|
الثَّقافة بعيون كونيَّة بقلبٍ منفتحٍ وفكر متوقِّد، يقف الإنسانُ أمام
مجريات الوجود، يُطِلُّ ببصيرته على المشهد
الكوني، فيرى الوجود مبنيًّا وفقًا لمنظومة
رياضية معقدة تفرض نوعًا جديدًا من العلاقات
الأنثروپولوجية والأونطولوجية. تنكشف له إذ
ذاك مفاهيم جديدة عن طبيعة العلاقات بين
الإنسان والإنسان، بين الإنسان والله، بين
الإنسان والوجود؛ كما يتولد لديه مفهومٌ جديد
عن الزمان، وينجلي له ترتيبٌ مغاير للمكان
كما يتبلور في الأنماط السلوكية السائدة عند
بني البشر. لقد تنوعت
تعريفات الثقافة ومدلولاتها بعدد
الفلاسفة والمفكرين – ولست منهم. غير أني أرى
أن الثقافة هي كيفية تجلٍّ وجودي mode
de manifestation de l’Être، وليست
خلقًا وصنعًا. فهي انكشاف أشكال الحقيقة
وكيفية من الكيفيات التي يُكتنَز بها الوجودُ
ليظهر كمستودعٍ للطاقة الفاعلة. الثقافة،
بهذه المثابة، موقف أونطولوجي يمسُّ
هويةَ الكائن وعلاقتَه بنفسه، وعلاقته
بالواجِد، وعلاقته بالكائنات الأخرى، بحيث
يمتد الموجودُ في غياب الاختلاف، فيصبح
الإنسانُ ذاته مستودعًا للطاقة الوجودية. وإن كنَّا
نعتقد أن الله خالق الوجود فإن الإنسان هو
مستودع التجليات الإلهية الوجودية التي لا
يمكن حدُّها ولا حَصْرُها. وعليه، فإن الهوية
الكونية للإنسان تتنوع بتنوع الكائنات،
وتختلف باختلاف الأفراد، وتتلون بعدد
اللحظات. إنها تجلِّيات بعدد ذرات الوجود على
مرِّ اللحظات. إذن، فمفهوم التنوع هو لحظة
بناء حاسمة في تلك الهوية. لذلك نرى أن "الإنسان
الكوني" l’Homme Universel
يلتقي مع أخيه
الإنسان الكوني عبر العصور، فتلتقي أطروحاتُ
ابن عربي الأندلسي في العصر الوسيط مع تعاليم
رامانا مهارشي الهندي في القرن العشرين، على
سبيل المثال لا الحصر. فما اختلاف اللون
والعرق والجغرافية إلا تجلٍّ إلهي، وانكشاف
وجودي للحضرة الكونية، وآية من آيات المكوِّن
التي يعشقها الكائنُ الكوني لأنها "صورة"
مَن يعشق ومَن يحب. مَن ينتمي
لهذه الحضرة يرَ في العلاقات البشرية سلسلةً
لامتناهية من التنوُّع تنعكس فيها هذه
التجلِّيات الوجودية في إيقاعها المتسارع،
فيتغير عنده مفهومُ الزمان: فالحاضر لا يعني
في نظره اللحظة الآنيَّة التي يمرُّ بها
حاليًّا، بل هو سيرورة مستمرة تبلغ المستقبل
الذي يستجيب للماضي ويتعين به. هذه الرؤية
الوجودية الكونية لمفهوم الزمان تحرِّر
الإنسانَ من الوصاية الحصرية على شؤون
الحقيقة، كما تؤدي إلى الفكاك من المتعلقات
المبنية على مفهومَي الماضي والحاضر، بحيث
تنبني عليها فلسفةٌ للتنوع والاختلاف
والتطور مغايرة، وصورة جديدة ومتجددة على
الدوام للأنماط العلائقية، فيقبل هذا الكائن
تلوُّنَ الصور وتجلِّيات الحقائق بأنواعها
كافة. وعندئذٍ يصبح الاختلاف/التنوع مفهومًا
أونطولوجيًّا، وليس مجرد مفهوم أنثروپولوجي. وآلية أي "عمل"
le faire،
من المنظور السابق عينه، لا تعود مجرد تطبيق
لقواعد ثابتة، بل تغدو حلولاً لممارسات
جديدةٍ ومتغيرة. فهي المعرفة ("العرفان" Gnose) التي بفضلها نفهم الوجود بكيفية رياضية.
وإذا كانت "إنتاجية" productivité أي عمل تُظهِر أن هناك تراتُبًا hiérarchie بين الكائنات، إلا أن هذه الرؤية تجد أن هدف
الإنتاج ليس إلا الفراغ الموحَّد. وما
يتولد عن الإنتاجية عند ذاك هو غياب
الاختلاف. يقودني هذا
الطرح الفلسفي لمسألة الثقافة إلى معاودة
النظر في مسألة "الأزواج الميتافيزيقية"،
مثل: الخير/الشر، الحب/الكراهية، الطاعة/المعصية،
النظرية/الممارسة، إلخ. فهذه كلها مفاهيم
متغيرة، لا يمكن تحديدها في قوالب؛ وبالتالي،
لا يمكن لأي كائن أن يدَّعي لنفسه حَصْرَ
الحقيقة و/أو احتكار حقِّ إطلاق الأحكام
القيمية. لذلك فإن مَن
يحلِّل مفهوم "العبودية" عند بعض فلاسفة
المتصوفة يجد أنه يرتبط بمفهوم التخلِّي عن
إطلاق الأحكام لأن هذا الأخير من صفات "المُكوِّن".
و"العبودية"، في مفهومها الفلسفي
البعيد، هي التحرر من الإيديولوجيات و"العلب
الفكرية" ونقد العقائد والتخلِّي عما هو من
أفعال الخالق في "حضرة التكوين". يقول
ابن عربي: عَقَدَ الخلائقُ في الإله عقائدَ * وأنا
اعتقدتُ جميعَ ما عقدوه وينبني على
هذه الرؤية الكونية مفهومٌ مختلف لعملية
البحث في التراث الإنساني، لأنها مرتبطة
بمتابعة الكيفية وآليات العمل والإنتاج،
وتتجاوز معرفةَ الأحداث ووصفَها والإطلاعَ
على المقاصد والحقائق باسم الغائب. فعملية
البحث هنا عبارة عن آلية لتفكيك خطاب التراث
الحضاري للبشرية، ما سبق منه وما لحق، وإعادة
إنتاجه إنتاجًا مبتكَرًا. من هنا فهي
استراتيجية نقدية مبدعة. أما الفصل
الكرونولوجي بين أنماط الزمان فيضع المخزون
التراثي في حالة قطيعة مع بني البشر تؤدي إلى
عزل الماضي عن الحاضر، وعزل الحاضر الذي
سيصبح ماضيًا عن المستقبل الذي سيصبح حاضرًا،
وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية. وهذا الفصل في
المفهوم الزمني هو الذي يطرح جميع الإشكاليات
الفكرية الحالية التي مافتئ يُطالِعنا بها
الكتَّابُ تحت مسمَّيات متنوعة، منها: "الأصالة"
و"المعاصَرة"، الفكر "المؤصَّل"
والفكر "الحديث"، إلخ. وتنبني على عملية
الفصل هذه سلسلةٌ لامتناهية من التيارات
الفكرية المؤطِّرة للمجتمعات، وأنماط من
المنظومات العلائقية المجتمعية التي تطرح
الهوية الإنسانية من خلال إيديولوجيات "معلَّبة"
تفرض نوعًا محددًا من العلاقات تُصادِر
الحريات وتمنح نفسها "القداسة" و"الحق
الحصري" في معرفة الحقائق والقيمومة
بأعمالها. الأطروحة
الكونية أطروحة ميتافيزيقية في جوهرها، تكمن
روعتُها في أنها تخرج من إطار الفصل الزمني
الكرونولوجي والفصل المكاني الجغرافي،
لترتكز على فهم الثقافة بصفتها مكمِّلة
للميتافيزياء وتتخذ من الكون بأسره تاريخًا
لها. 18 أيار 2006 *** *** *** [1]
باحثة في
الأنثروپولوجيا. عنوانها الإلكتروني: marwa_kreidieh@yahoo.fr. |
|
|