منطلقُ الوجوديَّة وعيُ الوجود

الحسُّ واحد: حسُّ الجمال، حسُّ الدهشة أمام الجميل

مفتوح على الكل وكنتُ دائمًا على هامش الحياة وليس في لبِّها

 

آخر حوار مع عزمي موره لي

 

الموره لي (1916-1995) الذي توفي منذ أيام – وكنت التقيت به قبل شهرين فقط من وفاته – ما أظنه كان متفردًا في دعواه بعدم الانتماء إلى شيء، أو بالانتماء إلى اللاانتماء. هناك كثيرون يعيشون ويموتون دون أن يُحسَبوا على شيء، ودون أن يحتكوا بشيء؛ أما عزمي موره لي، فـ"لا ينتمي" من منطلق فلسفي بحت.

كاتب "وجدانيات متفلسفة"، إنْ صحَّ التعبير، شاعر بلغة غير لغة قومه، ليس له دور فعال كمثقف ينتمي إلى عالم محدد، لكنه يصف نفسه بأنه "التاريخ"! فعل كثيرًا، لكنه لم يفعل شيئًا بعينه. حتى شعره بالفرنسية الذي تُرجِمَ إلى العربية، تُرجِمَ بمبادرة من المترجمَين، وليس منه. لم ينشر في صحيفة أو مجلة، ومجموعاته الشعرية بالفرنسية التي صدرت في باريس صدرت بمحض المصادفة. فهل هو شاعر عبثي؟ ما الذي كان يريد الموره لي أن يقوله ولم يقله؟

السنون الثمانون التي عاشها – وهو لا يريد من أحد أن يقول له: "مدَّ الله في عمرك"! – تجثم على صدره كأنها كابوس! لماذا؟ ما من أحد جرَّه إلى الحديث عن نفسه وإلى الخروج من "شرنقته". نحن فعلنا لنتعرف إلى شاعر ومفكر من هذا البلد، منسيٍّ ومتروك ومحبَط. وها هو ذا يموت في "دار الحنان" – الدار التي تؤوي عجزة دمشق ومنسييها – دون أن يدري به أحد!

ع.أ.ش.

* * *

 

عادل أبو شنب: ما اسم كتابك الفلسفي الذي يقال إنك صرفت نصف عمرك في كتابته؟

عزمي موره لي: الوعي والوجود.

ع.أ.ش.: هل طُبع؟

ع.م.: لا، لكن الحق علي. كان من الممكن أن يصدر منذ ثلاثين سنة، لكنني مهمل، وبسبب ظروف اجتماعية أو مرضية أو عصابية لم يصدر حتى اليوم.

ع.أ.ش.: الكتاب بالفرنسية؟

ع.م.: طبعًا، فأنا لم أكتب بالعربية! لو كنت أعيش في باريس، وكان لي اتصالٌ مباشر مع الكتَّاب والنقاد والصحافيين ودور النشر، لاختلف الأمر!

ع.أ.ش.: كتبتَ بالفرنسية الشعر. أنت معروف بشعرك، ويقال إن لغتك الفرنسية جيدة جًّدا، لا تقل عن لغة بعض الشعراء الفرنسيين الكبار! فكيف استقبل الفرنسيون مجموعاتك الشعرية التي طُبِعَتْ في باريس؟ – لغتك الشعرية تحديدًا.

ع.م.: أول دار نشر أرسلتْ إليَّ كتابًا كتبه صاحبُها يقول ما ترجمته على ما أذكر:

شعرك أمسكني، جذبني بتعدد الصور التي فيه، بزخم الكلمات، بنبل اللغة. لغتك مزيج من الشعر والفكر والفلسفة. بمجموعتك دمجتَ البدايةَ بالنهاية. أنت لم تَخَفْ من الرعب الكبير، الموت. أنت تدخل إلى قلب الخطر، أنت عرفت سرَّ الحياة الذي لا يصل إليه إلا قلة، والكثرة فيه تغرق.

عراقة مثقلة بالهموم

كان ابن الثمانين قد أعدَّ أطباقًا للصحافي "المغامر" – أو للكاتب "الشجاع"! – الذي جاء لينفض الغبار عن شاعر صامت مقيم في دمشق، يحبها ويكرهها في آنٍ معًا. كان الجو دافئًا (آذار 1995)، وفي صالون بيته[1] في شارع "أبو رمانة" الراقي كان كل شيء يدل على عراقة مثقلة بالهموم.

عزمي موره لي (إلى اليسار) مع مترجمه الشاعر كمال فوزي الشرابي.

كانت ثمة لوحات على الجدران وراديو وتلفزيون وصور ومكتبة زاخرة بكتب بالفرنسية وبنسخ محدودة من كتاب رؤى الذي صدر بالعربية ترجمةً لكتابه رؤى. والمترجِم الأثير عنده هو كمال فوزي الشرابي. أما كتابه الآخر احتضار ذكرى الذي ترجمه شوقي بغدادي وصدر عن وزارة الثقافة السورية، فليست لديه منه نسخة واحدة! وفي إقامته لأشهر قليلة في "دار الحنان" لم يحمل معه أيًّا من كتبه!

ع.أ.ش.: ألم تكتب الشعر بالعربية؟

ع.م.: أبدًا. ما تعلمتُ العربية أصلاً! ولدت في العام 1916، وكان أهلي يتكلمون التركية[2]. وفي العام 1922، كانت العربة [عربة الخيل] تحملنا إلى مدرسة "الفرير" من بيتنا في حي "القنوات"، تحت "القنطرة". كان التدريس بالفرنسية، وكانوا يمنعوننا من الحكي بالعربية!

ع.أ.ش.: أين تعلمتَ اللغة العربية إذًا؟

ع.م.: كانوا في "الفرير" يعطوننا ساعة عربي يوميًّا فقط. وعندما قامت الثورة السورية [1925-1927] انتقلت الأسرةُ إلى بيروت، وأكملتُ الدراسة بالفرنسية، لكنني لم أصل إلى الدراسات العليا. أنا لا أملك شهادات!

ع.أ.ش.: متى أقمتَ في باريس؟

ع.م.: بعد الحرب مباشرة... ذهبت وأقمت فيه خمس سنوات. كانت أوروبا في حالة صقيع، ظلام وبرد وجوع... وفي تلك الفترة، تعرفت إلى أنواع مختلفة من البشر، أدباء وشعراء ومجانين ومومسات وكذابين ودجالين...

ع.أ.ش.: مَنْ مِنَ الأدباء تعرفتَ إليه في باريس وقتئذٍ؟

ع.م.: أذكر أرتور أداموف[3]. هو غير معروف في العالم العربي، مع أنه أحد ثلاثة ابتكروا العبثية وكتبوا فيها. كان يتقن الألمانية، وقد ترجم فلسفة جميع الوجوديين الكبار.

ع.أ.ش.: أكان في اتجاه سارتر؟

ع.م.: الوجودية ليست مرتبطة بسارتر؛ هو واحد ممَّن أوجدوها.

ع.أ.ش.: أنت منتمٍ إلى الوجودية في شعرك وفلسفتك إذًا؟

ع.م. [في حدة، كأن هذا السؤال غلط!]: يجب أن نتكلم عن هذه النقطة: أنا لا أنتمي إلى شيء، يا أستاذ! "انتمائي" إلى الوجوديين يعني أنني حددت انتماءً قطعيًّا، كانتمائي إلى الماركسية أو إلى فكرة سياسية معينة. أنا مفتوح على الكل.

ع.أ.ش.: الانتماء إلى اللاانتماء؟

ع.م.: دخلتُ إلى التاريخ لا كمؤرخ، بل صرت أنا التاريخ. هذه نقطة دقيقة، أرجوك! المؤرخ يعطيك أرقامًا ويُطلِعك على حوادث. أما أنا – وآسف لأنني أتحدث عن نفسي بهذا الشكل! – فأعيش الحركة الإنسانية كلَّها، من داخلها ومن خارجها، أمتص الأشياء، أتمثَّلها، ثم أُخرِجُها... الوجودية درجت وتبهدلت، وهي شيء مختلف. أنت "وجودي" لأنك موجود – هذا هو منطلق الوجودية: المنطلق الأساسي هو الإنسان الموجود، وجميع الظواهر التاريخية والأساطير والشعر والفنون والأديان أساسها وعي الإنسان، هذا الموجود. فالوجودية هي إذًا ذات الإنسان الموجود.

الشعر لا يُترجَم

لم يكن أمامي ما "أبارز" فيه الشاعر الفيلسوف عزمي موره لي لأن كتابه الوعي والوجود لم يظهر بعد. كانت أمامي مجموعتان شعريتان مترجَمتان عن شعر للموره لي بالفرنسية: واحدة من ترجمة شوقي بغدادي والأخرى من ترجمة كمال فوزي الشرابي. فقلَّبتُ المجموعتين وقلت:

ع.أ.ش.: تُرجِمَ شعرُك إلى العربية. ما رأيك بهذه المحاولة؟ وهل قرأتَ الترجمة؟

ع.م.: الشعر أصلاً لا يُترجَم! يجب أن ينسى المترجم أنه يترجم، يجب أن يعيش الشعر من داخله. أكثر مَن قدر على ترجمتي أدونيس. ترجم قطعة من الساحر، ونشرها ذات يوم في صحيفة النهار. كانت ذروة من الذروات، وأحدثت ضجة! لكن ما ترجم لم يكن شعرًا صرفًا، كان شعرًا وفكرًا ووجدانيات، وفي اختصار، معاناة تشبه معاناة فاوست التي أبدعها غوته، معاناة الإنسان أمام الولادة، أمام الموت، وأمام الحياة.

ع.أ.ش.: أعرف أنك تعزف على العود...

ع.م.: نعم، كنت أعزف جيدًا...

ع.أ.ش.: من أين نشأ عزفُك؟ وحدَك؟

ع.م.: نعم، منذ كنت صغيرًا... لم أتعلم، لكنني عزفت...

ع.أ.ش.: أهي هواية شبيهة بنَظْم الشعر بالفرنسية؟

ع.م.: هذا سؤال يحتاج إلى توضيح في الإجابة: إنسان تتوفر له الموهبة، أي الحساسية الموجودة في تكوينه، لا يستطيع أن يعرف أين تتجه به موهبتُه، أإلى الرسم أو النحت أو الشعر أو إلى كل شيء. أحس الموسيقى كأنها شعر، والشعر كأنه موسيقى. أحيانًا يتفجر فنانٌ في وقت واحد. الحس واحد – حس الجمال، حس الدهشة أمام الجميل –، والوسائل تختلف باستخدام العين أو الأذن، أو لنقل الممر من الخارج إلى الداخل. الداخل واحد.

ع.أ.ش.: سؤالي أصلاً عما إذا كنت قد مارستَ الشعر بالطريقة نفسها التي مارستَ فيها العزف؟

ع.م.: نعم، الشعر نَبَعَ وحده. منذ كنت في الثالثة من عمري كنت أعيش الشعر: كنت أُدهَشُ من كلِّ شيء أراه وأحس به، لم أكن أشبه الأطفال الآخرين. الشعر لم يأتِ "من برَّه"، بل كان جزءًا من تكويني ومن حساسيتي. ربما من رواسب قديمة أتى، من الفراعنة أو من التتر، من اليونان أو من الهند! الشعر شاركني في كلِّ لحظة من لحظات حياتي. أنا أتكلم شعرًا!

ع.أ.ش.: وتفكر بالشعر؟

ع.م.: نعم، أعيش الشعر.

ع.أ.ش.: القليل الذي طلع ونُشِرَ هو قليل من كثيرك الشعري الذي لم نطَّلع عليه...

ع.م.: ولا عشرة بالمائة! ومع ذلك، فالذي نُشِرَ بقي ثلاثين سنة قبل أن أنشره. من الصعب أن أشرح ذلك... تستطيع أن تسميه "القدر الأسود" الذي شاركني حياتي، وهو نفسه الذي أغرقني في وحدتي.

السخرية تخفف الضغوط

كان في كلام عزمي موره لي نكهة سخرية. وصارحتُه بأن المرارة التي يتكلم بها مغمَّسة بسخرية، كأنها فلفل حار، فقال:

ع.م.: أنا إنسان جاد، وقد حدثتك في جدية... لكن السخرية تخفف الضغوط الفكرية وتمنحني بعض راحة ذاتية، مثلما قد تمنح الآخر، أي المخاطَب.

ومع كأس، وعلى الرغم من سمعه الثقيل وعينيه اللتين خفَّتْ فيهما الرؤية و"پپِّيونه" الذي يحيط برقبته – ولم يتخلَّ عنه قط رباطًا للعنق! –، وبانتصاب جذعه وهو في الثمانين، وبأرقه الذي تحدث عنه كثيرًا، أطلق الطلقة الأخيرة من مدفع حياته القديم، قال:

ع.م.: هذا مصيري. الآلهة أو الشياطين أرادته لي! كنت دائمًا على هامش الحياة، وليس في لبِّها. لم أتبع مؤسسةً أو حزبًا. لست "ملحقًا" بشيء، مستقل تمامًا، فرد فلتان كصاروخ...

كان كتابه الوعي والوجود، الموجود في إحدى دور النشر الفرنسية المختصة بنشر الفلسفيات، الخيط الوحيد الباقي من عزمي موره لي واحتكاكه بالحياة. طُلِبَ إليه أن يحذف ويعدِّل. صاحب الدار فيلسوف مثله، فقبل أن يفعل، ويقوم المثقف السوري البارز [المرحوم] أنطون مقدسي بالإعداد أو بالتدخل لظهور كتابٍ ظلَّ موره لي خمسين سنة يكتب فيه. فهل سيظهر الكتاب المنتظَر قبل أن يُفرِغَ الشاعرُ الفيلسوف كأسه الأخيرة في جوفه؟ لقد لفظ أنفاسه والكتاب المنتظَر مازال حبيس الأدراج.

ستدمِّر نفسك عندما تكتشف أنه لا يوجد شيء. الموت؟ ستعيش أيضًا، وأنت تترقب أن تكتشف أنه لا يوجد شيء. (من رؤى)

هكذا قال شعرًا بالفرنسية. إنها نبوءة للشاعر السوري، الكاتب بالفرنسية، عزمي موره لي الذي شُيِّعَ إلى مثواه الأخير، وكان عددُ مشيِّعيه أقل من عدد أصابع اليد!

*** *** ***

التقى به: عادل أبو شنب

 

أعمال عزمي موره لي بالفرنسية

-        الساحر، 1974، 1975، 1986

-        الاقتراب، 1975، 1979

-        رؤى، 1980

-        احتضار ذكرى، بلا تاريخ

-        الوعي والوجود، تحت الطبع

أعماله المترجمة إلى العربية

-        الاقتراب، 1990

-        احتضار ذكرى، 1991، بترجمة شوقي بغدادي

-        رؤى، 1994، بترجمة كمال فوزي الشرابي


[1] الواقع أن هذا البيت كان لرفيقة عزمي موره لي، الشاعرة الراحلة ناديا نصار. (المحرِّر)

[2] بواقع أن البلاد كانت ما تزال من ضمن الإمبراطورية العثمانية. (المحرِّر)

[3] كاتب مسرحي فرنسي روسي الأصل (1908-1970): تطور مسرحُه من الرمزية المأساوية (المحاكاة الهزلية، الپروفسور تاران) إلى الواقعية السياسية (الپنغ پونغ، پاولو پاولي، ربيع 71). (المحرِّر)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود