الحيـاة الأبديَّـة

 

كيوركيس أغاسي

 

في ليلة صوم نينوى، كما جرت العادة، يتناول الصائم، قبل النوم، حفنةً من الطحين المملَّح، المكوَّن من دقيق سبعة أنواع من الحبوب والبقول، ثم يمتنع عن شرب الماء والكلام حتى ينام، لعلَّه يحلم بما يتمنَّى ويتحقَّق مبتغاه.

أنا لا أؤمن بمثل هذه الترهات، لكنني أعتقد أن الإنسان، لو حصر تفكيره وركَّز على موضوع ما، فقد يتمكن من أن يحلم بمضمون ذلك الموضوع.

في ليلة صوم نينوى تلك، أسندت رأسي إلى وسادتي بعد أن تناولتُ حفنةً من الوصفة المذكورة، ونمت... لكن ما حلمت به لم يكن بعيدًا عن تفكيري وحسب، بل كان غريبًا أيضًا. ما حلمت به تلك الليلة جعلني إنسانًا آخر مختلفًا عن الإنسان الذي كنتُه من قبل: فقد تخلَّيت عن الرذائل، ونبذت الأهواء والمشتهَيات الرديئة، صرت أحب الآخرين، أتودد إلى مَن كنت أكرههم، وأحترم حقوقهم ورغباتهم.

كان حلمي بسيطًا وجليًّا: رأيت روحي تخرج من جسمي! كانت تشبهني، كأنها نسخة أخرى من شخصي وملامحي! صعدتْ إلى الأعلى، ثم استقرتْ. بدت كأنها معلَّقة بحبل فضي بجسمي الممدد على الفراش. كان فمي فاغرًا كالقبر، شاحب اللون، وكنت أتنفس في صعوبة. مثل ظفر مقلَّم كان جسمي. نحن نحس بظفرنا مادام معلقًا بإصبعنا بسبب الأعصاب والأوتار الرابطة للجسم، لكننا بعد أن نقلِّمه لا نعود نحس به، حتى لو قطَّعناه نتفًا. كذلك الجسم عندما تغادره الروح. (بهذه المناسبة، تذكرت أن بعض الناس لا يشعرون، لا يتألمون لعذابات الآخرين من حولهم ولآلامهم، لأنهم قطعوا تلك الأواصر والوشائج الرابطة للجماعة.) فمادامت الروح معلَّقة بذاك الحبل النوراني يبقى الجسمُ حيًّا، ويموت حالما ينقطع الحبل، مثل ذاك الظفر المبتور، وترتحل الروح إلى مكان آخر، إلى عالم آخر. تستغرب الروح وتتساءل: "لماذا يبكي الناس موتاهم مادامت الروحُ خالدةً لا تموت؟!"

عندما خرجت روحي من جسمي، رأيت روحًا أخرى ساطعة الضياء تقف بحذائها. قالت تلك الروح:

-       "لا تخف، يا بني... ألم تعرفني؟! انظر إلي!" عندما تأملتها مليًّا، عرفتها: كانت روح جدي! قال لي:

-       الليلة سترافقني في رحلة إلى... السماء!

-       "إلى أين؟!" قلت مندهشًا. قال:

-       "يا بني، كل إنسان يُدان بحسب أعماله... لذلك توجد كواكب ونجوم وسموات كثيرات، تُرسَلُ إليها الأرواحُ بعد الموت، كما توجد حياةٌ أبديةٌ وموتٌ أبدي!" قلت:

-       "لست أفهم! ما الموت الأبدي وما الحياة الأبدية؟" ابتسم وقال:

-       "الحياة الأبدية للصالحين والبررة، بينما الأشرار تموت أرواحُهم معهم!.. وهؤلاء لن يُبعَثوا بعد مماتهم!.. فالقاتل لا يُبعَث من جديد، أما المقتولون من غير ذنب والشهداء فتسمو أرواحُهم إلى أعلى مراتب الحياة الأبدية." سألت:

-       "وهل المراتب كثيرة؟" أجابني:

-       نعم، كلَّما صغرت الخطيئة، أسرعت الروح صعودًا إلى الأعالي، وكلما كبرت، ثقلت الروح وهبطت إلى الهاوية حيث الموت الأبدي. الروح والجسم يهبطان معًا إلى أسفل سافلين!.. ورحلتنا اليوم ستكون إلى إحدى المقامات العليا للحياة الأبدية، تلك المرتبة التي أراد الرب الإله أن يخصَّ بها بني البشر عندما خلقهم على الأرض. ولكن ذلك لم يحصل، مع الأسف، لأن الشياطين والأبالسة لم يتيحوا ذلك، والأسياد محتكري أرض الله حرموا الإنسان منها، فحوَّلوا هبة الله ونعمته إلى نقمة، وعاثوا فيها فسادًا وظلمًا وفجورًا. لكن سيأتي يوم يقبض فيه الحاصدُ على منجله، فلا يحصد زرعًا، بل أسياد وأرباب. العبد بفأسه سيسحق رأسَ مستعبِده، والمظلوم سيسود على ظالمه. يا ولدي، بعد هذه الرحلة، وفي ظروف أفضل، سأصحبك إلى سموات أخرى لتكون شاهدًا على اختلاف الحياة بين الطيبين والأشرار، وسأريك منازل الخالق المُعَدة للأرواح السامية.

أحنيت رأسي موافقًا. أمسك بيدي، وتوًّا بدأنا نطير في الأعالي. وقال جدي:

-       يا بني، الزمن لا يعني للروح شيئًا... السفر عندها أسرع من التفكير... عندما تفكر في مكان ما سرعان ما تتخيله. كذلك تنتقل الروحُ إلى أيِّ مكان تتخيله، مهما كان بعيدًا.

عندما وصلنا إلى الوطن النوراني للحياة الأبدية، اختفى جدي عن ناظري. في ذلك المكان منازل من المرمر والبلور!.. وفرة لا مثيل لها!.. خصوبة مدهشة!.. لكن أغرب ما في الأمر لقائي بأول روح في أرض العلو!.. كانت تشبهني، كأنها نسخة مني!.. سلَّمتْ عليَّ وعبرت. ثم مرت واحدةٌ أخرى تحمل ملامحي وهيئتي وطولي نفسها!.. ثم ثالثة، ورابعة!.. جميع الناس في ذلك المكان كانوا أنا، أو أخي وأختي، أو أبي وأمي... بين تلك الآلاف المؤلَّفة لم أرَ أحدًا إلا شبيهي أو شبيه أحد أحبائي.

داخَلَني خوفٌ ورعب! كيف يمكن للجميع أن يكونوا أنا وأخي وأختي؟!. ولكن... مَن أنا؟!. التفتُّ حوالي كالممسوس! كنت أرتجف مثل قشة في مهبِّ الريح. سمعت صوت جدي يقول:

-       "ما بك، يا ولدي؟" أجبت متلعثمًا:

-       "هاهنا... الجميع أنا أو أحد أفراد عائلتي!" هزَّ رأسه مبتسمًا ليبدِّد رعبي:

-       "نعم، يا بني... في هذا الوطن المقدس، كل إنسان يرى الآخرين كأنهم هو نفسه أو أحد محبِّيه... هذا الرجل الذي مرَّ بجانبك وحسبتَه شبيهك يراك هو الآخر شبيهًا له، بل نسخة عنه... وكذلك الآخرون. توجد هنا ملايين الأرواح من بلدان شتَّى وأقوام وأجناس مختلفة، وكل منهم يرى الآخرين كما قلت لك." سألت:

-       "لماذا؟ هل المغزى من ذلك هو وحدة الجنس البشري؟" أجاب جدي:

-       كان هدف الخالق أن يكون الإنسان كونيًّا، وليس فردًا منفصلاً، لكي يشارك كلٌّ منَّا الآخرين بما يملك، فلا يظلم الآخرين أو يتعدى على حقوقهم."

توقف جدي عن الكلام، وساد صمت. تساءلت:

-       "هكذا إذن... الجميع مثله، وهو مثل الجميع... الآخرون إخوته وأهله... لكي يتشارك الجميع مائدةً واحدةً كعائلة واحدة!" قال الجد:

-       هو كذلك، لقد أصبت! والآن، بعد أن عرفتَ هذه الحقيقة، انظر حواليك.

نظرت إلى المارة. ولكن، هذه المرة، كان كل عابر يختلف عن الآخر، ولم أرَ أحدًا يشبهني أو يشبه أخي وأختي. قال جدي، كأنه يتابع حديثًا:

-       "نعم، يا ولدي، المغزى هو رؤية الآخرين مثل نفسك ومَن تحب... كل شيء للكل. إنها روح الإيثار والمشاركة التي دعا إليها المسيح. وهذه الحقيقة تؤكد بطلان الأنانية وزيفها، تؤكد أن بني البشر كلَّهم إخوة وأحباء، رغم تنوع أجناسهم وأوطانهم وقومياتهم وأديانهم. هذه المفاهيم كلها، وغيرها، مثل الغني والفقير، الجميل والقبيح، لن يكون لها أي معنى في هذه المرحلة من مراحل الحياة الأبدية." سألت:

-       "وهل توجد مراتب أخرى غير هذه؟" أجاب:

-       نعم، وسأريك إياها... لكن لا تتعجل الأمور!

مائية لجبران خليل جبران: "الذات الكبرى ترفع الذات الصغرى إليها".

استيقظت مذعورًا، والعرق ينضح من جسمي كلِّه وأنفاسي تكاد أن تنقطع. أسرعت إلى النافذة، نظرت إلى الزقاق، رأيت طفلاً متسولاً، حافي القدمين، رثَّ الثياب، منتفخ البطن... تأملته مليًّا... اجتاحتني قشعريرة!.. ذلك المتسكع الصغير هو... أنا! طفولتي، رداء ممزق، قدمان حافيتان. كانت يدُه ممدودةً نحوي...

تناولت أحد قمصاني، وسترةً دافئة، وحذاء، وكلَّ ما لدي من طعام، وقدَّمتُها له.

*** *** ***

الترجمة عن الآشورية: كاجو كاجو

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود