بين "الغاندية" الشيعية و"الجهادية" السنية

 

مأمون كيوان

 

أطاح الزلزالُ العراقي بتهويمات مثقفين وساسة عرب ومسلمين تمحورتْ حول إمكان استنساخ النظام العراقي (البائد) للنموذج الفييتنامي في عملية مقاومة الغزو الأنكلوأمريكي، وتاليًا بوهم تحوُّل صدام حسين، بقدرة قادر، إلى هو شي مِنِه، متناسين الفروق الجوهرية الرئيسية، ليس بين هو شي مِنِه وصدام حسين، على الأصعدة الشخصية والسياسية والفكرية، بل بين الظروف الإقليمية والدولية للحرب الأمريكية على فييتنام والحرب الأمريكية على العراق، بأهدافها الإستراتيجية والتكتيكية، إضافة إلى شروط المقاومة وطبيعتها وعمقها الإستراتيجي وأهدافها السياسية، الآنية والمستقبلية. ففي النموذج الفييتنامي شكَّلتْ الصين الماوية وروسيا السوفييتية عمقًا للمقاومة الفييتنامية؛ أما في نموذج المستبد الصدَّامي "المقاوِم"، فليست هنالك في واقع الحال أية إمكانات لـ"تصيين" الدول المجاورة للعراق، جميعها أو إحداها، كما لا يمكن "رَوْسَنَة" فرنسا الشيراكية أو ألمانيا الشرودرية، ناهيك عن غياب الدافع الشعبي للدفاع، ليس عن الوطن العراقي، بل عن نظام سياسي استبدادي روَّع شعبَه وحوَّل العراق إلى جمهورية خوف وموز في آنٍ واحد.

ومع تراجُع ظاهرة المتطوِّعين العرب (أو "العراقيين العرب"، على غرار "الأفغان العرب")، برزتْ دعواتُ المرجعيات الشيعية العراقية لـ"تهنيد" المقاومة العراقية للاحتلال الأنكلوأمريكي، أي استنساخ النموذج الغاندي. وقد عبَّر عن هذه الدعوات للمقاومة السِّلمية وكيلا المرجعين الشيعيين العراقيين آية الله العظمى علي السيستاني ومقتدى الصدر، اللذان أعلنا تأييدهما لمعارضة الاحتلال الأمريكي بالطرق السِّلمية.

فقد قال الشيخ كاظم الناصري، ممثل الصدر في كربلاء: "من المؤكد أن معارضتنا للاحتلال الأجنبي ستكون في البداية بالطُّرق السِّلمية." وبرَّر ذلك بالقول:

الناس لا يملكون سوى الأسلحة الصغيرة، وهي لا شيء مقارنةً مع القوة العسكرية للقوات الأمريكية. [ولكن] إذا لم تؤتِ الوسائلُ السِّلمية ثمارَها بعد فترة، سنقرِّر ما نفعله بعد ذلك.

ورأى ممثل السيستاني الشيخ عبد المهدي كربلائي أن

النضال السِّلمي ضد الأمريكيين لا ينبغي أن يبدأ إلا بعد تأليف حكومة جديدة تمثل كلَّ طوائف الشعب ومجموعاته العرقية، وأن تعمل، بالطرق السِّلمية، على ضمان انسحاب القوات الأجنبية في أسرع وقت ممكن.

غاندي الشيعي

تلتقي دعوة ممثلَي السيستاني والصدر مع طروحات سَبَقَ أن تحدث عنها الأمين العام لمؤسَّسة الإمام الخوئي، الشهيد عبد المجيد الخوئي، الذي، على الرغم من اعتباره العمليات الاستشهادية في فلسطين

من قبيل الدفاع عن النفس والخلاص من المحنة والظلم، [...] وآخر ما يقوم به الإنسان الفلسطيني، إنْ لم يكن للدفاع عن قضيته، فعلى الأقل للتعبير عن الظلم الواقع في حقِّه وفي حقِّ أهله...

فإنه شدَّد قبيل سقوط نظام صدام حسين في بغداد، وفي أثناءه وبعده، على أهمية العمل المدني كرافعة لعملية نهوض شعبي عراقي، وذلك على خلفية اعتقاده أن

العمل السياسي بعد إزالة نظام صدام حسين تبرز أمامه مساحاتٌ واسعة لا يمكن سدُّها إلا من خلال العمل المدني والاجتماعي الدؤوب، والتركيز على دور المنظمات والمؤسَّسات الأهلية. والهدف الأول من هذا العمل هو بناء الإنسان العراقي. [...] وإن شيعة العراق، عبر تاريخهم النضالي ودورهم الأساسي في تأسيس الدولة العراقية وحفظ الوطن وسلامة أراضيه، تعرَّضوا لِمِحَن كثيرة حوَّلتْهم – وَهُمُ الأكثرية – إلى مجموعة مظلومة في وطنها.

أي أن الفقيد الخوئي عمل على تقديم نموذج شيعي–عراقي للغاندية، يستند إلى قواعد ثقافية وأخلاقية ودينية ومذهبية، بمعناها التعددي المؤسَّس، بدوره، على استراتيجيا للتقريب بين المذاهب وأصحاب الديانات السماوية، تشكِّل المدخل المناسب لكبح الفتن الطائفية والمذهبية التي تقود، لا محالة، إلى هشاشة المجتمعات العربية وإلى تعميق النزاعات الأهلية.

ويستدعي تأييدُ المرجعيات الشيعية أسلوبَ المقاومة السِّلمية المدنية للاحتلال البحثَ في حدود الجدوى من استعادة نموذج مقاومة "حزب الله" اللبناني للاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان. وهنا يبدو أن المقاومة السِّلمية الشيعية العراقية تدرك الاختلافات بين واقعها وواقع مقاومة "حزب الله"، المدعومة محليًّا وذات العمق الإستراتيجي الإقليمي العربي والإسلامي، ممثلاً بسوريا وإيران، بينما تفتقد المقاومةُ الشيعية العراقية هذا العمق؛ فضلاً عن وجود ما يمكن تسميته "حساسية شيعية" عراقية من ازدياد التدخلات العربية والإيرانية والتركية في الشؤون العراقية، وهي التدخلات التي قد تؤدي إلى "لَبْنَنَة" العراق والوصول، في نهاية المطاف، إلى خياري: "طائف" عراقي أو "17 أيار" عراقي–أمريكي أو إسرائيلي.

ويبدو أن الرهان الشيعي العراقي على الجدوى المنشودة من مقاومة الاحتلال الأمريكي وفقًا لأسُس مدرسة اللاعنف لا ينطلق فقط من محاولة السير على خطى المهاتما غاندي وهنري ثورو وتولستوي ومارتن لوثر كنغ والتجربة الأمريكية، ممثلةً بحركة الحقوق المدنية الأمريكية، وتجربة جنوب أفريقيا الناجحة في إلغاء نظام الفصل العنصري Apartheid، بل يستدعي النموذج الفلسطيني لمدرسة اللاعنف الذي حقَّق نجاحاتٍ ملموسةً في الانتفاضة الفلسطينية في العام 1987 في الضفة الغربية وقطاع غزة، سواء لجهة الحجم الكبير للمشاركة الشعبية في فاعليات الانتفاضة السِّلمية (انتفاضة الحجارة) أو لجهة الحصول على تعاطُف أو تضامُن عالمي مع الشعب الفلسطيني؛ بينما تقلَّصتْ النجاحاتُ العملية عندما تصاعدت الدعوات إلى عسكرة الانتفاضة واعتبار العمليات الاستشهادية خيارًا وحيدًا لها، وكذلك في الترجمة العراقية للعمليات الاستشهادية ضد القوات البريطانية والأمريكية في البصرة وبغداد.

لذلك يبدو أن غالبية القوى الدينية–السياسية وغير السياسية الشيعية العراقية تولي أهمية كبرى لعملية بناء المؤسَّسات الأهلية المدنية، القائمة على أساس التكافل الاجتماعي والخيري والتعاوني، وكذلك للدعوة إلى احترام التعددية والخصوصيات الدينية والمذهبية والإثنية. وهذا ما عبَّرتْ عنه الدعوةُ إلى إقامة المجلس الإسلامي الشيعي في العراق الذي يركِّز على ضرورة وحدة الأراضي العراقية واستقلالية الدولة العراقية عن التأثيرات الخارجية، سواء أكانت تركية أو عربية أو إيرانية، ويتبنَّى الحقَّ العراقي بما هو للعراق قاطبة، سواء أكان للشيعة أو للسنَّة أو للعرب أو للكُرد أو للأقليات الأخرى، من المنظار الإيجابي في ظلِّ المخاوف على مستقبل العراق. ويستند هذا المجلس إلى ضرورة نبذ التطرف والتعصب واستخدام العنف.

والتساؤلات التي تثيرها الدعوةُ الشيعية إلى المقاومة السِّلمية للاحتلال الأمريكي تبدو كثيرة في ظلِّ ما تضمَّنتْه السنوات والشهور القليلة المنصرمة من فتاوى شرعية إسلامية، سُنِّية وشيعية، تتعلق بالجهاد المقدس ضد الغزو "الصليبي" الأمريكي لديار المسلمين في فلسطين وأفغانستان والعراق. ومنها: هل تأتي هذه الدعوة إلى المقاومة الشيعية السِّلمية على خلفية وجود نمط أسطوري وميتافيزيقي يتعلق بعودة المهدي أو الإمام المنتظر، أو تخوف من أن يفضي العنفُ إلى "كربلائية" جديدة؟ أم أن هذه الدعوة إلى المقاومة السِّلمية هي تعبيرٌ عن رفض شيعي للظاهرة العنفية التي قدَّمها أسامة بن لادن والملا محمد عمر في أفغانستان وحركتا "حماس" و"الجهاد الإسلامي" السنِّيتان في فلسطين؟ أم أن هذه الدعوة إلى المقاومة الشيعية السِّلمية في العراق هي دعوة انقلابية على الدعوة الجهادية في فلسطين؟ أم أن هذه الدعوة إلى المقاومة السِّلمية لا تنطلق من بواعث دينية ومذهبية وطائفية، بل تستند إلى قراءة للواقع المحلِّي العراقي الراهن وواقع جواره الإقليمي التركي–الإيراني–الكويتي–السعودي–الأردني–السوري؟

دمشق

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود