كارل پوپِّر في ذكراه المئوية الأولى
"المجتمع المفتوح وأعداؤه"

 

حسين الموزاني

 

أحيت الأوساطُ الفكرية والسياسية الناطقة بالألمانية في العام 2002 الذكرى المئوية الأولى لميلاد عالم الفيزياء والإپستمولوجي النمساوي كارل رايموند پوپر Karl Raimund Popper من خلال العديد من الفعاليات والندوات التي تناولت حياته ونشاطه الفكري. وقد عُدَّ تحقيقُ أعماله الكاملة وإصدارُها في خمسة عشر مجلدًا من أبرز ملامح هذا الاحتفاء.

ولد كارل پوپر في ڤيينا لأبوين يهوديين اعتنقا، لأسباب اجتماعية وظيفية، المذهب الپروتستنتي. كان أبوه ثريًّا ومحاميًا مشهورًا، مارس على ابنه تأثيرًا فكريًّا لا يستهان به وأمَّن له تعليمًا واسع النطاق والتنوع، على الرغم من القلاقل في المدينة بعد العام 1918. ويتجلى هذا التأثير في انشغال پوپر المبكر بعلوم الطبيعة؛ إذ دوَّن، وهو بعدُ في السابعة عشرة من عمره، أولى تأملاته الفكرية التي أقام عليها فيما بعد صرحَه الفلسفي، وهي أن منطق البحث المنهجي يجب أن يكون أولاً عبارة عن محاولة لارتكاب الأخطاء ومن بعدُ تصويبها. إذ يجب ألا تُلقى القوانينُ على عاتق الطبيعة، باعتبارها إبداعات لازمة عن القدرة المعرفية، بل يجب أن تُفهَم باعتبارها نتائج "حدس شعري نوعًا ما" لعلاقة تجريب حرة تتاح أمامها إمكانيةُ الاعتراض والدحض والتصويب إتاحةً مستمرة.

حاول پوپر منذ البداية الابتعاد، قدر المستطاع، عن التأثيرات الإپستمولوجية واللغوية الحاسمة التي خلَّفها مواطنُه النمساوي لودڤغ ڤتغنشتاين على ما يُسمَّى بـ"حلقة ڤيينا" (اتصل بها من غير أن يصير عضوًا فيها)، فصار ينظر بعين الشك إلى اهتمام الفلسفة بالتحليل اللغوي البحت، منطلقًا من واقعية مادية صارمة في عرضه المسائل الفكرية في جميع المجالات، معتبرًا أن الحياة كلَّها مجرد حلٍّ ما لمشكلة. وتكمن إستراتيجية مواصلة الحياة، بحسب منهجية پوپر، في كيفية التعامل مع التجربة والخطأ.

لقد جاء التطلع المتزايد إلى نمط جديد في الأسُس العلمية الرصينة بمثابة ردِّ فعل على تهافُت الفيزياء الكلاسيكية في مطلع القرن العشرين. وكان السؤال المطروح آنذاك هو: إذا كانت نظريات متفوقة، مثل علم الميكانيكا الذي وضع نيوتن أسُسَه، قد ثبت خطؤها، أو تبيَّن أنها محدودة بمرجعية ضيقة، فكيف الحال إذن مع نظريات اجتماعية وسياسية قائمة على التأمل والميتافيزيقا؟!

جوابًا على هذا التحدي، قال پوپر بأن الوضعيين positivists أخطأوا إذ ظنوا أن النظرية العلمية تصاغ اعتبارًا من الرصد عن طريق التعميم الاستقرائي inductive generalization؛ كما أخطأوا في محاولتهم تمييز العلم من الميتافيزيقا (التي اعتبروها محض هراء) عبر التحقق التجريبي من قضاياه. فالعلم، في نظره، قضية حدس خيالي، يضبطه عقلانيًّا الإصرارُ على الكشف عن الزيف. فالنظرية "توضع على المحك" بصمودها أمام جهودنا الملحة لدحضها. إذ إن "القابلية للتزييف" falsifiability هي التي تميز العلم من سواه، بما في ذلك الميتافيزيقا. من هنا فإن "غير العلم" nonscience، في نظره، ليس دومًا هراء؛ إذ إن بمقدور غير العلم أن يُلمِع إلى فرضيات قابلة للتزييف، وبالتالي علمية.

لقد بدا لپوپر أن النظرية المعززة بالتجربة والقياس المباشرين والمستنتَجة عبر الاستقراء induction هي وحدها الجديرة بلقب النظرية العلمية. وبحسب اعتقاده، خلافًا لاعتقاد "الوضعية الجديدة" Neo-positivism، فإن المرء لا يصل إلى الحقيقة العلمية إلا من خلال النقض الوجيه، المدعَّم بالأدلة والقدرة الذاتية، على أن تستعيض النظريةُ عن نفسها بنظرية أخرى جديدة ثبتتْ صحتُها من خلال خطأ سابقتها.

وقد اصطلح پوپر على تسمية هذا المنهج التجريبي بـ"اللاعصمة" fallibility، وشنَّ به حملةً شعواء على نظريات كلٍّ من فرويد وماركس التي وصفها بالنظريات القائمة على "العلم الكاذب" pseudoscience، لأنها تعيد تفسير الوقائع الوجيهة المناقضة لتكهناتها تفسيرًا جدليًّا، ومن ثم نفسيًّا، محصنةً نفسها ضد الدحض العلمي القائم على التجربة. ولعل العمل بالنظريات "الناقصة" (أو الزائفة علميًّا) هو من عمل السياسة بالدرجة الأولى. إذ إن ماركس، كما أكد رفيقُه فريدرش إنجلز، لم يكن إلا منظِّرًا للثورة بالدرجة الأولى؛ فلو أن ماركس كان فيلسوفًا منهجيًّا أو عالمًا تجريبيًّا حقيقيًّا، على غرار ماكس پلانك أو ألبرت أينشتاين، لما حظي بهذا القدر من الأتباع والمريدين. فالعمل بالنظرية الزائفة غالبًا ما يؤدي إلى النجاح السريع!

ويخلص پوپر إلى القول بأنْ ليست هناك أية أسُس يمكن للعلم أن يستقر عليها، لأن العلم في الواقع مناقض لكل أساس. كما أن كل حقيقة مستندة إلى التجربة لا يمكن الركون إليها بوصفها حقيقة مستقلة عن النظرية، ولا يمكن الاعتماد عليها بوصفها أساسًا ثابتًا؛ إذ ليس هناك "أساس علمي" لا يمكن دحضه وتفنيده. فمنذ كتابه الأول منطق الاكتشاف العلمي (1934) وهو يدعو إلى ديمومة الأزمة، لأن الأزمة هي "الوضع الطبيعي للعلم العقلاني المتطور تطورًا مطَّردًا"، على حدِّ قوله. والواقع أنه حاول صياغة مقترَب "تطوري" إلى تنامي المعرفة التي لم يرَ فيها شيئًا ذاتيًّا وذهنيًّا، بل نتاج موضوعي قائم بذاته للنشاط البشري (المعرفة الموضوعية: مقترب تطوري، 1972).

وقد جمع پوپر بين النقد والبحث العلمي وبين المساهمة المباشرة في النشاط السياسي، فأصبح فيما بعد أحد المنظِّرين الرئيسيين للأحزاب الاشتراكية–الديموقراطية في أوروبا، بسبب إيمانه بنظرية التطور السلمي التي تعتنقها هذه الأحزاب وتعمل بها، على النقيض من الحركات اليسارية أو الشيوعية المتطرفة الداعية إلى العنف والثورة.

وقد تضمَّن كتابُه الأشهر المجتمع المفتوح وأعداؤه (في جزأين، 1945) نقدًا شديدا لكلٍّ من أفلاطون وأرسطو وهيغل وماركس، فنعتَهم بـ"المبشرين الكذبة"! إذ إنهم، مهما كان مبلغ الاختلاف في فلسفاتهم، يُجمِعون على مسألة واحدة هي إلغاء أهمية الفرد لمصلحة الدولة باعتبارها كيانًا شاملاً. وهو في كتابه هذا يستعمل نظريته في المعرفة لتفنيد "المذهب التاريخي" Historicism، أي فكرة أن العلوم الاجتماعية تستطيع، بل ويجب عليها، أن تنقب عن القوانين العامة للتطور الاجتماعي.

ويؤيد پوپر ما يُسمَّى بمذهب "المنفعة السلبية" القائل بأن الهدف الذي يصبو الإنسانُ إليه لا يجوز أن يكون تحقيق أكبر قدر من الكسب المادي، بل تخفيف حدة المعاناة والبؤس عن كاهل البشرية. فنتيجة للحطِّ من شأن الفرد وتطلعاته لحساب الجماعة، ونظرًا لمحاربة هذه التطلعات باعتبارها وليدة الوعي الذاتي الخاطئ، تكونت الأنظمة الدكتاتورية التوتاليتارية، بشقيها الفاشي والشيوعي، القائمة على نظام الحزب الواحد. ويخلص پوپر إلى القول بأننا

[...] إذا ما أردنا لثقافتنا الاستمرار والتواصل فعلينا أن نُقلِع عن عادتنا بالتخلِّي عن استقلالنا الفكري لمصلحة الرجال العظام.

فالوعي العقلاني يتجسد، قبل كلِّ شيء، في نقد الأوضاع القائمة، وليس في الانبهار أمام العظماء الجبارين. إن أسوأ ما يفعله الإنسان، بحسب پوپر، هو الخضوع لمجرى التاريخ والاستسلام أمام القدر، مؤكدًا على أن التاريخ والقدر لا معنى لهما، بل إن الإنسان نفسه هو الذي يضفي عليهما المعنى والمغزى.

أثير كذلك جدلٌ حول محاولته إقناع بعض الزعماء الأوروبيين بشنِّ غارة نووية مموهة (أي من غير رؤوس نووية) بغية التأكد من القدرة على ردع سياسة التوسع السوڤييتية. وعلى الرغم من أنه أيد الحملة المسانِدة لعالم الذرة الروسي أندريي زخاروف، إلا أنه سرعان ما انتقد زخاروف بعدما علم أنه كان مساهمًا مساهمةً فعالة في تطوير القنبلة الهدروجينية السوڤييتية.

يطلق بعضهم على پوپر لقب "القنفذ" لانشغاله بالمسائل الكبرى على الأصعدة الاجتماعية والسياسية والعلمية، على النقيض من "الثعلب" المكتفي بصغائر الأمور. وواحدة من بنات أفكاره الكبرى هو أننا نستطيع أن نكتشف الزيف ونعرِّيه، بيد أنه ليس في مستطاعنا أن نتوصل إلى الحقيقة أبدًا.

ومع ذلك، فقد طغى الطابعُ العلمي الصرف على نشاط پوپر، حتى إنه تخلَّى شيئًا فشيئًا عن أفكاره المطروحة في كتاب المجتمع المفتوح، وبات يحلم بجائزة نوبل للفيزياء، فعاب عليه بعضُهم هذا الاتجاه الأحادي الجانب، بمعنى أنه إذا أخضع الفلسفةَ للتجارب العلمية الفيزيائية فما الذي سيبقى من تأملاتها وأفكارها الحرة؟

كان پوپر مولعًا بإثارة الجدل والنقاش حول أفكاره. فأثار بنقده لـ"العقلانية النقدية" Critical Rationalism، ممثلةً بـ"مدرسة فرانكفورت" (بؤس المذهب التاريخي، 1956)، حفيظة أدورنو وهابرماس في مطلع ستينيات القرن الماضي، محاولاً تكريس مقترَبه الإپستمولوجي في سيرته الذاتية البديعة البحث غير الناجز: سيرة ذاتية فكرية (1976). وفي أواخر عمره، حاجج پوپر كذلك لصالح عدم قابلية اختزال الذهني إلى المادي، من غير أن يزعم أن الذهن يمكن له أن يوجد في معزل عن الجسم (الذات ودماغها، مع عالم الأعصاب جون إكلز، 1977).

لقد صرف پوپر الشطر الأعظم من عمره خارج النمسا، وبالأخص في بريطانيا، حيث حصل على الجنسية البريطانية في العام 1945، وحيث كتب معظم أبحاثه باللغة الإنكليزية، وحيث عمل أستاذًا في العديد من جامعاتها، مستأثرًا باهتمام الأوساط الأكاديمية والسياسية، ومنها المحافظة أيضًا.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود