|
صِدام
ذاكرات تاريخيَّة في
خلفيَّة صراعات الشَّرق الأوسط هذا
المقال يتضمن استعراضًا لأسباب التناقض
الحادِّ في النظر إلى طبيعة النزاعات في
منطقة الشرق الأوسط بين كلٍّ من العرب، من
جهة، والغربيين، من جهة أخرى. فمن أجل فهم
مواقع التناقض في الرؤى والتصورات وأنظمة
الإدراك عند مَن يراقب التطورات الدرامية على
الساحة الشرق أوسطية ويشاهدها، لا بدَّ من
تفكيك المنظومات الفكرية التي من خلالها
يُنظَر إلى أحداث الشرق الأوسط وإلى العلاقة
المتفجرة بين الشرق والغرب. إذا كان الاتجاه السائد في
الإعلام والأدبيات الأكاديمية يسلِّط
الأضواءَ على العنصر الديني وعلى طغيان الدين
كمحدِّد أوحد للهوية، في الشرق كما في الغرب،
فإن الابتعاد عن هذا الطرح الضيق والأحاديِّ
الجانبِ يفسح المجال واسعًا لطروحات أدق
وأكثر موضوعية من تلك التي ترى أن فحوى
النزاعات في الشرق الأوسط نابعة من صِدام
كتلتين حضاريتين كبريين: الأولى تُسمَّى «يهودية–مسيحية»
والثانية تُسمَّى «عربية–إسلامية». من أجل بناء نظام إدراكي
بديل لتحليل مآسي المنطقة، يجب النظر في دقة
إلى المسارات التاريخية المختلفة والمتباينة
التي تميِّز الأحداث التي حصلت في أوروبا من
الأحداث التي حصلت في منطقة الشرق الأوسط،
وفي شكل خاص المشرق العربي. والحقيقة أن لبَّ
الموضوع يتعلق بتكوين الذاكرات التاريخية
وكيفية استثارة التذكر الجماعي عند العرب
والغربيين. وسنستعرض هنا مواقع تصادُم تلك
الذاكرات أو تناقُضها. الصراع العربي–الإسرائيلي،
على سبيل المثال، ليس ناجمًا عن تناحُر
حتميٍّ بين يهود يستوطنون ديار العرب بمساندة
مسيحيي الغرب وبين عرب مسلمين لا يقبلون
بالتعايش مع هؤلاء اليهود بسبب «انغلاقهم
الديني والثقافي»، كما يُدَّعى في بعض
الأوساط الغربية، إنما هو تصادُم ناتج من
مأساة اليهود الأوروبيين وما عانوه من اضطهاد
مزمن على يد المسيحية الأوروبية، مما ولَّد
الظروف المؤاتية لتأسيس الحركة الصهيونية
التي حظيت بتأييد سياسي وتعاطف كبير من
الدوائر الپروتستانتية في أوروبا في إطار
التوسع الاستعماري والاستيطاني للدول
الأوروبية، وبعد ذلك في إطار ضرورة «التعويض»
عن اضطهاد اليهود بمساعدتهم على إنشاء كيان
خاصٍّ بهم في فلسطين. وينسى معظم الغربيين أنه
ليست للعرب علاقة بما حصل في التاريخ
الأوروبي من اضطهاد مزمن لليهود تم تتويجه بـ«المحرقة»
Holocauste؛
لذلك يصعب عليهم أن يشعروا الشعورَ نفسه الذي
ينتاب العقل الغربي، لسبب بسيط هو أنه لم يكن
للعرب، لا من قريب ولا من بعيد، أي دور في هذا
التاريخ الدموي بين اليهود والمسيحيين في
أوروبا. والمشكلة هنا تكمن في أن الغربيين
يفترضون أساسًا أن العرب يجب أن يشعروا، تجاه
إنشاء دولة إسرائيل، الشعورَ نفسه السائد في
الثقافة وفي الحساسية السياسية الغربيتين،
ويرون – خطأً – أن عدم مشاركة العرب في هذا
الشعور تجاه اليهود ودولة إسرائيل هو نوع من
أنواع «المعاداة للسامية» التي طالما كانت في
أوروبا الدافع الرئيس لاضطهاد اليهود ورفضهم
كمواطنين كاملي المواطَنة على قدم المساواة
مع المسيحيين. أما في خصوص العرب، فإن
تأسيس دولة إسرائيل يعيد الذاكرة التاريخية
إلى الحملات الصليبية أولاً، ومن بعدُ إلى
الحملات العسكرية للعهد الاستعماري الأوروبي
في ديار الشرق، ابتداءً من ناپليون بوناپرت
وانتهاءً بالغزو الأمريكي للعراق، مرورًا
باحتلال الأراضي الفلسطينية وطرد مئات
الآلاف من الفلسطينيين من ديارهم؛ بينما ليس
للعرب في ذاكرتهم الجماعية أية معرفة ومساهمة
واطلاع على ما عاناه أبناء الطوائف اليهودية
من اضطهاد في أوروبا. بل إن ذاكرتهم تقول لهم
إن اليهود عاشوا في ديار المسلمين والعرب في
جنوب حوض المتوسط حياةً طبيعية، في الأرياف
كما في المدن، ولم يعانوا من الاضطهاد؛ ولذلك
لا يمكن لهم أن يقبلوا بأيِّ نوع من الشرعية
لإقامة كيان مستقل لليهود في فلسطين على حساب
السكان المسلمين والمسيحيين. وإذا تمعنَّا في الذاكرة
التاريخية العربية، فإن هذه الذاكرة تحتوي
على ما حصل من طرد جماعي للعرب في إسبانيا
وجنوب أوروبا في القرن الخامس عشر، وكذلك ما
ألمَّ بالمشرق العربي من جرَّاء الحملات
الصليبية المتتالية، بحيث يميل العربي
عفويًّا، بناءً على هذه الذاكرة، إلى
الاعتقاد بأن إنشاء دولة إسرائيل هو متابعة
للحروب الصليبية في شكل متجدد نتيجة تحالُف
بين اليهود الغربيين وبين المسيحية الغربية:
يرى العربي في الحقيقة المسارَ التاريخي
المؤلم الممتد من الحروب الصليبية إلى فترة
الاستعمار الفرنسي والإنكليزي في القرن
التاسع عشر واحتلال هاتين الدولتين لديار
العرب كلِّها تقريبًا، انتهاءً إلى الغزو
الأمريكي للعراق. لذلك يصعب على أيِّ عربي أن
يتقبل الخطاب الغربي لتبرير هذه الحملات –
وآخر التبريرات كان إما كاذبًا، كالادعاء
بوجود أسلحة دمار شامل في العراق، وإما مدار
سخرية، عندما تبرِّر أمريكا وجودَها العسكري
وهيمنتها السياسية على العالم العربي بأنها
تنم عن رغبتها في دعم أو تشجيع الإصلاح
السياسي نحو الديموقراطية في المنطقة! فسجلُّ
الولايات المتحدة في تقديم الدعم والعون
كلِّه للديكتاتوريات في العالم العربي أو
مناطق أخرى من العالم الثالث هو سجل حافل ينزع
أية صدقية عن رغبتها الجديدة هذه التي وُلدت
عند تأكُّد فراغ العراق من أسلحة الدمار
الشامل. أما الغربيون، وتحت وطأة
إعلام مكثف يؤكد أهمية الديانة الإسلامية في
التصرف الجماعي العربي أو يؤكد العطف على
اليهودية ودولة إسرائيل أو على انبعاث
السلفية الپروتستانتية، فهم يقعون تحت وطأة
ذاكرتهم التاريخية المتمحورة حول خطر غزو
إسلامي للديار الأوروبية، فيستذكرون فتح
إسبانيا وجنوب أوروبا على يد العرب والبربر،
ومن بعدُ غزو الأتراك العثمانيين منطقة
البلقان والمجر، وصولاً إلى عاصمة
الإمبراطورية النمساوية فيينا مرتين
متتاليتين. هذا ناهيكم عن تزايُد عدد
المسلمين والعرب في أوروبا في الخمسين سنة
الأخيرة، وعما حصل من عمليات إرهابية في 11
أيلول 2001 في الولايات المتحدة أو في مدريد في
العام 2003، وأخيرًا في لندن على يد بعض أبناء
هذه الجاليات العربية في أوروبا. وينسى الغربيون أن الدول
العربية ودولاً إسلامية أخرى هي أيضًا ضحية
هذه العمليات الإرهابية التي تحصل مرارًا
وتكرارًا في دول مثل المملكة العربية
السعودية ومصر والمغرب والجزائر، إضافة إلى
إندونيسيا والپاكستان. وهذا يعني أن الخطر
الإرهابي ليس موجهًا حصرًا ضد الدول الغربية،
بل هو نتيجة حركات عنفية وعبثية وفوضوية anarchiste
et nihiliste تهدد الديار العربية
والإسلامية في كثافة أكبر؛ وهي، كما ذكَّرتنا
مجلة The Economist،
تشبه الحركات العنفية الروسية في القرن
التاسع عشر التي كانت تمارس العنف ضد سائر
رموز السلطة في الإمبراطورية القيصرية،
وتشبه كذلك الحركات اليسارية المتطرفة التي
زرعت أيضًا أشكالاً مختلفة من العنف العبثي
في كلٍّ من فرنسا وألمانيا وإيطاليا في
الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. فالنزاع، إذن، ليس نتاج
حضارات مختلفة أو أديان لا يمكن لها أن تتعايش
في ما بينها، بل هو نتاج تصادُم تجربتين
تاريخيتين مختلفتين تمامًا، في بيئات
جغرافية مختلفة؛ فلا يمت النزاعُ بصلة إلى
عامل الهوية الدينية مطلقًا، بل هو نتاج
هاتين التجربتين التاريخيتين المختلفتين. إذ
إن لكلٍّ من العرب والغربيين مسارًا
تاريخيًّا خاصًّا بكلٍّ منهما، يتلخص بما حصل
من غزوات وغزوات مضادة. ولم يكن الدين هو
دومًا العامل المحدِّد لهذا المسار: فللدول
والإمبراطوريات والقوميات مصالح مادية
دنيوية تسعى في بعض الأحيان إلى إخفائها تحت
راية الدين. ويجب أولاً الاعتراف باختلاف
المسارين، وبنتائج هذا الاختلاف عند أحاسيس
الجمهور العربي أو الغربي، لكي نتمكن من
بداية حوار حقيقي ومثمر حول القضايا الزمنية
والمادية التي تعرقل إقامة ثقافة سلام مشترك.
ومن أجل ذلك، لا بدَّ من إعادة تأسيس نظرة
عَلمانية إلى أمور الدنيا السياسية تبتعد عن
الطروحات الجوهرانية essentialistes
حول الميزات الإيجابية أو السلبية لهذه أو
تلك من المجموعات البشرية. فالكلام المتواصل
والرتيب عن بنية الإسلام وجوهره كعامل أساس
في النزاعات في المنطقة هو الذي يحول دون
التوصل إلى مناقشة القضايا الحقيقية التي
ينبغي النظر إليها خارج الإطار الديني. ومن أهم القضايا تلك، يمكن
لنا أن نذكِّر بانحراف القانون الدولي وسوء
تطبيقه في ما يختص بنزاعات الشرق الأوسط.
فهناك قرارات من مجلس الأمن تُطبَّق في سرعة
وحزم – وإذا اقتضى الأمر بالتدخل العسكري! –
عندما يتعلق الأمر بالدول العربية؛ بينما
هناك قرارات أخرى تتعلق بإسرائيل لا تُطبَّق
بتاتًا على هذه الدولة – مع الاعتراف بأن
الأمم المتحدة قامت مرارًا بجهد كبير للتوفيق
بين القانون الدولي الوضعي Droit
International Positif،
الذي لا يأخذ في الاعتبار الهويات الدينية
إلا في ما يخص احترام حرية المعتقد، من جهة،
وبين مقتضيات ضغط الدول الغربية على المنظمة
الدولية لتكريس إنشاء دولة إسرائيل على أساس
الانتماء الديني لليهود، من جهة أخرى. وقد
كانت سلسلة القرارات التي اتُخذت في هذا
الموضوع، ابتداءً من تأكيد حق العودة للاجئين
الفلسطينيين وانتهاءً برأي محكمة العدل
الدولية حول جدار الفصل بين المستوطنات
الإسرائيلية والقرى الفلسطينية في الضفة
الغربية، مرورًا بتوصية الأمم المتحدة
بتدويل مدينة القدس نظرًا لاحتوائها على
الأماكن المقدسة للديانات التوحيدية الثلاث،
هي جميعًا محاولة توفيقية قيِّمة، كان من
شأنها نزع فتيل نزاع أصبح مزمنًا ومعقدًا
وشرسًا بسبب التلكؤ المتواصل – بل التمادي في
التلكؤ! – في تطبيق الشرعية الدولية لموضوع
العلاقات الإسرائيلية–الفلسطينية/العربية. إن تطبيق معايير مزدوجة في
فرض القانون الدولي لهو أمر بالغ الخطورة؛ إذ
يجعل العرب في حال فقدان الثقة، ليس فقط
بالمنظمة الدولية والدول الكبرى التي
تسيِّرها، بل وبجوهر المفهوم الديموقراطي
الذي يعتمد على مبدأ سريان القانون على
الجميع، أكان القانون يحمي المواطن أو يعاقبه
على مخالفته. وإذا اعتبرنا أن اللغة
الديموقراطية هي التي يجب أن تسود في الحوار
بين العرب والغرب، فإن استمرار ازدواج
المعايير في تطبيق الشرعية الدولية يجعل من
هذا الحوار طريقًا مسدودًا. إن محور التناقض بين المشرق
العربي وبين الغرب ليس تناقضًا ناتجًا من
محدِّدات حضارية وثقافية ودينية، كما يدعي
الكثير من الطروحات في الإعلام الغربي، وكذلك
بعض الحركات السياسية الدينية العربية
والإسلامية، بل هو نتاج قضايا ذات أبعاد
زمنية ومادية، ربما تتستر وراء رايات دينية،
لكنها في حقيقة أمرها لا تمت بصلة إلى الدين
في جوهره. إن غزو بلد ما وطرد سكانه أو
التنكيل بهم، خلافًا للاتفاقيات الدولية
والمبادئ المعترَف بها في القانون الدولي،
هما من العوامل الزمنية التي ربما تتستر وراء
حجج دينية، لكنها فعليًّا أمور دنيوية تؤدي
إلى قهر الإنسان وإلى نشوء نزاعات قد تطول إذا
ما تمَّ استنفار الشعور الديني للتعدي على
مبادئ القانون الدولي. وهذه حالة الهيمنة
الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية أو
الهيمنة الأمريكية على بلاد ما بين النهرين.
وبما أن الهجمة تلجأ إلى تبريرات دينية، فمن
الطبيعي أن تتخذ ردودُ الفعل المقاوِمة
للاحتلال طابعًا إيديولوجيًّا دينيًّا،
بينما جوهر المقاومة في حقيقة الأمر، خصوصًا
في موضوع فلسطين، هو الدفاع عن الأرض ورد
الهجوم والقمع. ومن أجل كسر هذه الحلقة
المفرغة التي تحول دون بناء ثقافة السلام، لا
بدَّ لنا، في الغرب كما في الشرق، من أن نعمل
على إعادة الأمور المتنازَع عليها إلى إطارها
الدنيوي الصحيح وعلى إبعاد الدين عن نُظُم
التحليل والإدراك والإعلام للنزاعات في
الشرق الأوسط. وهذا ليس بالعمل السهل: فبين ما
يُسمَّى «الصحوة الإسلامية» في الشرق وما
يُسمَّى «الصحوة الدينية الإنجيلية» في
الولايات المتحدة، التي أضحت جزءًا من
السياسة الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط (وهي
صحوة تؤيد المواقف الإسرائيلية الشرسة بحجة
توراتية دينية)، يتم نشرُ جوٍّ من الرعب
الفكري يهدف إلى ردع كلِّ مَن يسعى إلى البقاء
في منأى عن العواطف السياسية الدينية لينظر
إلى هذه النزاعات من منظور موضوعي، وضعي،
عَلماني الطابع. هذا هو لب القضية. وهي لا تقل
صعوبة في الشرق عما هي عليه في الغرب، وبالأخص
في الولايات المتحدة. ذلكم أن تراكُم ارتكاب
الدول الكبرى الغربية أعمال عنف وهيمنة
وتهجُّم على المشرق العربي منذ بداية القرن
التاسع عشر إلى اليوم يجعل من الإنسان العربي
إنسانًا تائهًا، لا يفهم ما يحصل من انكسارات
متتالية أمام الهيمنة الخارجية، بعد أن فشلت
الأنظمةُ العربية المختلفة التي تتالت على
الحكم باسم إيديولوجيات وعقائد عَلمانية أو
دينية في صد الهجوم الخارجي. ولذلك يبقى الدين
في المخيلة العربية والإسلامية الملاذ
الأخير وعنصر التماسك، بل الهجوم المضاد، ولو
أدى ذلك في المجتمعات التي يسود فيها تعدُّد
المذاهب الدينية إلى مزيد من التفتت والوهن
أمام التعديات الخارجية. لهذه الأسباب جميعًا، أناشد
محبِّي السلام، في الشرق كما في الغرب، أن
يطالبوا بوقف الكلام المتواصل والرتيب عن
صِدام ديني وحضاري للتحدث عن الأرضيات
التاريخية المختلفة التي تفسِّر الصدام بين
كلٍّ من الغربيين والعرب؛ إذ لا يمكن إيجاد
حلٍّ لهذا الصدام إلا على أساس إعادة قراءة
موضوعية للتاريخ وعلى أساس مبادئ واضحة
وشفافة، معنوية وأخلاقية، تسمح للجميع
بالتعايش في سلام، بعيدًا عن أيِّ نوع من
أنواع التعصب أو النظرة الأحادية الجانب إلى
التاريخ. فقط بهذا الجهد الكبير على
الذاكرات الجماعية، وعلى ما يتفرع منها من
أنظمة إدراك، يمكن لنا أن نعمل على تخفيف حدة
النزاعات ونؤسِّس لمناهج جديدة في مقاربتها،
بعيدًا عن الخيالات المتأججة والمتحجرة عند
الغربيين في شكل خاص، بل أيضًا بين العرب
أنفسهم، كما يشهد على ذلك العنفُ الذي تميَّز
به في الماضي القريب لبنان على مدى خمسة عشر
عامًا والعنفُ الذي يتميز به المجتمعُ
العراقي اليوم. وفي الحالين، شهدت ساحة العنف
تدخلات غير عربية عملاقة. إن العودة إلى النظر إلى
النزاعات على أنها نزاعات دنيوية الطابع،
تتطلب معالجة «عَلمانية»، أي معالجة ترفض
الأخذ بالاعتبارات الدينية لتبرير العنف
والعنف المضاد، لتتوجه إلى تطبيق مبادئ
القانون الدولي الوضعي، من دون معايير مزدوجة
وانحراف ومن دون السماح لإسرائيل أو للولايات
المتحدة بأن تخرق هذه المبادئ في إمعان
متواصل. وهذا يتطلب بذل المزيد من الجهود
وتجنب الوقوع في فخِّ «حوار الأديان» أو «حوار
الحضارات» الذي يبعدنا عن معالجة المعطيات
الدنيوية والزمنية الحقيقية للنزاعات.
فالقضايا ليست لاهوتية وعقيدية دينية، بل هي
محض قضايا في العدل والأخلاق واحترام المبادئ
الإنسانية الكبرى التي كانت الدول الغربية
نفسها قد توصلت إليها بعد الحرب العالمية
الثانية وما تفرَّع منها من اتفاقيات مختلفة
لحماية المجتمعات – على قدم المساواة – من
أيِّ تعدٍّ وقمع وطرد جماعي. هذه المبادئ كانت مستلهَمة
من فلسفة الأنوار les
Lumières
ومن أعمال الفقهاء القانونيين في عصر النهضة
في أوروبا؛ وهي مبادئ كانت تعمَّمت في الحياة
الدولية، وهي التي أدَّت أيضًا إلى اعتماد
مبدأ حرية الشعوب في تقرير مصيرها وضرورة
القضاء على ما تبقى من ظواهر العهد
الاستعماري. وقد كان العرب، في نهضتهم الأولى
في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين،
قبلوا بهذه المبادئ التي أثَّرت تأثيرًا
كبيرًا في تحديث مجتمعاتهم. غير أن التطورات
السلبية التي حصلت في نصف القرن الأخير، من
جراء التوسع الاستيطاني الإسرائيلي وفرض
هيمنة أمريكية على المنطقة، أدَّت إلى
التراجع والتقوقع. وإذ نشعر جميعًا في المشرق
العربي بضرورة إنشاء «نهضة ثانية» للخروج من
الانحطاط المتجدد، فإننا نستنظر من التراث
الغربي التحرري والمعادي للاستعمار الجديد
أن يخلق، بدوره، المناخ المناسب لِلِقاءٍ
جديد بين الشرق والغرب، مبنيٍّ على مبادئ
إنسانية عامة، مألوفة ورشيدة وعقلانية، تسمح
بإعادة التوازن إلى منطقتنا وبإطلاق نهضة
جديدة فيها. ***
*** *** عن
موقع كلنا شركاء، 11/10/2005
|
|
|