابق، ص 44. [8] روجيه باستيد، السيسيولوجيا والتحليل النفسي، ترجمة وجيه البعيني، دار الحداثة، بيروت، ط 1، 1988، ص 43. [9] حوار بين جان كليفرول وعدنان حب الله، مجلة الفكر العربي المعاصر، العدد 11، 1981، ص 52. [10] التحليل النفسي الفرويدي، مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد سابق، ص 114. [11] ساره كوفمان، طفولة الفن – تفسير علم الجمال الفرويدي، ترجمة وجيه أسعد، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1989، ص 148. [12] سيجموند فرويد، محاضرات جديدة في التحليل النفسي، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، ط 2، 1998، ص 205. [13] سيجموند فرويد، خمس دروس في التحليل النفسي، تقديم وتعريب رضا بن رجب وعبد الرزاق الحليوي، دار المعرفة للنشر، تونس، بلا تاريخ، ص 8- 9- 12. [14] ويليهم رايخ، المادية الجدلية والتحليل النفسي، ترجمة بوعلي ياسين، دار الحداثة، بلا تاريخ، ص 44 – 45. [15] المصدر السابق، ص 17. [16] فرويد، محاضرات جديدة في التحليل النفسي، مصدر سابق، ص 82. [17] المصدر السابق، ص 214. [18] سيجموند فرويد، ثلاث مقالات في نظرية الجنسية، ترجمة مصطفى زيور وسامي محمود علي، دار المعارف، مصر، بلا تاريخ، ص 63- 64. [19] روجيه باستيد، السيسيولوجيا والتحليل النفسي، مصدر سابق، ص 45. [20] سيجموند فرويد، محاضرات جديدة في التحليل النفسي، مصدر سابق، ص 19. [21] ساره كوفمان، طفولة الفن - تفسير علم الجمال الفرويدي، مصدر سابق، ص 217 – 218. [22] سيجموند فرويد، ما فوق مبدأ اللذة، ترجمة د. اسحق رمزي، دار المعارف، مصر، ط 2، 1966، ص 56. [23] سيجموند فرويد، خمس دروس في التحليل النفسي، مصدر سابق، ص 20. [24] دراسات 20-21. [25] سيجموند فرويد، إبليس في التحليل النفسي، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، ط 3، 1999، ص 102 – 103. [26] سيجموند فرويد، ثلاث مقالات في نظرية الجنسية، مصدر سابق، ص 32. [27] نهاد التكرلي، مقدمات منهجية في التحليل النفسي الوجودي، مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد سابق، ص 138. [28] ك. ج. يونغ، التنقيب في أغوار النفس، ترجمة نهاد خياطة، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، 1996، ص 14 – 16. [29] ك.ج. يونغ، النفس الخافية، ترجمة سامي علام، دار الغربال، ط 1، 1993، ص 67. [30] يونغ، النفس الخافية، مصدر سابق، ص 83. [31] مجموعة من المحللين النفسيين، مدارس التحليل النفسي، ترجمة وجيه أسعد، منشورات وزارة الثقافة، 1992، ص 81. [32] المصدر السابق، ص 89. [33] يولاند جاكوبي، علم النفس اليونغي، ترجمة ندرة اليازجي، الأهالي للنشر، ط 1، 1993، ص 21. [34] المصدر السابق، ص 63. [35] المصدر السابق، ص 24. [36] يونغ، التنقيب في أغوار النفس، مصدر سابق، ص 45. [37] المصدر السابق، ص 94. [38] ك. ج. يونغ، جدلية الأنا واللاوعي، ترجمة نبيل محسن، دار الحوار، ط 1، 1997، ص 162.
|
|
|