|
الأصالة والمُعَاصرة بين الشرق والغرب
الموضوع يجمع بين كلمتين، كلتاهما ثمينة وغالية، لها في القلب والعقل والشعور ثقلُها، ولها في العين جمالُها، وفي الأذن وقعُها الموسيقي ورنينُها الحلو. الأصالة، ومعها التراث – أو فيها التراث –، هي الماضي، بكلِّ ما يحمل من تراث يعتز به الإنسان. والتراث هو حصيلة القيم الدينية والاجتماعية والخبرات الطويلة المتوارَثة عبر الأجيال، التي انتقلت للأبناء عن الآباء، للأحفاد عن الأجداد، وللخلف عن السلف. وهي، مهما قيل في نقدها من وجهة نظر المحدَثين واتهامهم إياها بعدم صلاحية استمرارها لأجيالنا المعاصرة، فيها كنوز ثمينة يكون من الحماقة أن نرفضها كلَّها أو نركُلَها بأقدامنا كما لو أنها تحولت مع الزمن إلى آنية صَدِئَت ثم تلفت! لا، يجب أن نعترف بما لهذا التراث من قيمة، ليس للماضي فقط، بل وللحاضر وللمستقبل. والحق أننا مهما زعمنا بأننا، نحن أبناء القرن العشرين، أو بالأحرى أبناء الربع الأخير من القرن العشرين[2]، قد ارتقينا سلَّم الحضارة والمدنية ورسمنا في حاضرنا صورةً بعيدة – بل شديدة البعد – عن الصورة القديمة التي رسمتْها الأجيالُ الغابرة، فلا بدَّ لنا أن نعترف أن الفرق بين المحدَثين والقدماء هو في النتائج، لا في الأصول. فمَن منَّا يمكن له أن يزعم في جِدٍّ أننا، نحن المحدَثين، أفضل أو أذكى أو أرجح عقلاً أو أقدر جهدًا أو أكثر صبرًا وعملاً وكفاحًا من القدامى؟! حقًّا لم تكن لهم الإمكانيات والإمكانات التي تتوافر لدينا اليوم، ولم تكن الإنسانية قد وصلت إلى النتائج التي ترامت إلينا اليوم، ولم يكن لديهم من الكتب والإنتاج العلمي والثقافي الذي تزخر به مكتباتُنا الحديثة ومراكز العلم التي تتوافر لنا اليوم؛ ومع ذلك، كان لعلماء الأمس من العمق والجَهد والنظر العقلي والتأمل البصير والحكمة والفهم ما لا يقل عما لعلماء اليوم، إنْ لم يَزِدْ عنه. فإنْ لم تكن لهم الإمكانات والإمكانيات والأدوات والآلات، لكنْ كان لديهم العزم والهمة والاهتمام؛ كما لم يكن لديهم من الشواغل التي تشغل وقت علماء اليوم – وهي التي تزايدت بتعقُّد الحياة العصرية –، فكان وقتُهم المكرس للبحث والإنتاج أوسع من وقت علماء اليوم. في عبارة أخرى، يمكن أن يقال إن الفرق بين علماء اليوم وعلماء الأمس هو فرق في النتائج التي وصلت إلينا أو توصلنا إليها، لكنه ليس فرقًا في العقل والذهن والذكاء والجهد والكفاح. وعلى ذلك، يجب، على الرغم مما بلغناه في الوقت الحاضر من أسباب الحضارة والمدنية، أن ننظر نظرة احترام وتقدير إلى التراث الذي خلَّفه لنا الماضي، ومع ذلك، أن نتعامل معه على أنه تراث حي، حياته متجددة، لأنه في كلِّ يوم يُضاف إليه جديد. فليس هذا التراث قد تحجَّر أو تقوقع على القديم البالي، لكنه بمثابة كائن حي، يتغذى بالجديد ويتنفس بالحياة وينمو ثم يتكاثر، شأنه شأن الجسم الحي، تتلف بعض خلاياه فتسقط وتحل محلَّها خلايا أخرى. ومع أنه يمكن أن يقال إن جميع الخلايا تتغير تغيرًا تامًّا متتابعًا في مدى سبعة أعوام، فإن الشخصية الإنسانية، على الرغم من التغير والتجدد، باقية كما هي، ثابتة، بل خالدة، والتغير فيها هو فرصتها الثمينة لتقبُّل الجديد حتى تتمثَّله للبناء والتقدم والازدهار. والدليل على ذلك أن ذهن الإنسان، على الرغم من التغير، يذكر جيدًا كلَّ حدث وكلَّ خبرة وكلَّ علم وكلَّ معرفة انطبعت عليه، فيزداد بها ثراءً وغنًى، بما يبني الشخصية الإنسانية في طريق صاعد وإلى الأمام. ومن هنا فإن الإنسان ليس كالحيوانات العجماوات: فالحيوان الأعجم، كلما تقدم في السن ضعف جسمُه، وبالتالي قلَّ نفعُه ورخص ثمنُه؛ أما الإنسان، فكلما تقدمت به السن ضعف بدنُه، لكنه يزداد مع الأيام خبرةً وحكمة، فتعلو، بالتالي، قيمتُه، ويصير الشيخ مثله كمثل عمارة عالية شامخة بُنِيَتْ على أساس، ثم وُضِعَ فوق الأساس مدماك، حتى أصبحت العمارة سامقة. وهكذا الإنسان: كلما تقدمت به السن ازداد خبرةً وحكمة، بحيث يمكن له، في بعض مراحل عمره، أن يمرِّر خبرتَه وعلمَه إلى الشباب الناشئ، فينتفعوا بخبرته بما يغنيهم عن أن يبدأوا الرحلة من أولها، وإنما يمكن لهم، بالتعلم والتتلمذ والتقبل، أن يبدأوا من حيث انتهى الكبار، فتتقدَّم بهم الإنسانيةُ خطواتٍ وخطوات. بهذا يكون الماضي قد خدم الحاضر والمستقبل، والماضي قد قدَّم للحاضر والمستقبل حجرًا أو أحجارًا يستند إليها ويقوم عليها، فيعلو على الماضي عزَّة وشموخًا. ولكنه فيما يعلو لا يغتر بارتفاعه، إذ هو مستند إلى أساس، هو العَتَب الذي يقوم عليه الدَّرَج الذي عَرَجَ عليه الذين صعدوا من المحدَثين، فبلغوا ما بلغوا من العلوِّ والتقدم والازدهار. وإذن، فقد وجب على جيلنا، نحن أبناء العصر، أن نحترم التراث الذي وصل إلينا عبر الأجيال. فحتى لو كانت لنا نظرةٌ مغايرةٌ إلى مضمون التراث وتفصيلاته في ضوء العلم الحديث، يجب مع ذلك أن لا نتنكر لهذا التراث. * * * ونحن في الشرق أصحاب تراث ضخم – أكبر مما لأهل الغرب من تراث –، ليس فقط لأن الشرق منبع الأديان، وإنما أيضًا لأنه منبع الحضارات. والعلماء من أهل الغرب يرددون اليوم هذه المقولات، ويشيدون بحضارة الشرق، ويعلِّمون أبناءهم في المدارس والجامعات أنهم مدينون للشرق بالكثير – بل الكثير جدًّا –، خصوصًا بالأصول الحضارية التي أخذوها عن الشرق. وفي تاريخ الفلسفة، إذا وجد مؤرِّخو الفلسفة في إحدى الفلسفات عناصر روحية، يقررون أنها مأخوذة من الشرق. وهذا ينسحب على الفلسفة اليونانية بعامة، كما ينسحب على الفلسفة الحديثة. وقل الشيء نفسه عن الحكمة القديمة: فهي أيضًا شرقية الأصول، سواء في بلاد الشرق الأدنى، ومنها على الخصوص مصر وسورية والعراق وإيران وفلسطين، أو في بلاد الشرق الأوسط، أي شبه القارة الهندية، أو في الشرق الأقصى، ومنها على الخصوص الصين واليابان. وإلى اليوم، نجد علماء الغرب وأدباءه يتتلمذون على الحكمة القديمة، يشيدون بها، ينقلون عنها لشعوبهم، ويترجمون عنها إلى اللغات الحديثة. ولذلك وجدنا من الغربيين مستشرقين جذبتْهم وأثارتْهم علومُ المشرق وحضارة الشرق القديم، منهم مَن وهبَها حياته، فترك تخصصه العلمي والفني وانجذب نحو علومها، ومن شدة ولعه بها أطلق لحيته وشاربيه على الطريقة الشرقية تعبيرًا عن حبِّه للشرق وشغفه بالحضارة الشرقية. وقد رأينا بعض الغربيين يسعى إلى الشرق ويرحل إليه في سياحة علمية أو روحية بتردده عليه مراتٍ ومرات؛ وبعضهم ممَّن تسمح له ظروفُه هاجر إلى الشرق هجرةً كاملةً أو هجرةً جزئيةً لأنه أحبَّ الشرق وعشقه، وصار يدافع عنه بحماسة كبيرة، أكبر من حماسة الشرقيين للشرق! حتى إن بعضهم تحمَّل في سبيل الدراسات والعلوم الشرقية ما تحمَّله الأنبياءُ في سبيل دعوتهم، فنال من التحقير والازدراء والاستهجان من مواطنيه ما ناله الأنبياء، فضلاً عن أنه لم يجد من الجامعات الغربية، في مبدأ الأمر، أو من الحكومات، ما يشجِّعه على دراساته في الشرقيات، فكان ينفق على شراء المخطوطات ومصادر العلوم الشرقية من دخله الخاص. وفي سبيل رسالته التي لم يفهمها أهلُ بلده عاش فقيرًا، وقنع بملابس بالية في حياة قاسية شبيهة بحياة الرهبان، حتى نعتَهم بعضُ علمائنا الشرقيين بالزهد في سبيل العلم، وقالوا عنهم إنهم "رهبان العلم"! فالدراسات المصرية القديمة، على سبيل المثال، اهتم بها الغربيون قبل أن يتنبَّه لأهميتها المصريون المحدَثون. أما المصريون فقد غلب عليهم الاعتقادُ أن هذه الحضارة المصرية القديمة "وثنية"، ولذلك يجب أن تُستبعَد وأن تُطمَسَ معالمُها، ولم يتنبَّه لها المحدَثون من المصريين إلا بعد أن سبقهم إليها الفرنسيون والإنكليز والألمان والطليان والروس والأمريكان وغيرهم من علماء الغرب، وصار المولعون بالدراسات المصرية القديمة من المصريين يذهبون لدراستها في بلاد الغرب ويدرسونها على علماء الغرب. وهكذا صنع الغربيون بالدراسات الشرقية الأخرى: ما خلَّفه الأدبُ السرياني القديم، والأدبُ العربي، والأدبُ الفارسي، وغير ذلك من مواضيع الدراسات الشرقية. وهكذا صنع أهل الغرب في دراسة العلوم الروحية والحكمة القديمة في الهند والصين وغيرهما من بلاد الشرقين الأدنى والأقصى التي كُتِبَتْ بلغاتها تلك العلوم وتينك الحكمة أصلاً. * * * لماذا، إذن، نتردد بين الأصالة والمعاصرة؟ إن لنا تراثًا في الشرق مجيدًا. وهذا التراث المجيد يجب أن نعتزَّ به وأن نحييه. وفي سبيل إحيائه لا نتردد عن أخذه من علماء الغرب إذا لم يكن ميسورًا لنا أن نأخذه من ينابيعه الأصيلة بسبب جهلنا باللغات القديمة التي كُتِبَ بها. ونحن لا ننسى في هذا ما كُتِبَ على مدى التاريخ في اللغة العربية القديمة الأصيلة، حتى بات علماءُ الغرب أعلم بعلوم الشرق وحكمة الشرق وأدب الشرق من أهل الشرق أنفسهم، وصار أهل الشرق يدرسون فلسفة اليوغا في اللغات الإنكليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية بدلاً من أن يدرسوها بالسنسكريتية وما إليها من اللغات الهندية التي كُتِبَتْ بها أصلاً. وهكذا تبيَّن أن الغرب تتلمذ على الشرق، ثم قدَّم للشرقيين علومَهم وحكمتَهم بلغات الغرب التي صار الشرقيون يفهمونها أكثر مما يفهمون اللغات الشرقية الأصلية. وهنا يجيء دور الترجمة وأهميتها في حياتنا المعاصرة. إننا، نحن أبناء الشرق العربي، صرنا في افتقار شديد إلى معرفة تراثنا الشرقي، وخصوصًا التراث القديم الذي كُتِبَ أصلاً بلغات أو لهجات أو خطوط قديمة أمست غير مستخدَمة الآن، فصار أيسر علينا أن نقرأها بالإنكليزية أو الفرنسية أو الألمانية أو غيرها من اللغات الحديثة، لأن علماء الغرب نقلوها إلى لغاتهم. فإذا قرأناها نحن باللغات الأجنبية الحديثة، فهذا الانفتاح على الغرب يفيدنا لأننا نجد فيه "بضاعتنا (القديمة) وقد رُدَّتْ إلينا". ولكي نفيد منها نحن، وتفيد منها شعوبُنا الشرقية بعامة والعربية بخاصة، صارت تلزمنا حركةُ ترجمة واسعة من كتب الغرب إلى لغتنا العربية. وهذا فيه إثراءٌ لأدبنا العربي، سواء بنقل النصوص ذاتها المدوَّن بها تراثُنا الشرقي والعربي، أو التعليق عليها ومناقشتها ونقدها ودراستها من جانب المستشرقين من أهل الغرب. * * * إذا كان الأمر كذلك، فلم يعد صحيحًا ما نُسِبَ إلى روديارد كپلنغ من قول: "الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا." فالواقع اليوم أن الشرق والغرب صارا يلتقيان على صعيد العلم والمعرفة والثقافة. فإن الغرب أخذ من الشرق الكثير – ومازال يأخذ –، وعلماء الغرب يعترفون بغنى الشرق بالتراث الديني والروحي والحضاري. حقًّا إن الغرب تقدَّم كثيرًا في أسباب المدنية، وحقق للبشرية خيرًا كبيرًا باكتشافه للنظريات العلمية والقوانين الكونية، وبنى على تلك النظريات والقوانين أدواتٍ وآلاتٍ وأجهزةً في الميادين كافة، من هندسة وطب وفلك وعلوم فضاء، فضلاً عن الطبيعيات والكيميائيات، ثم الإلكترونيات بتطبيقاتها المذهلة في الاتصالات. وصار الإنسان المعاصر يتمتع بامتيازات وقدرات سهَّلتْ عليه الحياة وأزالت من طريقه العقبات، فتغلَّب على الصعوبات والمعوِّقات التي كانت تعوق حركته في الماضي، فأخضع الحيوان والنبات وبعض قوى الطبيعة أيضًا لسيادته، وصار في مقدوره أن يقطع المسافات البعيدة، برًّا أو بحرًا أو جوًّا، في ساعات، بعد أن كان في الماضي يبقى قعيدًا في بلاده يكاد أن لا يفارقها، وإن قصد المفارقة إلى بلد قريب قضى في السفر شهورًا وأيامًا. لقد صار في إمكانه اليوم أن يضغط على زر، فيصعد إلى علوٍّ شاهق بمصعد كهربائي، أو ينزل الدرج الكهربائي دون أن يستخدم قدميه في النزول، وصار في مقدوره أن يضغط على زرٍّ أو أزرار، فتقدم له الآلةُ وجبةً شهيةً كاملةً أو تقدِّم له شرابًا باردًا أو ساخنًا كما يشاء. هذه الكشوف العلمية والمخترعات الحديثة والأجهزة الحاسبة أو التسجيلية، في كلِّ ميدان من ميادين الحياة، صارت في متناول الإنسان الشرقي، كما هي في متناول الغربي، سواء بسواء. ومن الحماقة والجهل أن يرفض الإنسانُ الشرقي الانتفاع بما حقَّقه الإنسانُ في الغرب من كشوف ومخترعات، لأن ما تحقق في الغرب صار ملكًا للإنسانية كلِّها، في الغرب والشرق على حدٍّ سواء. فمن خطل الرأي أن يقنع الإنسان بما في الشرق وحده، فيرفض مدنية الغرب بحجة أنها "لا تخصه"! لقد صار العالم موصولاً بعضه ببعض، وذلك بفضل وسائل المواصلات الحديثة من جهة، وبفضل اتساع نطاق وسائل الإعلام: من صحافة، إلى إذاعة، إلى إرسال سلكي ولاسلكي وبث تلفزيوني، وصار الناس تجمعهم وحدةٌ فكرية، لا هي شرقية ولا هي غربية، وإنما صارت تضمهم وحدة إنسانية جامعة. نعم، كلنا، في الشرق كما في الغرب، نسير خطواتٍ حثيثةً وسريعةً نحو المذهب الإنساني Humanism الذي يجمعنا، شرقيين وغربيين، وصار الشرق والغرب يلتقيان في مؤتمرات يدور فيها حوارٌ تزول فيه، شيئًا فشيئًا، عصبيةُ الشرق للشرق وعصبيةُ الغرب للغرب. ولقد صار الحوارُ في هذه اللقاءات كلِّها قادرًا على كسر حدة الفوارق بعد أن أصبح كل إنسان، في كلِّ لقاء يجمعه بغيره، يأخذ منه ويعطيه – حتى بات من الصعب أن يحدد الباحثُ مدى ما يأخذه الإنسان بالنسبة إلى ما يعطيه، أو ما يعطيه بالنسبة إلى ما يأخذه. وبذلك تصالَح الشرق والغرب، ولم يعودا مفترقَين، متباعدَين متخاصمَين، وإنما شيئًا فشيئًا ذابت الفوارق، واقتربت الروحُ إلى الروح، والعقلُ إلى العقل، والقلبُ إلى القلب، حتى كاد الجميع ينصهر في بوتقة واحدة ليصير الاثنان كلاًّ واحدًا هو الإنسان: الإنسان كله، وهو الإنسان بعينه، سواء كانت جذورُه من الشرق أو جذورُه من الغرب. وإذن، فنحن نرى في وضوح اتجاه الناس في زماننا إلى عصر الإنسانية الواحدة. وفي أكثر من مجال، اتجهت الأمم والشعوب إلى الحكومة الواحدة، سياسيًّا، وثقافيًّا: أما سياسيًّا، فالحكومة الواحدة تتمثل في المنظمة العالمية: هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن؛ وأما ثقافيًّا، فالحكومة الواحدة تتمثل في اليونسكو والهيئات العالمية الأخرى التي تضم أعضاء من أمم وأجناس مختلفة تجمع بينهم وحدةُ العلم والثقافة والفن والأدب والاقتصاد والصحة العالمية. وأعضاء هذه المنظمات هم من الشرق ومن الغرب، ولا يتميز أحدهم عن الآخر بانتماء إقليميٍّ أو عِرقي، بل انتماؤه كله هو إلى العلم والفن والأدب والحكمة وصنع الخير للإنسان، من حيث هو إنسان، بغضِّ النظر عن لونه أو جنسه أو ثقافته؛ وكلهم يتكلمون لغة واحدة هي لغة العلم والخير والفن والجمال، وهي القيم الإنسانية العامة المجردة من كلِّ ما يخصِّصها للشرق أو الغرب. هذا الاتجاه الأخير الذي يسير نحوه الباحثون والدارسون والعلماء والخبراء وقادة الشعوب هو الاتجاه الصحيح الذي ينبغي أن نغذِّيه وننمِّيه، وهو الكفيل بأن يقضي على جميع الخلافات والمنازعات التي تفرِّق بين الناس. * * * ملاك القول إننا نحن، في بلاد الشرق العربي، علينا أن نتأمل ماضينا، لا لكي نرجع به إلى الوراء، ولا لكي نتقوقع وننعزل عن العالم الذي يجري نحو التقدم والازدهار، وإنما لنأخذ منه حصيلةً حضارية، نعتز بها، ورصيدًا لمسيرتنا إلى الأمام. فإذا استهوتْنا مدنيةُ الغرب، فلا يغرينَّنا ما بلغه بعض الغرب من احتقار لتراثنا العريض العريق أو إهماله أو نسيانه – ففيه غنًى لا ينضب. ومع ذلك، ومع رجوعنا إلى الماضي وتقليبنا في تراثنا المجيد واستجلائه، فلا نغلقنَّ الأبواب والمنافذ دوننا، خوفًا على أنفسنا من "غزو" الغرب الثقافي والفكري والعلمي. إذ إن خوفنا من غزو الغرب الفكري والثقافي والعلمي لم يعد له ما يبرِّره؛ وإنما لقد صرنا جميعًا، بفضل ما نعرفه من تراثنا التليد، نتمتع بمناعة تقينا شرَّ ما نظنه من عدوى ضارة تجيئنا من صلتنا بالغرب. إن الانتقال المتبادل بين الشرق والغرب حقيقة؛ وهو ضرورة تقتضيها حقيقةُ الواقع، أبينا أو قبلنا. ولكن لماذا نأباها أو نخشاها، وفيها خير وبركة ونفع، يضيف إلى تراثنا ولا يُنقِصُه، ينمِّيه ولا يُفسِده، لاسيما في خصوص العلماء وقادة الفكر الذين يقتحمون الميادين كلَّها، في الشرق والغرب، من دون خوف من "عدوى" ضارة مزعومة؟ فهم يضيفون إلى حكمة الشرق أفضل ما استطاع الغرب أن يحقِّقه ويتحقق به من خير لتقدم الإنسانية وازدهارها ونموِّها ورخائها. *** *** ***
عن الناقد، العدد 13، تموز (يوليو) 1989 |
|
|