|
الصوفيَّة والشِّعر التصوُّف موضوعٌ يمكن له أن
يغري أيَّ دارس، وذلك لغناه وتشعُّبه
وامتداده، وكذا لما يحفل به من أسرار.
فالتصوف، بحسب أدونيس، مرتبط بما هو خفي؛
وهذا "الخفي" لا يمكن له إلا أن يأسرنا
لخفائه، ولا يمكن له إلا أن يشوِّقنا لبُعده
واحتجابه، خصوصًا إذا ما تم ربطُ هذا "الخفي"
بخفيٍّ آخر، وهذا المحتجب البعيد بمحتجب بعيد
آخر، ألا وهو الشعر. بما
أن المتصوفة هم أصحاب ذوق، يعيشون
تجاربهم الوجدانية من خلال انفتاحهم على
الفن، من سماع وخط، فقد كان من البديهي أن
يحتل الشعرُ الحيز الأكبر من هذا الانفتاح: خَبِرَ الصوفيةُ منذ وقت مبكر
إمكانات الشِّعر، لا في التعبير عن مواجدهم
فحسب، بل وفي إنتاج معرفة بالوجود وبالإنسان
كذلك.[2] ومن
ثم فقد حرصوا على الاتصال بالشعر، دون انتقاء
موضوعات معينة أو الاقتصار على شعراء بعينهم
أو على شعر مرحلة زمنية دون أخرى. فنحن [...] نعثر في كتب الصوفية على أشعار
امرئ القيس ولبيد وقيس ليلى وجميل بثينة وأبي
نواس وأبي تمام والمتنبي وغيرهم [...].[3] وهذا
يوضح مدى متانة علاقة الصوفية بالشعر: فهُم بهذا أصحاب ذوق، وأهل شعر، يصعب
عليهم أن يعيشوا تجاربهم الروحية دون أن يكون
للشعر نصيبٌ في إحياء قلوبهم الظامئة،
ونفوسهم المتعطِّشة، وأرواحهم التي تطرب
لمعاني القصائد الرقيقة.[4] وهذا
دأبهم في الاستماع إلى الشعر وفي تنظيم مجالس
خاصة به، وذلك للوصول إلى حالة الوجد: حاجة التصوف إلى الشعر جاءت تلبيةً
لرغبات مجالس الصوفية التي تتخذ من السماع
بابًا من أبواب تحقيق اللحظة الصوفية التي
ينسى فيها المريدُ مكانه وزمانه، ويندمج في
الزمن الروحي الذي لا تقيِّده الدقائقُ
والساعات، وينخرط في حال الوجد والهيام.[5] وعلاقة
المتصوفة بالشعر لم تقتصر على السماع
والقراءة والاستهلاك، بل تعدَّتْها إلى
الإبداع والإنتاج، فسجَّل لنا تاريخ التصوف
متصوِّفة شعراء أبدعوا في الشعر بالقدر الذي
أبدعوا في تصوفهم: بعدما شاع التصوفُ وقويت شوكتُه، ظهر
بين المتصوفة شعراءٌ أخضعوا الشعر للتجربة
الصوفية.[6] وفي
هذا الباب، يمكن لنا أن نذكر أسماء شعراء
كبار، أمثال: الحلاج وابن عربي وابن الفارض
ورابعة العدوية وغيرهم. هذا
ويمكن لنا تقسيم الإنتاج الشعري الصوفي إلى
"المنظومات" و"الإلهيات"؛ والمعيار
المعتمَد في هذا التقسيم هو المعيار الفني،
فالمنظومات أقل فنية وشعرية من الإلهيات: المنظومات الصوفية، من حيث الخصيصة
الفنية، هي أقرب إلى النَّظْم منها إلى الشعر.[7] كذلك
فقد [...] استعان الصوفية بالنَّظْم في
مسعاهم التربوي لتعليم أبجديات التصوف
للمريد، وظهر عندهم ما يسمَّى بالشعر
التعليمي أو المنظومات الصوفية.[8] وبالتالي،
فغلبة الجانب التعليمي على هذه المنظومات
أفقدها روح الشعر وماء الفن، [...] شأنها شأن النَّظْم التعليمي
الذي ظهر عند النحاة واللغويين وأهل الفقه
والحديث ليساعد على حفظ القواعد وذيوعها بين
المتعلِّمين.[9] وبالتالي: [...] فإننا يمكن اعتبارها الحدود
السفلى للشعر الصوفي.[10] أما
موضوعات هذه المنظومات، فقد توزعت بين
القواعد الذِّكْرية والقواعد الأخلاقية
للتصوف، مثل مفاهيم الاتصال بين الحق والخلق،
ونظرية الوحدة، ومعنى الاتحاد، ومفهوم
الربوبية، ومفهوم العبودية، وحقيقة الأشياء،
والحقيقة المحمدية، والحمد للذات الإلهية؛
وكذا خصال المتصوف وصفاته في خلوته مع نفسه
وفي المجالس التي تجمعه مع أمثاله من
المريدين، إلخ. أما
القسم الثاني من الشعر الصوفي، وهو الإلهيات،
فيُعتبَر أرقى ما خلَّفه لنا وأبدعه الصوفية
من شعر؛ فهو على درجة كبيرة من الفنية
والجمالية. وإن تحققات هذا الشعر تمَّتْ من
داخل الوزن ومن خارجه؛ بل إن المنثور من هذا
الشعر أعلى قيمة من منظومه، وذلك لغناه
بالإشارة والرمز والإيحاء، ولانفتاحه على
المتعدد من المعنى والصور. ويتجلَّى ذلك، في
شكل خاص، في كتابات النفَّري (المواقف والمخاطبات)
وأبي حيان التوحيدي (الإشارات الإلهية)
والبسطامي (الشطحات)، كما وفي كثير من
كتابات محيي الدين بن عربي والسهروردي
المقتول وغيرهم. وهذا القسم من الشعر الصوفي
اجتذبتْه موضوعات الأحوال والأسرار والحب
الإلهي. ويمكن لنا إجمال سماته الفنية
والجمالية التي جعلتْه ينتسب إلى جنس الشعر (دون
احتساب خصيصة الوزن) في نقطتين كما يلي: أ. الخيال: فقد أولاه الصوفية
عناية خاصة. ومن هؤلاء: ابن عربي، الذي عرَّف
الخيال على أنه الحد الفاصل بين المعلوم
والمجهول، بين المحسوس والمعقول. وهذا
"الحد الفاصل" يسمِّيه ابن عربي بـ"البرزخ": [...] ومن ثم كان تموقُع
الخيال في منطقة وسطى بين الحسِّي والعقلي،
وهو ما يؤهِّله لالتقاط الحقائق بعيدًا عن
الفصل وبعيدًا عن ضيق الثنائيات.[11] فالخيال،
باعتباره أعظم ما أوجدتْه القدرةُ الإلهية،
يكشف عن قصور العقل ومحدوديته في إمكان
الخيال الجمع بين الضِّدين، ووجود الجسم في
مكانين، والتقاط الشيء في تبدُّله وتقلُّبه،
وغيرها من وظائف الخيال وممكناته غير
المحدودة. وهذا ما يجعل الخيال [...] ركنًا مركزيًّا من أركان
المعرفة لدى الشيخ الأكبر. ومن ثم فإن كلَّ
فصل لتصور ابن عربي للشعر عن تصوره للخيال
ووظائفه يُعَد خللاً منهجيًّا يحول دون
الاقتراب من الموجِّهات المتحكِّمة في رهان
الشيخ الأكبر على الشعر.[12] وإن
رهان ابن عربي على الشعر يتجلَّى في توسُّله
بهذا الأخير تفسير العديد من القضايا الشائكة
وتأويلها، وذلك بالإنصات إلى بيت شعريٍّ أو
مقطع من قصيدة وإلباسه من المعاني والدلالات
ما يجعله يخرج عن معناه الظاهر إلى معنى آخر
مختلف وبعيد. ب. التكثيف: ويتجلَّى في كتابات
الصوفية في أدائهم للمعاني الكثيرة بألفاظ
قليلة وموجزة لا تتعدَّى الجملة الواحدة أو
الجملتين. ولجوء الصوفية إلى التكثيف كان
بضغط من المعاني الكبيرة والرؤى العظيمة التي
تصل بهم إلى حدود ما لا يقال. فهذا "الضغط"
الذي تعيشه روحُهم وتُكابِدُه انعكس في
لغتهم، على شاكلة تلك العبارات القليلة
والموجزة: "كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة"،
بحسب التعبير الشهير للنفَّري. فتكثيف
العبارة وتضييقها هو رد حتمي على عجز اللغة عن
احتواء المعاني الكبيرة، وإيثارٌ للصمت،
وفسحُ مجال أرحب للبياض لكي يختزن فيوضات
المعنى وانهمارات الرؤى. وخاصية التكثيف
نلمسها بشكل جليٍّ في كتابات عبد الجبار
النفَّري، وبالأخص في المواقف والمخاطبات.
فاستشعارًا منه لعجز اللغة، لجأ النفَّري إلى
شكل كتابيٍّ سماه بـ"الوقفة": اتَّسمت الوقفة في الممارسة النصِّية
للنفَّري بالبداية التالية: "أوقفني في ...
وقال لي". وتمثِّل هذه البداية لازمةً
تُفتَتَح بها كل وقفة. كما تتكون الوقفة من
شذرات مكثَّفة يتم الانتقال فيها بعبارة "وقال
لي". وتظل الثيمة التي تدور حولها الوقفة هي
الوصل بين هذه الشذرات المكثفة.[13] أما
بنية المخاطبات فتقوم على هذه لازمة "يا
عبد...". وهذا التكثيف والتشذير، كما قلنا،
هو محاولة للتحرر من سلطة اللغة. فالحرف، عند
النفَّري، هو "حجاب" و"سوى"، أعجز
من أن يخبر حتى عن نفسه؛ فهو، باختصار، "لا
يُعوَّل عليه" (التعبير لابن عربي) في بلوغ
الحقائق المطلقة التي ينشدها الصوفي، لأن
الوقفة لديه هي "وراء ما يُقال"! *** *** *** [1]
باحث من المغرب. [2]
خالد بلقاسم، "مدخل إلى العلاقة بين
الشعر والتصوف"، مجلة البيت، عدد 1،
خريف 2000؛ ص 77. [3]
نفسه، ص 74. [4]
محمد بنعمارة، الأثر الصوفي في الشعر
العربي المعاصر، شركة النشر والتوزيع
المدارس، ط 1؛ ص 349. [5]
المصدر نفسه، ص 350. [6]
المصدر نفسه، ص 349-350. [7]
محمد بنعمارة، الأثر الصوفي...، م.س.ذ.، ص
113. [8]
خالد بلقاسم، "مدخل إلى العلاقة..."، م.س.ذ.،
ص 77. [9]
الأثر
الصوفي...،
م.س.ذ.، ص 113. [10]
"مدخل إلى العلاقة..."، م.س.ذ.، ص 77. [11]
خالد بلقاسم، الكتابة والتصوف عند ابن
عربي، دار توبقال للنشر، ط 1: 2004؛ ص 149. [12]
المصدر نفسه، ص 148. [13]
المصدر نفسه، ص 204.
|
|
|