|
النَّـقـد الإيكـولـوجـي
يلحظ آرثر لڤجوي Arthur Lovejoy، في دراسته عن البدائية في العصور القديمة، أن أحد أكثر العوامل غرابةً ونفوذًا ودوامًا في الفكر الغربي يتمثل في استعمال مصطلح «طبيعة» Nature للتعبير عن معيار القيم الإنسانية، أي في تلك المطابقة بين الخير وبين «ما هو طبيعي» أو «ما يحدث وفقًا للطبيعة». لكن، على الرغم من إعادة التقييم المتواترة للطبيعة كمعيار للقيمة، فقد كان ثمة القليل من الاتفاق على ما يشكِّل «الطبيعي»، كما هي الحال مع ما يشكِّل «الخير». وفي تشديده على الالتباس البالغ لمصطلح «طبيعة»، يؤكد لڤجوي في دقة على أن [...] مجال دلالة المصطلح يغطِّي مفاهيم ليست متمايزة بعضها عن بعض وحسب، بل ومتناقضة في مضامينها [...]. وباعتبار المعاني الستة وستين للطبيعة التي يقدمها لڤجوي كدليل على تعدد معاني «طبيعة»، يسهُل علينا أن نقدِّر قيمة المفهوم الوسيطي عن «كتاب الطبيعة» liber natura. وبالفعل، ليس ثمة نص آخر قُرِأ على نطاق واسع، وكان فهمه قليلاً، وجرى التوسُّل به غالبًا، وكان قابلاً لدعم مجال التأويلات المسلَّطة عليه من قبل الحاجة والخيال البشريين. وفي معناها المعياري – ذلك المعنى الذي مازلنا نعتقد وفقًا له أن ما هو «حق» يكون مرتبطًا في قوة مع ما هو «طبيعي» – فقد تكون الطبيعة من الناحية الواقعية أحد أقدم المنتوجات الثقافية. وكل واحد من المعاني الستة وستين التي يقدمها لڤجوي يمثل فرعًا من جينيالوجيا الفكرة، وكذلك لحظة من لحظات تاريخ بنائنا للبيئة وعلاقتنا بها. يهتم هذا المقال، على نطاق واسع، بالمعنى السابع والستين للطبيعة، أي بما تمثل له الفلسفة الإيكولوجية eco-philosophy المعاصرة من تطور هامٍّ في ارتقاء أفكارنا حول الطبيعة، وبالكيفية التي ينعكس بها الوعي الإيكولوجي في النظرية والممارسة الأدبيتين المعاصرتين. بالطبع، إن ما أدعوه «الفلسفة الإيكولوجية» ecological philosophy هو بذاته كوكبة من الأفكار المعقَّدة، المتناقضة أحيانًا؛ والمعنى السابع والستين الذي نتكلم عليه ليس غير مناخ فكري مثير ينبثق ضمنه في وضوح مفهومٌ جديد عن علاقتنا مع الطبيعة. وعلى الرغم من أن العلم الإيكولوجي قد ازدهر في أواخر القرن العشرين، فإن المضامين الميتافيزيقية للإيكولوجيا هي المسئولة أولاً عن الاهتمام الأحدث عهدًا وغير المسبوق بالفكر الإيكولوجي. ففي الأعوام العشرين الأخيرة وحسب دخل إدراك هذا التفكير إلى الوعي العام في أمريكا، وفي الأعوام العشرة الأخيرة فقط بدأنا جديًّا بتطوير المضامين الأخلاقية والفلسفية للإيكولوجيا وبمناقشتها، وفقط في الأعوام العدة الأخيرة بدأت الثقافة الأدبية، تحت رعاية «النقد الإيكولوجي» eco-criticism، في استكشاف معاني البيئة في النصوص الأدبية والفكر النظري. في هذا البحث سوف أستعمل مصطلح «الفلسفة الإيكولوجية» بمعناها الأوسع كي أصف المحاولات الحالية المتمركزة بيولوجيًّا bio-centrist التي تسعى في تشذيب علاقتنا بالبيئة وفي تعديل تصورنا الحالي عن البيئة ضمن النص وكنص. في اختصار، تصف الفلسفة الإيكولوجية مقاربةً للطبيعة والأدب مصوغةً إيكولوجيًّا؛ وهي مقاربة تُخضِع للتساؤل سيادةَ التصورات المتمركزة بشريًّا anthropocentric عن البيئة. بدأ الفكر الفلسفي الإيكولوجي للتوِّ في ممارسة تأثير على الطريقة التي يجري بها إبداع النصوص الأدبية وتأويلها وتعليمها. وتتزايد انتقادات الفلسفة الإيكولوجية للعلوم الإنسانية لجهة عدم استجابتها النسبية للقضايا البيئية؛ وثمة اعتراف متعاظم بالحاجة إلى تعليم بيئي في مجالات العلوم الإنسانية كافة. ومع استمرار تنامي الحساسية حيال المشكلات البيئية، ترسَّخ النقدُ والنظريةُ الأدبيان، كما تزايد عكسهما لهذه الحساسية في السياقات السياسية والاجتماعية ذات الصلة. وكمقياس للحساسية الجمالية لثقافتنا، واستجابةً لظروف حياتنا المتغيرة، فقد بدأ الأدب أيضًا في إثبات اهتمامه البيئي المتزايد. ولكن ثمة أسبابًا أقدم وأكبر من وراء تأثير الوعي البيئي على الدراسات الأدبية. فعلى الرغم من أن التفكير الفلسفي الإيكولوجي يبدو أحيانًا غير مسبوق، إلاَّ أن هناك تراثًا هامًّا لمثل هذا التفكير ضمن مجال الفن الأدبي: أولاً: إن الأسئلة حول الدور المتميز للبشر في المخطط الكوني قد شغلت الخيال الأدبي دومًا، والاهتمامات بالحفاظ على علاقة قوية بالطبيعة أو بتجديد هذه العلاقة كانت حاضرة في آداب الثقافات كلِّها، سواء كرمز أو كموضوع. فعلى سبيل المثال، عندما تُفتتح مسرحيةُ أوديپ ملكًا بمشهد الوباء المنتشر في الأرض، ويبدأ الكتاب المقدس بمشهد طرد آدم وحواء من الفردوس، وتبدأ الكوميديا الإلهية عندما يكون دانتي متوغلاً في الوحشة المرعبة للغابة المظلمة، فنحن نفهم من ذلك كلِّه أن اللياقة الأخلاقية للسلوك الفردي تُتصوَّر مجازيًّا بلغة سلامة الطبيعة وتوازُنها. ثانيًا: لقد صارع الأدب دومًا أسئلةَ القيمة المتوافقةَ مع تلك الأسئلة التي تطرحها الفلسفةُ الإيكولوجية. فعلى سبيل المثال: هل ينبغي تقدير البشر كمخلوقات الله، كما يقترح ملتون، أم كمخلوقات الطبيعة، كما يقترح روسُّو، أم كمخلوقات الثقافة، كما يقترح هنري جيمس؟ هل ينبغي الخشية من حالة البرية wilderness، كما في تأويلات الپيوريتانيين للكتاب المقدس، أم ينبغي دراستها علميًّا، كما هي الحال مع عقلانيي التنوير، أم ينبغي إجلالها، كما هي الحال عند الشعراء الرومانسيين؟ ثالثًا: لقد عُني الأدبُ دومًا بإبداع الإحساس بالمكان وتجدده. فعلى سبيل المثال، إن إنكلترا الجديدة New England عند فروست والمسيسپي عند فوكنر هي موضوعات subjects أعمالهم أكثر منها مجرَّد خلفيات settings لها. فالإحساس القوي بموضعة الانفعال يتولَّد من تقارُب النطاقين الطبيعي والفني، ذلك النوع من أدب الإقليم الحيوي bioregional literary الذي يعيد عِبْرَه الكاتبُ خياليًّا سُكنى موضع بعينه. رابعًا: ثمة مقدار ضخم من الأدب تعامَل صراحةً مع الطبيعة، سواء بغرض التأمل في مكانتنا كبشر ضمنها أو لاستكشاف جمالها والتعبير عنه، بصرف النظر عن الاعتبارات البشرية. لقد ولد كل من الأدب والفلسفة الإيكولوجية من لقاء بين الطبيعة والثقافة: فكل منهما يستكشف في عمق، وغالبًا ما يتساءل في عمق، عن العلاقات بين البشر وبيئاتهم الطبيعية. إذا كانت إعادة التأويل المستمرة للعلاقة بين الطبيعتين، البشرية وغير البشرية، قد شكَّلت مقوِّمًا هامًّا من مقومات الفن الأدبي، فإن ما هو أكثر سحرًا يتمثل في أن الوجه الآخر كان صحيحًا تمامًا: لقد مارس الأدب، تاريخيًّا، نفوذًا هائلاً على مفاهيمنا المتغيرة عن المنظومات الطبيعية وعن دورنا ضمنها. فقد زوَّد هوميروس عصره برؤية للطبيعة باعتبارها مرحلة يمثل فيها الآلهة والأبطال دراما كونية؛ وصاغ أفلاطون وأرسطو، على التعاقب، الأفكار الكلاسيكية عن كمال الطبيعة وعن مكانة الإنسان في نظامها التراتبي؛ وقدمت أعمال الكتَّاب المتهلينين، بِمَنْ فيهم ڤرجيل وهوراس، لأول مرة فكرة أن الطبيعة توجد كمعتزَل هادئ بعيدًا عن الضواحي المصطنعة للمدينة؛ وفي العصور الوسطى نشر المؤلِّفون، من أُغسطينوس إلى توما الأكويني، النظرة المسيحية الأصولية عن الطبيعة كحامل لمغزى أولي وكدليل ملموس على التصميم الإلهي؛ وسرَّع كتَّاب عصر النهضة وأوائل القرن السابع عشر، مثل بيكون وديكارت، في انبثاق النظرة الحديثة إلى العالم بإطرائهم السيطرة البشرية على القوى الطبيعية؛ وفي القرن الثامن عشر، ساعد شِعرُ روبرت بورنز والتاريخ الطبيعي لغيلبرت وايت في تأسيس مواقف من الطبيعة أكثر تجانُسًا مع عصر العقل؛ وفي القرن التاسع عشر، قاد الأدب الرومانسي، الأوروبي والإنكليزي والأمريكي، من غوته إلى وُردزوُرث إلى إمرسون، النقدَ الموجَّه إلى نظرة الثقافة الصناعية المسيطرة نحو الطبيعة باعتبارها مجرد سلعة؛ وفي القرن العشرين، صدرت الأصوات الأكثر بلاغة في دعوتها إلى رؤية تكاملية إيكولوجية للطبيعة من أدباء شديدي التنوع، مثل د.هـ. لورنس وألدوس هكسلي وجون موير وإدوارد آبي. ولأن الأدب أشرط على الدوام فهمَنا الفلسفي للطبيعة، فإن النظرية والممارسة الأدبيتين اضطلعتا أيضًا بدور في تشكيل تصوراتنا الثقافية عن البيئة. بالفعل، حتى المقولات الجمالية التي نفهم بواسطتها مشاعرنا نحو الطبيعة، كالجميل والفاتن والجليل والمشهدي والبرِّي، قد عُرِّف بها على نطاق واسع من خلال استعمالها في السياقات النقدية والأدبية. ففي نظر الإغريق الأوائل، كان العمل الفني ذاته الاستعارةَ المركزية عن الطبيعة. وبرؤيته من وجهة نظر نظرية أدبية فلسفية إيكولوجية، فإن النصَّ الأدبي ربما يشبَّه فعليًّا بمنظومة إيكولوجية ecosystem: فهو كلِّية وظيفية يتم إنجاز أغراضها من خلال التكامل بين عناصرها المقوِّمة؛ وإن تعقيدها اللافت ليس له غرض وحيد، بل ربما يقال إنه يوجد لأجل تنوع من الغايات في وقت واحد: فهو يعرَّف به، إلى حدٍّ ما، عبر تفاعلاته مع النصوص والسياقات الأخرى؛ ونحن باستمرار نبحث فيه لمعرفة مَن نحن وكيف نحيا في هذا العالم، وفي أحسن حالاته، يحتوي حميمية سرٍّ لا يوصف قابع وراءه. وبالأدق، بما أن الأدب قد وفَّر في الغالب الرابطة بين السياقات المتشابكة للطبيعة والثقافة، فإن الأفكار الجديدة للفلسفة الإيكولوجية حول علاقتنا بالبيئة قد بدأت بالتأثير على مقارباتنا النقدية للنصوص الأدبية. وكمثال على الحميمية النامية بين النقد الأدبي المعاصر وبين الحساسية البيئية المعاصرة، ربما ننظر في إيجاز في بعض من التماثُلات المثيرة بين الفلسفة الإيكولوجية والنظرية الأدبية ما بعد البنيوية post-structuralism. يُشتق معظم هذه التشابهات من المقدمة الأساسية للفلسفة الإيكولوجية حول الترابط البيني interconnection، الذي غالبًا ما تراه النظرية ما بعد البنيوية كتناصٍّ intertextuality. ويموضع الفلاسفةُ الإيكولوجيون القيمةَ في الكلِّيات الطبيعية وفي العلاقات التبادلية التي تشكِّلها؛ وعلى نحو مشابه، يموضع ما بعد البنيويون، مثل فيش Fish، المعنى meaning في سياق مجتمع خطاب محدَّد، وينكرون وجوده وجودًا مستقلاًّ عن مثل هذا السياق. وعندما يذكر فردينان دُه سوسور أن معنى الكلمات يوجد فقط كتابع لاختلافها عن كلمات أخرى، فهو يعزِّز بذلك الرأي الجدالي للإيكولوجي پول شيپارد الذي يقول بأن العلاقات بين الأشياء حقيقية كالأشياء. وعندما يؤكد درِّيدا أنه يتم إنجاز الدلالة علائقيًّا من خلال لعبة الدوال، فهو يتقاطع ودعوى الفيلسوف الإيكولوجي نيل إيڤرندن بأن الذات تُبدع بواسطة منظومة من الدوال الطبيعية، بحيث إنه ليس ثمة شيء كفرد، بل فقط فرد في سياق. وعندما يتحدث رولان بارت عن الذات السيميوطيقية كهوية تُكتَب بواسطة منظومة اللغة، فإن نقاشه يشبه توسيع الأكسيولوجي البيئي ج. بايرد كاليكوت لمفهوم «الذات العلائقية» relational self ككينونة غير أنوية non-egoistic يعرَّف بها بواسطة نموذج المجال الطبيعي الذي تتجسد فيه. وسواء تعلَّق الأمر بالسياق اللغوي أو بسياق المنظومة الإيكولوجية، فليس ثمة عنصر فردي قد يُفهم في معزل عن السياق المولِّد للكلِّية المنظومية والمحدِّد لها. إذا كانت القيمة تتوضع علائقيًّا في العلاقات التبادلية بين مكونات المنظومة الإيكولوجية، وإذا كان المعنى يتوضع علائقيًّا في التناصِّ بين الكلمات وتأويلات الكلمات، نستطيع أن نرى أن الفلسفة الإيكولوجية والنظرية ما بعد البنيوية تشتركان أيضًا في التساؤل العميق حول معايير اليقين الموضوعية. فكما تذكِّرنا الفيزياء الحديثة والأنثروپولوجيا، إن الموضوعية objectivity، في بساطة، هي طريقة في وصف وهم الراصد حول المركزية أو السلطة authority. لقد اعتمد الفكر الغربي تقليديًّا، وبقوة، على الفصل المفكِّك للراصد observer عن المرصود observed، كما تُثبتُ ذلك بقوة ديالكتيكا فلسفتنا وميتافيزيقا علمنا. وعلى الرغم من أن هذا الجهد الديكارتي والكانتي قد رسَّخ قسمة الذات/الموضوع باعتبارها نمطنا المفضَّل في الإدراك، فإن نظريات الفلسفة الإيكولوجية والنقد الأدبي قد وضعت هذه الإپستمولوجيا الثنوية dualistic epistemology موضع الهجوم. ففي النظرية ما بعد البنيوية، يؤكد التشديد على الخطاب السياقي أن القراءات كلَّها تتوضع في تنوع من السياقات التأويلية، وأن تأويلاتنا للنصوص الأدبية تُبنى علائقيًّا أكثر مما تتكشَّف هرمينوطيقيًّا [تأويليًّا]. وكما يقترح هارولد بلوم، فإن المعنى الأوسع لنصٍّ أدبي يتحدد بواسطة كلٍّ من علاقة التناصِّ بينه وبين النصوص الأخرى والتفاوض الذاتي البيني inter-subjective negotiation للمعنى بين تأويلات متنوعة للنص. والأكثر فائدة هنا هو التوسيع الذي قدَّمه بارت لعلاقة القارئ–النص لتشمل جميع جوانب التجربة. عندما نكون، كما هي حال أغلب القرَّاء، جائعين إلى المعنى، ميَّالين إلى تأويلات محددة، ومتأثرين بتنوع من الافتراضات الشخصية والاعتقادات والرغبات، عند ذاك كيف ننفصل عن «النص» الأونطولوجي؟ ألا نكتب النص، بطريقة ما، عندما نقرؤه، تمامًا كما نخلق التجربة بينما نعيها؟ وفقًا لما بعد البنيويين، فإن موضع المعنى الأدبي لا يكمن في القارئ ولا في النص، بل يكمن، على نحو غير محدَّد، في التأويل السياقي للاثنين. ترغب الفلسفة الإيكولوجية، كما النظرية النقدية، في تحريرنا من وهم الفكرة القائلة بأن تأويلاتنا ربما تكون صحيحة موضوعيًّا، وتلح بدلاً من ذلك على أننا ندرك تنوعًا من التأويلات ينبغي للمعنى أن يخضع ضمنها للمفاوضة. وفي الواقع، تتحدى الفلسفة الإيكولوجية افتراض الموضوعية الذي بواسطته أوَّلَ «القرَّاءُ» البشرُ نصَّ (كتاب) الطبيعة. وكمثال بسيط على ذلك، لننظر في شجرة ما. فبالإضافة إلى أنها تزوِّدنا بالورق – وهو الوسط المادي الذي نكتب هذا المقال عليه – فإن الشجرة تمثل أيضًا وسيلةً لغذاء النمل الأبيض ووسيلة للطير في الملجأ الآمن ووسيلةً للتربة في الاحتماء من الحتِّ والانجراف إلى البحر. فإذا ما أوَّلنا الشجرة كي تعني فقط دولارات أو أثاثًا أو حطبًا، فإننا بذلك «نسيء قراءة» الشجرة بتجاهل تنوع من السياقات الأخرى التي تحدِّد معناها وقيمتها. ولعلَّ الأهم هو أننا نكون قد فشلنا في إدراك أننا، بلغة السيميوطيقا، «نكتب» الشجرة و«نُكتَب» بواسطتها في آنٍ معًا. إذا ما عملنا وفق تأويلنا للشجرة كدالٍّ على الدولارات فقط، على سبيل المثال، فإننا نعيد كتابة نصِّ الطبيعة دلاليًّا، ونحن، إذن، نفعل ذلك بطريقة تبدِّل قابلية الطبيعة لأن «تكتبنا». لذلك، تعكس الفلسفةُ الإيكولوجية النظريةَ الأدبيةَ في دعوتها إلى الإقرار بأن المعنى والقيمة يتحدَّدان من خلال نماذج المفاوضة للعلاقة التبادلية أكثر مما يتحدَّدان من خلال مزاعم الموضوعية. يمكن لنا، إذن، أن نرى كلاًّ من الفلسفة الإيكولوجية والنظرية ما بعد البنيوية كاعتراضين على نوع محدَّد من السلطة. تحاجج هذه النظرية بأن هذه السلطة الجائرة تنبع من الاعتقاد بـ«الحضور»، بينما ترى الفلسفة الإيكولوجية أن مصدر هذه السلطة هي المركزية البشرية. وقد عني النقاد الماركسيون والنسويون feminists والتفكيكيون جميعًا بانتقاد «ميتافيزيقا الحضور»، أي الافتراض بأن «الشيء ذاته» يكون حاضرًا أمامنا، وبذلك ربما يُعرف بطريقة مباشرة موضوعية ومطلقة. «الحضور» عند درِّيدا، «العمى والبصيرة» عند رودمان، «التنوير» عند هوركهايمر وأدورنو، «هرمينوطيقا الشك» عند ريكور، «مجتمع الصورة الشاملة والمراقبة» عند فوكو، «الخطاب الأبوي» عند المذهب النسوي، – هذه جميعًا تتحدث عن أزمة إدراك السلطة. ووفقًا لهؤلاء الباحثين، فإن الافتراض الإپستمولوجي حول إمكان المعرفة المطلقة هو الذي يضمن علاقات الهيمنة والاستغلال. في اختصار، تهدف النظرية ما بعد البنيوية إلى «تفكيك الخطاب الكولونيالي والشمولي»؛ وهي ترغب في تغيير خطاب السيادة بأنواعه جميعًا وإحلال الخطاب السياقي محلَّه، الذي تمثِّل له أفضل ما يمكن تعدديةُ الأصوات. في نظر درِّيدا، يتم إنجاز هذا الأمر عبر «اللعب الحر»، أي التفاعل اللامتناهي للدوال، أي «تمزيق الحضور». في التفكيك deconstructionism الذي يقدمه درِّيدا، يُنظَر إلى إبطال مركزية الذات البشرية (أو بشكل أدق إلى عدم التمركز) على أنه أساسيًّا إعتاق، «توكيد يقرِّر اللاَّمركز بأكثر من كونه فقدانًا للمركز». وعلى نحو مشابه، يجادل ميشيل فوكو بأن فكرة «الإنسان»، على الأقل وإلى حدٍّ بعيد باعتبارها تشير إلى مركز معزول للسلطة والقيمة، هي بنية تاريخية بائدة ينبغي أن يخلفها معنى سياقي للهوية أكثر اتساعًا. يمكن مقارنة ما سبق مع حافز نراه في وضوح في رغبة الفلسفة الإيكولوجية في الاستعاضة عن المركزية البشرية بتوكيد لقيمة الكلِّيات المنظومية الإيكولوجية. «الإيكولوجيا العميقة» deep ecology عند نايس، و«الإيكولوجيا العبرشخصية» transpersonal ecology عند فوكس، و«المقاومة الإيكولوجية» عند رودمان، و«فلسفة الإيكولوجيا» عند كاڤالوي، و«أخلاق الأرض المستدامة» عند ميلِّر، جميعها تنصبُّ على أزمة إدراك السلطة. وفقًا لهؤلاء الفلاسفة الإيكولوجيين، سببت المركزيةُ البشريةُ استغلالاً وهيمنةً جائرين على العناصر الأخرى في مجتمع المنظومات الإيكولوجية. تكمن نسخة الفلسفة الإيكولوجية من «تفكيك الخطاب الكولونيالي والشمولي» في مقاومتها الأخلاق البطلمية النابعة من نظرية للقيمة متمركزة بشريًّا. فالنظرة إلى العالم المتمركزة إيكولوجيًّا، كما هي حال النماذج التي نشرتْها نظريةُ ما بعد البنيوية، ثورية بما أنها تسعى في كسر التراتبية hierarchy الراسخة وفي إعادة توزيع السلطة والقيمة بين كلِّ عناصر المنظومة، أو نسبتها إلى الفعالية التكاملية لتلك المنظومة ككل. تنظر الفلسفة الإيكولوجية أيضًا، كما هي حال النظرية الأدبية، إلى إبطال مركزية الذات البشرية كنوع من التوكيد؛ و«إعتاق الحياة» يفضي إلى إدراك العلاقة التبادلية أكثر مما يفضي إلى نموذج هيمنة. وبذلك ربما يُنظَر إلى المساواتية الإيكولوجية، إذن، كنوع من الخطاب السياقي مع الطبيعة. بالفعل، يقترح منظور الفلسفة الإيكولوجية أن النظرية الأدبية والفلسفة البيئية المعاصرتين تعملان غالبًا كضربين متجانسين للموضوع ما بعد الحداثي ذاته حول العلاقة التبادلية السياقية. إذا كانت الاهتمامات الفلسفية الإيكولوجية وثيقة الصلة بمتطلبات النظرية الأدبية المعاصرة، فربما نسأل كيف تتجلَّى هذه الاهتمامات في الممارسات النقدية: ما هي حال النقد الأدبي المصوغ إيكولوجيًّا اليوم؟ بلا ريب، حَظِيَ الأدبُ الأمريكي الريفي بقدر كبير من الاهتمام النقدي؛ ولكن فقط في الأعوام الأخيرة نما الاهتمام بالثقافة التعليمية التي ترى الطبيعة أكثر من كونها مجرَّد ميدان للنشاط البشري، أو عالَمًا أخضر يلجأ إليه البشرُ هربًا من أعباء حياة الرشد. ومؤخرًا جدًّا، بدأ الباحثون المهتمون بالمقاربات الإيكولوجية للأدب في الانضواء تحت راية «النقد الإيكولوجي». وتقدم الناقدة الإيكولوجية شيريل بورغس غلوتفلتي Cheryll Burgess Glotfelty التعريف المباشر التالي لانبثاق هذه المقاربة النقدية: يتخذ النقد الإيكولوجي موضوعًا له الترابُطات بين الثقافة الإنسانية والعالم المادي، بين البشري وغير البشري. والنقد الأدبي الإيكولوجي هو ذلك الفرع من النقد الإيكولوجي الذي يركِّز تركيزًا خاصًّا على العناصر الثقافية: اللغة والأدب وعلاقتهما بالبيئة. إنه موقف نقدي يضع إحدى قدميه في الأدب والأخرى على الأرض. حاولت غلوتفلتي أن تفسِّر سبب تأخُّر النقد الأدبي في الاستجابة للتفكير البيئي، وقد انضمَّت إلى نقَّاد مثل سكوت ساندرز وغلين لوڤ في اقتراحها أنه ينبغي دمج التبصُّر الإيكولوجي في مقاربتنا للنصوص الأدبية. لقد حفَّز كثير من النقَّاد الإيكولوجيين إدخال الإيكولوجيا إلى الدراسات الأدبية عبر اكتشافهم مزايا تراث كتابات الطبيعة nature writings الأمريكية. ويشير مصطلح «كتابات الطبيعة» حاليًّا إلى محصول وافر من الأدب الذي يتخذ من الطبيعة أو العلاقة بين الطبيعة البشرية وغير البشرية بؤرته الأولى. وكفرع في العلوم الإنسانية، تشكَّلت الدراسات الأدبية تقليديًّا بواسطة تنوع من الافتراضات المتمركزة بشريًّا حول مركزية البشر في إضفاء الشرعية والسلطة على النصوص الأدبية. وتحت تأثير الفكر الفلسفي الإيكولوجي الذي يدخل حاليًّا الميدان الأكاديمي عبر فروع معرفية كثيرة، بات الباحثون الأدبيون يستعملون كتابات الطبيعة للفحص عن الافتراضات عينها التي أفضت إلى إهمالها النقدي. ولأنه من الصحيح أن النصَّ الأدبي، كما هي المنظومة الإيكولوجية الطبيعية، يتكوَّن من نسيج متناغم (أركسترالي) للعلاقات التبادلية، ينبغي علينا أن نتوقع تمامًا أن الأعمال الأدبية التي تنشغل بالمنظومات الطبيعية لديها الكثير لتعلِّمنا إياه حول الأدب وحول الطبيعة أيضًا. وفي الوقت الذي يكافح النقد الإيكولوجي من أجل تعريف ذاته كفرع دراسي، فإنه يولِّد تنوعًا من المقاربات البيئية الواعدة، وأحيانًا المتباعدة جدًّا، للدراسات الأدبية. يحاجج پيتر فريتزل في مؤلَّفه كتابات الطبيعة وأمريكا: مقالات في النمط الثقافي (1995) بأنه يجب النظر إلى الكتابة كنشاط عضوي organic activity، أو كنتاج للحاجات البيونفسية للعضوية البشرية. ويزعم و. روس وينتيرود في كتابه بلاغة أدب الآخر (1990) أن تفضيلنا «أدب الخيال» قد دفعنا إلى تبخيس الثراء الجمالي والغنائي لما يدعوه «أدب الواقعة». ويستخدم سكوت سلوڤيك في كتابه التماس الواعي في كتابات الطبيعة الأمريكية (1992) علمَ النفس البيئي environmental psychology للفحص عن الوعي البيئي وعن الأساليب التي يستعملها كتَّابُ الطبيعة لإحداث هذا الوعي بين قرَّائهم. لقد اقترح نقَّاد مثل كارين وارِن وپاتريك مورفي وجيم تشيني أساليب مثيرة يمكن من خلالها لمنظورات النسوية الإيكولوجية eco-feminism النقدية أن تعزِّز الحساسية الفلسفية الإيكولوجية حيال الدراسات الأدبية عمومًا. وثمة توكيد متنامٍ على المضامين التدريسية للممارسة الأدبية النقدية الإيكولوجية. وحديثًا، أعدَّ سكوت سلوڤيك وتيريل ديكسون كتابًا تدريسيًّا لمقرَّر الإنشاء بعنوان الوجود في العالم: مختارات بيئية للكتَّاب؛ ويوثِّق الكثير من المدرِّسين تجارب ناجحة باستعمال الكتابات البيئية في الإنشاء وفي مقررات الأدب. وعلى نحو إضافي، يوحي التأسيس الحديث لـ"رابطة دراسة الأدب والبيئة"[†] بأن الفكر الفلسفي الإيكولوجي الذي يقف الآن على عتبة الدراسات الأدبية قد بدأ يمارس تأثيره على الطريقة التي يرى بها الأدبُ البيئةَ، وكذلك على الطريقة التي نرى بها، كنقَّاد، البيئة في الأدب وخارجه. وكمقاربة متميزة في ممارسة النقد الأدبي، يولي النقدُ الإيكولوجي انتباهًا متزايدًا للتمثيلات الأدبية للطبيعة؛ وهو حسَّاس للتواكلات interdependencies التي ترسِّخ المؤلِّف أو الشخصية أو العمل الأدبي ضمن المنظومة الطبيعية. تزيح هذه المقاربةُ التركيزَ النقدي من العلاقات الاجتماعية إلى العلاقات الطبيعية، وتنظر إلى الفرد كعنصر في المنظومة الإيكولوجية وفي نماذج التنظيم البشري. وتقيِّم هذه المقاربة عاليًا الإحساس الأدبي بالمكان، ليس كوسط، بل كتعبير عن الارتباط بسياق طبيعي محدَّد أو كاغتراب عنه؛ وكذلك تمتحن معمارية العلاقة التبادلية بين الأدب والشكل العضوي، وتنتظر من الأدب أن يقدم تأملاً حول العلاقة بين الطبيعتين البشرية وغير البشرية، وأن يقترح الأساليب التي ربما تكون كفيلة بإعادة تأويل هذه العلاقة أو بإصلاحها. إنها مقاربة تكاملية integrative أكثر منها اختزالية reductive، بمعنى أنها تتطلع إلى إثبات كيف أن عناصر النصوص الأدبية تعمل سوية، أكثر مما تتطلع إلى تحليلها تحليلاً منفصلاً. تُطبَّق هذه الخاصية الكلاَّنية أيضًا على النقد ذاته الذي غالبًا ما يكون بينمناهجيًّا interdisciplinary على نطاق واسع في بنائه لسياقات التأويل. وباعتباره أقل من معظم فروع الإنسانيات في تمركزه البشري، يفترض النقد الإيكولوجي أن الطبيعة كموضوع للأدب هي في مثل ثراء البشر؛ وهو لذلك أقل احتمالاً في أن يهمِّش أدب الطبيعة باعتباره غير جدير بالالتفات النقدي إليه. في اختصار، يرى النقد الإيكولوجي أن النصَّ الأدبي متجسِّد في السياق الطبيعي ومتصل معه، وهو ينصبُّ على معنى الانتماء الذي يحاول الفنان أن يرسِّخه ضمن مجتمع الطبيعة ويتولى جديًّا كلاًّ من النتائج الروحية للطبيعة والعواقب الأخلاقية لانتهاكها. يقترح الإضفاء الحالي للإيكولوجيا على الدراسات الأدبية، في وضوح، إمكانية تطبيق واسعة للنموذج الإرشادي الإيكولوجي ecological paradigm على النظرية والممارسة النصِّيتين. وفي ميادين العلوم الإنسانية كافة، تعيد التغيراتُ التي يُنادى بها حاليًّا، في قوة، تذكُّر فكرة الشاعر روبنسون جيفر حول «المذهب غير الإنساني» inhumanism، الذي وصفه كإزاحة للتركيز من الإنسان إلى غير الإنسان، أي نبذ الأنوية البشرية والاعتراف بجاذبية ما يتجاوز البشري. إن الانتقال إلى «ما بعد المذهب الإنساني» beyond humanism، أي إلى خطاب مصوغ إيكولوجيًّا على نحو أكبر، سوف يُفعم بالحيوية دون ريب إحساسَنا بالعلاقة مع كلٍّ من الطبيعة والنص، وسوف يفضي بنا إلى إعادة الفحص عن مضامين تصوراتنا الحالية عن البيئة. سوف ينتفع النقد الأدبي من تماسِّه مع الفكر الإيكولوجي، وربما تقدِّر الأجيال المستقبلية من القرَّاء الإنجازات الأدبية، من والدن Walden إلى أحلام قطبية شمالية Arctic Dreams، في المقام الأول، كبشائر للوعي البيئي وكنُصُب ثقافية للحكمة الإيكولوجية. بانتظار ذلك، ينبغي على النقد الإيكولوجي أن يواجه في انفتاح ما يراه من مضامين إيجابية وسلبية لعلاقته اللافتة مع النظرية الأدبية ما بعد البنيوية. فمن جهة، ربما يُرى تحدي الفلسفة الإيكولوجية لميتافيزيقا «حضور» المركزية البشرية باعتباره تحريرًا أساسيًّا. وكما في النظرية ما بعد البنيوية، التي يُرى فيها المعنى «مبعثَرًا ومنتثرًا على طول السلسلة الكاملة للدوال»، تفهم الفلسفةُ الإيكولوجيةُ المعاصرةُ القيمةَ باعتبارها متوضِّعة علائقيًّا ومنتشرة في كامل النسيج المترابط للمنظومة الإيكولوجية أو الكلِّية الكوكبية. ومن جهة أخرى، أعتقد أن ثمة اتجاهًا محفوفًا بالمخاطر يكون فيه التأجيل اللاَّمحدود للمعنى عند ما بعد البنيوية على خصومة مع روح الاهتمام البيئي. فعلى الرغم من كلِّ شيء، إن الباحثين في الطبيعة وأدبها التمثيلي أكثر اهتمامًا بهدف المذهب البيئي في التحرر من الإتلاف من هدف المذهب التفكيكي في التحرر من المعنى. إذ بينما تستبدل الفلسفة الإيكولوجية بنموذج المركزية البشرية التراتبي رؤيةً لمجتمع طبيعي غير متمركز إيكولوجيًّا، فإن قليلاً من النقاد الإيكولوجيين سوف يسلِّمون بأن الطبيعة في النهاية ليس لها معنى محدد، أو بأن المنظومة الطبيعية يمكن أن توصف بأنها، في بساطة، «اللعب الحر» اللامتناهي لدوالِّها. على العكس من ذلك، فإن المفاهيم المعيارية، من قبيل القيمة الجوهرية intrinsic value وحقوق الأشياء الطبيعية، تثبت أن الفلسفة الإيكولوجية المعاصرة تحتفظ باعتبار أصلي لحوامل محددة للمعنى والقيمة. يوجد النقد الإيكولوجي في كوكبة واحدة مع الحركات الفكرية ما بعد الحداثية للنظرية الأدبية ما بعد البنيوية والفلسفة الإيكولوجية المعاصرة، وغالبًا ما يتأرجح مترددًا بينهما. ولكي يقدم النقد الإيكولوجي إطارًا ذا معنى للباحثين في الأدب والبيئة، على النقَّاد الإيكولوجيين أن يصارعوا مفارقةً بسيطةً ربما نَصِفُها كما يلي: الطبيعة هي، في الوقت ذاته، بناء ثقافي وواقع راسخ. عندما كتب أرسطو وڤرجيل وأُغسطينوس وداروِن عن «الطبيعة» فقد عنوا بالمصطلح أشياء متباينة جدًّا؛ وكما تذكِّرنا دومًا المعاركُ السياسيةُ الحاليةُ حول استعمال الأراضي، ليس ثمة إجماع حول تعريف بالطبيعة، حتى في سياق لحظتنا التاريخية. ولكن إذا لم تكن «الطبيعة» شيئًا أكثر من «دال» ملتبس أبدًا، أي منتوج ثقافي لغوي يكون موضوعًا للتعريف (وعادة للانتفاع به) من قبل النوع البشري، فكيف لنا أن نقدِّر معناها وقيمتها حقَّ قدرهما؟ ماذا عن الطبيعة التي «في الخارج هناك»، ذلك العالم الطبيعي الواقعي الذي نعيش حياتنا فيه، وجميع نقاشاتنا لأفكار من قبيل «ميتافيزيقا الحضور» تجري على نحو ضروري ضمنه؟ كيف لنا أن نعلم متى يشكِّل تلاعبُنا المتواصل بالدال «الطبيعة» خطرًا غير مقبول أخلاقيًّا على كوكبنا وعلى تعدد الأنواع الذي يغذِّيه؟ سوف أحاجج بأنه يجب على النقد الإيكولوجي أن يكون أكثر إرادة في التعلم من ارتباطاته مع النظرية ما بعد البنيوية. لكن ثمة أيضًا خطرًا في أيِّ انتحال غير نقدي لفكرة أن العالم الطبيعي هو «مجرد نص»، أي نموذج من الدوالِّ الملتبسة القابلة كليًّا للتلاعب بها من قبل «القراء» و«الكتَّاب» البشريين. وعلى الرغم من أن ما بعد البنيوية تدَّعي غالبًا نزع مركزية أنواع محددة من السلطة، إلاَّ أن اقتراحها «المدمِّر» بأن العالم مصنوع بطريقة ما بواسطة الكلمات، قد يُنظَر إليه في بساطة على أنه التجسيد الأخير للمركزية البشرية في محاولتها لاستعمال القدرة الكلِّية للُّغة بغية الحفاظ على البشر في مركز نموذجنا الكوني. وباعتباره التأويل السابع والستين للطبيعة في النصِّ والفكر النظري، ينبغي على النقد الفلسفي الإيكولوجي أن يحاول رسم نهج بعيدًا عن علاقتنا المدمِّرة ثقافيًّا وذاتيًّا مع العالم الطبيعي. إن نجاح هذه المغامرة سوف يعتمد على قدرتنا على فعل ما قام به آحاب Ahab في رواية ملڤيل موبي ديك عندما جوبه بالحاجب المتجعِّد للحوت. وكأعضاء في كلٍّ من المجتمع الأدبي literary community والمجتمع الحيوي biotic community، يجب أن ندرك أن العالم الطبيعي يوجد من أجل أغراض تتعدى أغراضنا الخاصة. *** *** *** ترجمة: معين رومية [*] مايكل برانش Michael Branch: أستاذ الأدب الإنكليزي في جامعة ڤرجينيا ومن الرواد في حقل النقد الإيكولوجي. [†] The Association for Study of Literature and Environment.
|
|
|