|
ما
وراء كتاب شريف الشوباشي لتحيا
اللغة العربية، يسقط سيبويه الشاهد
أن أحدًا لم يتطرق لبعض أفكار وَرَدَتْ في متن
كتاب شريف الشوباشي لتحيا اللغة العربية،
يسقط سيبويه، الصادر عن "مكتبة الأسرة
المصرية" بالهيئة المصرية العامة للكتاب،
الذي أحدثَ جلبةً واسعةَ الانتشار – بعض
أفكارٍ إخالُها أهم وأشدَ خطورةً من شأن
الرغبة في تغيير اللغة العربية أو إمكانية
تغييرها أو تبسيطها. هي الأمور التي أود أن
أشير إليها في مراجعتي هذه للكتاب. وأظنني لن أغور كثيرًا في
مسألة اللغة. ففضلاً عن كونها قد قُتِلَتْ
سجالاً، ما بين مهاجم للمؤلِّف أو متعاطف معه
أو معتدل يقبل طرح الفكرة ويخالف التكتيك،
سبق أن أدليت بدلوي في الشأن اللغوي في الندوة
التي عُقِدَتْ حول الكتاب. وقد تلخَّصت كلمتي
في أن منطلَقَ النحو والصرف العربيين منطلقٌ
موسيقي بحت: فالعربية منشغلةٌ بالموسيقى،
ربما بسبب نشأتها الأولى في مجتمع شفاهيٍّ
غير كتابي، مما جعلها خاضعةً لثقافة الأذن.
وأنا من المتحمسين للفصحى، ليس لكوني شاعرة،
بل لظنِّي أن ما جذبني إلى دنيا الشعر هو
تنبُّهي إلى عبقرية علم النحو تحديدًا: يكفي
المرء أن ينطق جملةً عربيةً سليمةً من دون أن
يلحنَ نحويًّا أو صرفيًّا ليحصل على قدرٍ من
الموسيقى. ولهذا السبب ننزعج حين تباغتنا
مذيعةٌ بالتلفزيون بخطأ نحوي. نحن في الواقع
لم نقمْ بإعراب الجملة لندرك أن خطأً قد وقع؛
فقط تصطدم أذنُنا بما يؤرق حسَّها الفطريَّ
المجبول على الموسيقى. ولا أتفق مع مَن سيقول إن
السبب هو الاعتياد، لعدة أسباب، أهمها أن
الهوَّة الواسعة بين الفصحى، من ناحية، وبين
اللهجات الكثيرة الدارجة على طول العالم
العربي وعرضه، من ناحية أخرى، تجعلنا لا
نتكلم في ثقة عن مسألة الاعتياد. الفصحى
تتعامل مع ذاكرتنا البصرية وحسب بفعل القراءة
والتعليم في المدرسة، بينما تنبني الذاكرةُ
السمعية من خلال الدارجة التي يتبنَّاها
البيت والشارع ووسائط الإعلام الخ. من الدلائل الأخرى على
عبقرية الموسيقى في علم النحو مادة "الممنوع
من الصرف"، ليس فقط في الاختيار المدهش
للكلمات التي يجب ألا تُصرَف لدواعٍ موسيقية (مثل
مساجد، كنائس، مصر، مكة، سجاجيد، إلخ)، لكنْ
– وهذا هو الأجمل – في علامة "جر" تلك
الكلمات أيضًا، وهي الفتحة، عكس ما هو سائد في
اللغة، وهي الكسرة كعلامة للجر. دعونا نجرِّب
جرَّ مفردةٍ ممنوعة من الصرف بالكسرة: سنجدها
تلتبس سمعيًّا مع ياء الملكية بسبب عدم
إمكانية تنوينها؛ ولنضرب مثالاً: "تتجلَّى
العمارة القطوية في كنائسِ كثيرةٍ".
تلك الكلمة سيتلقاها السامع وكأنها "كنائسي"
(أي الكنائس التي تخصني)، لأننا لم نستطع أن
نقول "في كنائسٍ" بسبب منعها من الصرف. من
هنا كان الحل العبقريُّ الموسيقي في جرِّها
بالفتحة ("في كنائسَ كثيرةٍ"): هنا
فقط ترتاح الأذن. وتنطبق النزعةُ الموسيقية
كذلك على مخالفة تمييز العدد لنوع المميَّز،
على نحو: ستة أقلام، ثلاث زهرات، إلخ. من هنا
ارتأيت أن محاولة تغيير النحو العربي يهدد
الموسيقى لأنه يقوم في الأساس عليها، وليس
على العَروض الفراهيدية. ما أود أن أبرزه من الكتاب
هو مجموعة من الأفكار المهمة التي خفتتْ
للأسف تحت وطأة عنوان الكتاب الملتبس الذي
استفزَّ الكثيرين. فبعضهم قد أوَّل "لتحيا
اللغة العربية، يسقط سيبويه" على أنه هتافٌ
أو شعار تعبوي على غرار: "لتَحْيَ مصر،
ليسقط الاستعمار"! والشاهد أن الشوباشي لو
قصد ذلك لقال: "وليسقط سيبويه". وبما أنه
أسقط اللام فذاك يعني أن الجملة شرطية، أي:
"من أجل أن تحيا اللغة العربية يجب أن يسقط
سيبويه". وأزعم أن تلك الجملة الشرطية
البسيطة لم تكن لتثير تلك العواصف كلَّها
التي أثارتْها الهتافيةُ التي حُمِّلَت على
العنوان غُبنًا، وكأن سيبويه هو مبتكر اللغة
العربية! أشار الكتاب إلى بعض
المشكلات المتجذِّرة في الذهنية العربية
التي ربما يعود إليها، في رأيي، معظم الأزمات
التي نحياها. سوف ألمِّح إلى تلك النقاط، ثم
أورد تعقيبي السريع عليها: -
ميل
العقل العربي إلى المبالغة. -
ميل
العربي إلى الكلام أكثر من سعيه إلى الفعل. -
خوف
العربي من مواجهة الواقع وجنوحه إلى الوهم
عوضًا عن ذلك. -
التباس
مفهوم اللغة عند العربي: فهو مازال يعتبرها غاية
في ذاتها، لا وسيلة للتواصل مع الآخر. -
ميل
العربي إلى المراوغة في الخطاب عوضًا عن
المباشرة. -
العرب
أبناء حضارة اليقين. -
اهتمام
العرب بالشكليِّ على حساب الجوهري. وقبل إبداء وجهة نظري
باختصار فيما سبق، أعلن أنه قد وصلني منذ
الوهلة الأولى لقراءتي الكتاب، من دون أدنى
جهد، أن الدافع الوحيد الذي حثَّ المؤلِّف
على الكتابة هو دافع قومي بحت وغيرة على
العربية وحزنٌ على غيابها من خارطة اللغات
المعترَف بها عالميًّا. وأتفق معه في معظم ما
أورَدَ في شأن أزمة العقل العربي الراهن الذي
أفرز قدرًا من الجمود والركون إلى السلبي
انتظارًا لحلٍّ قد يَهَبُه الغيبُ أو يضن به.
أوافق أننا أبناء ثقافة الأذن – وربما كان
ذلك سببًا من وراء كوننا "نقليين" أكثر
منا "عقليين". ومن أسفٍ أننا لا نكتفي
بالنقل من السلف من غير سعي للتطوير أو
التجاوز، بل نركن إلى النقل من الآخر الغربي،
ثم نلعنه لأنه سبب تخلُّفنا! وأتفق معه أننا
نحفل كثيرًا بالشكليِّ أكثر من سعينا لبناء
النسغ الحقيقي لمعظم المبادئ: فلم نرَ رجل دين
اتهم أحدًا بالخروج عن الدين لأنه لم يراعِ
حقوق الآخر ولم يتقن عمله ولم يعمل على نظافة
بيئته بصريًّا وسمعيًّا وفكريًّا! وأتفق معه
كذلك على كوننا أبناء ثقافة المبالغة في
القول إلى درجة أن جملة تخلو من "جدًّا"،
"للغاية"، "إلى أقصى درجة"، إلخ،
تُحسَب على الحياد ولا يعوَّل عليها كثيرًا؛
وكذلك على أن ثمة هوةً واسعة بين خطابنا
والخطاب الغربي نتيجة اعتيادنا تضخيم
الكَلَم والركون إلى امتلاك اليقين. لكنني أود، إلى ذلك، أن أشير
إلى أن الكتاب قد خلط بين لونيْن من الخطاب:
الخطاب البلاغيِّ الأدبي، والخطاب الحياتيِّ
الإيصالي. اللون الأول من الخطاب يندرج تحت
باب الفن، فيجوز له – ككلِّ فنٍّ – أن يجنح
نحو المبالغة وعدم المباشرة، بل والمراوغة في
الخطاب. وأحيله إلى الفن التشكيليِّ، بعيدًا
عن التباسات اللغة: فالپورتريه الذي يصوِّر
وجهًا بنِسَبِه الحقيقية تمامًا سيكون
خاويًا من الفن لأن الكاميرا تتفوق عليه دقةً
وتحديدًا. يبدأ الفن حين تنحرف النِّسَبُ عن
الحقيقيِّ والمرئي، لأن الفن انحرافٌ عن
الواقع. ينطبق الأمر تمامًا على الخطاب
الشعري والأدبي: عكس الخطاب الثاني الذي هدفه
الأساس الإيصال؛ وهو ما يجب أن يتسم
بالمباشرة والوضوح والتخلص من الديباجات
والمقدمات والنتوءات التي قد تعوِّق
التلقِّي. بل إنني أتمادى أكثر وأقول إن اللغة
على إطلاقها – حتى اليومي منها، بعيدًا عن
الأدب – لا يمكن أن تخلو من المجاز. وهو ما
حاول إثباتَه مؤلِّفا الكتاب الأمريكي Metaphors
We Live By ("المجازات
التي بها نحيا")، وأحدهما عالم لغويات
والآخر عالم اجتماع؛ فقد أثبتا خلال الكتاب
أننا نتحدث مجازًا طوال الوقت ونتراسل
بالمعاجم طوال الوقت. فحين تناقش فكرة "الجدل"
لا بدَّ أن تستعير معجم "الحرب"، فتقول:
"تراشقنا بالكلمات، لكنني صرعته في الآخِر"،
"كان الجدال حامي الوطيس"، "نازلتُه
فمُني بهزيمة نكراء، ومن ثم كسبت أرضًا جديدة"،
إلخ. ولننتبه أن الكتاب أمريكي مكتوب باللغة
الأنكلوأمريكية التي أقرَّ المؤلِّف –
ونقرُّ معه – أنها لغة متقشفة محددة تنأى عن
البديع في القول؛ ومن ثم استحقت لقبَ اللغة
الأولى في العالم. إذن ليس للأمر علاقة بأزمة
خاصة في اللغة العربية بقدر ما هي إشكالية
آلية نقل الفكرة من العقل إلى اللسان، أي
تحويل الفكرة الهيولية في المخ البشري إلى
مفردة ذات دلالة. وهي عملية ذهنية شديدة
التعقيد، ليست مقصورة على العربية وحدها؛
وهذا ما يجعلنا نتكلم دومًا عن قصور اللغة. وأنا هنا لا أنفي الصعوبة عن
اللغة العربية، لكنني أردُّ الأزمة إلى مأساة
نُظُم التعليم في العالم العربي كلِّه، ليس
في مادة اللغة العربية وحسب، لكن في مختلف
فروع العلم. سياسة التعليم العربي تقوم على
النقل وحشو الأدمغة من غير تفعيل حقيقي لعمل
العقل. أما عن زخم المترادفات "غير
المهجورة" في اللغة العربية فأراه ملمح
ثراء لها؛ وإن كنت أتفق في قوة مع الشوباشي
حول قصور النحو العربي عن تحديد دقيق لزمن
الفعل الماضي قياسًا إلى اللغات الأخرى:
فالزمن الماضي عندنا واحد، ولا يمكن لك تحديد
ترتيب أزمنة وقوع الأفعال من خلال تصريفها،
مثلما في الإنكليزية أو الفرنسية؛ وهو ما
يستشعره كلُّ مَن أقدَم على الترجمة من
العربية وإليها. إذن فإشكاليات المبالغة في
القول واستبدال الكلام بالفعل إلخ مردُّها
طبيعة في نمط التفكير تخصنا نحن كعرب أكثر مما
تخص لغتنا؛ أي أنها أزمة صياغة وتعامُل مع
الكلمات، لأن اللغة ذاتها في وسعها خَلْق
خطاب رشيق محايد لا يعوزه المنطق ولا تصدعه
مبالغةٌ وإطناب. والعربيُّ المبالِغ سوف
يرتكب المبالغة، ولو تكلم بلسان فرنسي. أظن أن أزمة الخطاب اللغوي
العربية حديثة ومرتبطة بتدني المستوى
الثقافي للفرد العربي الآن. ودليلي على ذلك هو
كنز صغير أمتلكه: مجموعة من الخطابات بين جدي
وجدتي خلال فترة خطوبتهما. جدي لم يكن معه سوى
ليسانس حقوق، في حين لم تحصد جدتي سوى
البكالوريا القديمة (الثانوية العامة). لكم
أدهشني كمُّ الرقي الفكري والثقافي واللغوي،
بل والإنساني، لديهما معًا: اللغة العربية هي
هي، بل كانت أعقد وأقرب إلى المنفلوطية
حينئذٍ، والعقل العربي هو هو؛ الفارق هو ما
تلقَّاه هذان العروسان من تعليم في عصرهما
مقارنةً بما يتلقاه الطلبة التعساء الآن. (نسيت
أن أقول إن جدتي هذه كانت تحفظ، إلى جوار
المقطوعات الموسيقية التي تجيد عزفها على
البيانو، الكثيرَ من الشعر الجميل الذي ظهر
في رسائلها.) أستاذ شريف، أهنئك بالفعل
على الكتاب الذي نكأ الكثير من الجروح في شأن
إشكاليات حقيقية في آلية التفكير ورؤية
العالم والتعامل مع الوجود تخصنا ككيان عربي؛
وهو ما أشرتَ إليه في كتابك الراهن واستفضت
فيه في كتاب الداء العربي. أتفق معك أننا
في أزمة مروِّعة وحقيقية، بل ومُهدِّدة
لوجودنا. نحن ننحدر ونتقزَّم وسائرون في دأب
وانتظام نحو هاوية. لكن هل تكمن الأزمة في "اللسان"
أم في "العقل"؟ لماذا نطالب اللغةَ أن
تُحني هامتَها من أجلنا؟ لماذا لا نحاول نحن
أن نعلو قليلاً؟! ***
*** ***
|
|
|