|
يا ابن
آدم![1] يا ابن
آدم! تاريخك
لم يُكتَب بعد. وهو لن
يُكتَب حتى تكون لك المعرفةُ الكاملة. والمعرفة
الكاملة هي معرفة ما كان، وما هو كائن، وما
سيكون من أمرك مع الحياة، أُمِّك، ومع
نفسك، ومع
كلِّ منظور وغير منظور في الفضاء. فكلُّ
ما كان يرتبط أوثق الارتباط بكلِّ ما هو كائن؛ وكلُّ
ما هو كائن لا ينفصل أبدًا عن كلِّ ما سيكون. فلا
أزلٌ من دون أبد؛ ولا
أبدٌ من دون أزل. على
ذاتها تدور قافلةُ الزمان؛ وأوَّلُها
مقطورٌ أبدًا بآخِرها. كلُّ
رفَّة جفن هي حلقة
موصولة الأسباب والنتائج بما قبلها وبعدها من
الحلقات في سلسلة الزمان اللامتناهية؛ ومعرفة
السلسلة الكاملة هي
المعرفة الكاملة. وقبل أن
تكون لك تلك المعرفة فتاريخك
حكاياتُ عجائز، وثرثراتُ
أطفال، ودبيبُ
نمل في
الرمال. يا ابن
آدم! مغبوط
أنت، وأي مغبوط! لقد
أحبَّتْك الحياةُ – أمُّك – إلى حدِّ أنْ
جهَّزتْك بكلِّ ما تحتاجه لبلوغ المعرفة. فهي ما
ولدتْك لتتسلَّى بك، بل
لتتجلَّى فيك. وهي
تريدك أن تصبح مثلها: واعيًا
كلَّ ما كان، وما هو كائن، وما سيكون؛ طليقًا
من أحابيل الزمان وقيود المكان؛ مالكًا
كلَّ شيء، وغير مملوك لشيء؛ شاملاً
لا مشمولاً؛ خالقًا
لا مخلوقًا؛ وفوق
الخير والشرِّ. ولأنَّ
طريق المعرفة طويل، طويل، وعسير،
عسير، فقد
أفسحتْ لك الحياةُ أقصى ما تحتاجه من الزمان
لاجتيازه – حتى
ملايين السنين – وجعلت
اجتيازَه على مراحل. لكنَّك
لَجوج، يا ابن آدم، وأي لَجوج! – وذلك هو
شأن الأطفال والجهَّال في كلِّ زمان ومكان. فأنت
تريد أن تختصر المراحلَ كلَّها في مرحلة
واحدة، وأن
تقفز إلى المعرفة الكاملة في خلال سنوات
معدودات؛ وإذ لا
تُدرِكها – وتدرك الموتَ الزؤام – تعود
فتثور على الحياة، أمِّك، وتكفر
بالنِّعَم التي أسبغتْها عليك، وتنسى
أنها أحبَّتْك محبَّتَها لذاتها، وأنها
جعَلتْ لك من الموت نهايةَ مرحلةٍ وبدايةَ
مرحلةٍ في طريقك الطويل، العسير – وثورتك
على أمِّك هي العقوق بعينه. يا ابن
آدم! حذارِ
من الأُلفة – كأنْ
تألف الأشياءَ، فلا تَدهَش لشيءٍ. كلُّ ما
في الأرض وفوقها مدهش وعجيب – عجيب
منتهى العجب! وقد
تكون أنت – بجسدك وروحك – من أعجب ما في الكون. فحريٌّ
بك أن تعيش في دهشة دائمة؛ وحريٌّ
بدهشتك أن تفتح لك البابَ إلى قلب الحياة
الفسيح. أمَّا
متى فارقتْك الدهشةُ فقد
فارقَك الأملُ بولوج قلب الحياة – وهكذا
حكمتَ على نفسك بأن تبقى خارجًا، وتبقى
غريبًا. يا ابن
آدم! لقد
صرفَتْك الدهشةُ بأعمالك عن
الدهشة بأعمال الحياة، أمِّك. وأعمالك
– لو تدري – زبَدٌ
متطايرٌ على وجه بحر حياتك، وأكبرها
أصغر من أصغر أعمال الحياة. أفلا
خفَّفتَ من خيلائك، ومن
ادِّعائك، ومن
كبريائك؟! أفلا
تواضعتَ قليلاً، وطأطأتَ
رأسك، وتخشَّعتَ، وتورَّعت؟! يا ابن
آدم! إن دنيا
أوَّلُها مَهدٌ وآخِرُها لحد لدنيا
تهزأ بمُلك الملوك، وقوَّة
الأقوياءِ، وعظمة
العظماءِ، وثروة
الأثرياءِ، وعِلم
العلماءِ، ولا
تميِّز بين الخاصَّة والدهماءِ. وإنها
لتسخر من خصومات الناس – لا فرق
بين كبيرها وصغيرها. وهل
أدعى إلى الشفقة من
جماعة محكوم عليهم بالإعدام يتشاجرون
ويتناحرون في سبيل
النَّطع الذي عليه سيُعدَمون، أو
الحبل الذي به سيُشنَقون، أو
اللَّحد الذي فيه سيُلحَدون؟! – وكان
حريًّا بهم أن يتصافحوا، ويتعانقوا،
ويتعاونوا، لعلَّهم
إلى النجاة يهتدون. يا ابن
آدم! لَئن
سلكتَ مسالكَ النجوم في أبراجها، والرياحَ
في أجوائها، والحيتانَ
في بحارها؛ لَئن
ملأتَ أهراءَك بالخيرات، ودماغَك
بالأرقام والمعادلات، وأترعتَ
عينيك وأذنيك بمختلف المغريات، وأطلتَ
عمركَ حتى الألف والألفين، لن تزيد
مثقال ذرَّة في هنائك، ولن
تخفِّف مثقال ذرَّة من شقائك، مادُمتَ
عرضةً للخوف من أيِّ شيء، ومادُمتَ
تفرح وتحزن، وتغضب
وترضى، وتحبُّ
وتكره، وتنخدع
وتَخدع، وتجوع
وتشبع، وتَحسُد
وتُحسَد، وتقنع
وتطمع، ثم
تنتهي بأن تردَّ النفَسَ في صدرك إلى
الفضاء الذي منه جاءَ. وستبقى
حالُك كذلك مع الحياة، أمِّك، إلى أن
تعود فتعترف في قرارة نفسك بأنها
الأمُّ المُحِبَّة، وأنك
الطفل الحبيب، وأنها
المسؤولة عنك، لا أنت
عنها – لعلَّك
إذ ذاك تكفُّ عن رعونتك، فلا
تحاول تسييرها حسب إرادتك، بل
تسايرها حسب إرادتها. فإرادتها
إرادة العارف كلَّ شيء، وإرادتك
إرادة الجاهل كلَّ شيء. وإرادة
العارف هي وحدها الإرادة المبصرة؛ أمَّا
إرادة الجاهل فإرادة عمياءُ، وهي
وبالٌ على صاحبها، وأي وبال! ولأنك
جاهل، يا ابن آدم، فإرادتك
وبالٌ عليك، ولا
خلاص لك منها إلا
بالتنازل عنها ريثما
تبلغ سنَّ الرشد – رشد
الحياة الواعية، الشاملة، الكاملة، لا رشد
الإنسان المصفَّد بأصفاد اللحم والدم، والزمان
والمكان، والخير
والشرِّ. وعندئذٍ
تصبح إرادةُ أمِّك إرادتَك. يا ابن
آدم! حيث
الموت بالمرصاد لكلِّ
ما يولد وينمو، ولكلِّ
ما تصنعه يداك، ويعتزُّ
به عقلك، وتضحك
أو تدمع له عيناك، جدير بك
أن تفتِّش عمَّا لا يموت – حتى إذا
اهتديتَ إليه تمسَّكتَ
به تمسُّك الغريق بخشبة النجاة، وتمسُّك
الأعمى بذيل دليله. الحياة لا تموت، المحبة لا تموت، الضمير لا يموت، الإيمان لا يموت، والذات
التي هي أنت لا تموت – حتى
وإنْ ذابت في النهاية في ذات
أمِّك الحياة... ففي
ذوبانها حياتُها. ***
*** *** [1] من: ميخائيل نعيمه، يا
ابن آدم! حوار بين رجلين، مؤسسة نوفل،
بيروت، طب 3، 1979، ص 189-200.
|
|
|