السـاحـة الخـاليـة
داريـن
أحمـد
الخـــوف
ذَهَبَ النهار،
أغمضتْ شوارع سوداءُ أعيُنَها
ولاكتْ كلامًا كاد أن يفلت.
تعثرتْ عيني بحنجرة مليئة
وسقطتْ في الفراغ.
هل
ابتسمتَ لي، يا حارسَ الضحكات،
وارتعد صدرُك وارتعش؟ –
لأني أذكر رفرفةً خفيفةً حلَّقت فيَّ
وقلبي انفجر.
أقول: لا أدري، لعلَّه الخوف انتشلني من يديكِ
حين رائحة الزحام تفشَّتْ في يديَّ.
لم أكن وحدي: أشاهدتُ الجموعَ تنهب من سلامي ليلَها،
أم كنتُ سكرى، وكان طينكَ ساحبًا عقلي تحت المنازل،
فوق الرؤوس، بين النائمين، في نومي، كقتلى؟
يغطِّي الليلُ أشيائي، فأحسب أني ضعت، فأمسك وجهك المتجهِّم
كمامةً على أصابعي، سوداءَ لكنِّي ألِفْتُ ملمسَها، فتُفلِتُ من زحام يديَّ
عيناك، ثم أنفُك، ثم الشفاه.
تتركني
وجسد الحلم فضفاضٌ كغيمة.
* *
*
تنـاقُـض
كلَّما قرأتُ
أكثر عرفتُ أنِّي لا أقرأ
كي أفيضَ من كلمات غيري
كي أحبَّ الأصابع الملكية للكتابة
كي أعشق الموتى
كي أبغض الوقتَ المتكاسل
كي أملأ الجسد الثقيل بالريش
كي أشارك في خلق عالم أجمل
كي أصادق الريح والشجر والعشب والماء والقبور
كي تلتهمني نارُ المعرفة
كي أُخلَّد يومًا في الورق
كي أفنى عن اليوميِّ
كي أبصر الزمنيَّ والميت
كي يعيدني الله يومًا كما كنت
كي يبقيني الله أبدًا كما أنا
كلَّما قرأتُ أكثر عرفتُ أنني أقرأ
علَّني أجد أرضًا لم يجدْها أحد
* *
*
زوال
خُذْ هواءَ الشارع خلف نافذتي،
وهمسَ أوراق حافية: كيف انتشرتَ، مرةً،
في جسدي وكيف انتشر.
خُذِ النهرَ الذي لا نعبر مرتين،
واليومَ الغاطسَ في الوحل حتى الأزل.
خُذِ الخوفَ يسرعُ هاربًا من غيابٍ خلفَه تبقَّى،
ونظراتي المعلَّقةَ في الجدار.
خُذِ الطوافَ من جهة إلى أخرى،
وانعكاسَ الكلام.
خُذْ عبورَك أيضًا:
لا أريد أن أذكرَ نشوةَ سحرٍ زائلة.
* *
*
فصــام
كان البدر
صلصالاً. لأصابعي رائحة جَزْرٍ لا ينتهي.
خفتُ أن أفنى،
ويضيع الشاطئ الصخري. وجهي بذرةٌ صماء
والأرضُ صوت.
انتزعتُ من سرابكَ شكلَه، وخفتُ من وحشٍ تصنَّعَ ضحكةً، لكني ضحكتُ واشتهى وجهٌ
عَبوسٌ أن يُسِرَّ بعمره لي. أخذتُ من عصرٍ عَبوسٍ شكلَه،
وقلتُ: لم
يَدْرِ ولن –
وجهي بذرةٌ صماء والأرضُ صوت.
غناؤكَ، من شكل شفتيكَ، ساحرٌ.
أخذتُ من
شفتيكَ جوعهما، وصرتُ نورسًا تحتي ملاذ من فراغ، إن شئت أدخُله، إن شئتُ أُخرِجُهُ
شتاءً كي يقول: الملحُ، الملحُ ذاكرتي. خفتُ أن أفنى، ويضيع الشاطئ الصخري. كل
العطر لكَ:
اعتصرْه، اختبرْه، اشترِهِ، بِعْهُ، أغرِقْهُ، أنقذْه... وجهي بذرةٌ صماء والأرضُ
صوت.
* *
*
السـاحـة الخـاليـة
الريحُ عنوانٌ تبدَّد
خلتُ أني سأجمع النثراتِ الطائرةَ
كما لو أن أصابعي أوعيةٌ فارغةٌ
وسمعتُ نبضي يعدو
كما لو أن جهاته اتحدتْ وقلبي لم يُطِقْ.
وسمعتُ قدميَّ تنقران الحصى:
جوعٌ فالتٌ من ربقة الهدف
قلتُ: لعلِّي سرتُ آيبةً
لعلِّي لم أكن أقاسم الصمتَ غربتَه
لعلِّي أحببتُ نهرًا يطوقني
ولعلِّي غرقتُ في سجني
وقلتُ: آتيةٌ أنا
والصمت أعرفُه كما لو أنه شمعٌ
أضيئه ليلاً ليخبرني:
رمادٌ أنا وفينيقُ عتمٌ يابسٌ أعطاه الموتُ حلمًا كي يعيش.
الساحةُ خاليةٌ والليلُ مؤنسُها
هنا نجمةٌ فردتْ أصابعها ليفلت الضوء
بخيلاً، جميلاً، لا يُقال
القومُ ناموا، والصباح تابوتٌ مزينٌ بذيل طاووس ملك
يقول القومُ أشياء كثيرة
يقول الضوءُ أشياء كثيرة
لكن العتم يابسٌ والموت نديّْ.
في ساحة خالية... قبةٌ، ذيلٌ، ملك.
***
*** ***