الغرب والعالم الإسلامي

البحث عن بداية جديدة

 

أنطوني ت. سوليفان

 

ما أريد القيام به هنا هو التركيز على المحادثات، بدلاً من "الصِّدامات" أو "الثقافات". ما أود فعله، على الأخص، هو التأكيد على كمِّية كبيرة من "الأخبار السارة" في الولايات المتحدة، مع عدم إهمال ذكر بعض "الأخبار السيئة" على الأقل. وفي هذه الأوقات المظلمة، أكثر ما يلفت انتباهَنا هو الأخبارُ السارة.

والجدير بالملاحظة، فيما يتعلق بالأخبار السارة، هو تراجُع البروفسور صاموئيل هنتنغتون في السنوات الأخيرة عمَّا تنبأ به في العام 1993 من أن الحضارة الإسلامية (بالإضافة إلى الكونفوشية) كانت على وشك أن تدخل حقبة طويلة من النزاع مع "الغرب". أضف إلى ذلك أنه توجد اليوم دلائل جديدة في الإعلام الأمريكي على أن الأفكار المتعلقة بالإسلام تتحرك في اتجاه إيجابي، على الأقل بين بعض المفكرين الأمريكيين. وقد يكون أهم من ذلك أن هناك عددًا متزايدًا من الباحثين الغربيين هم أنفسهم متديِّنون، وقد بدأوا يتعمقون في جوهر الإسلام بطريقة جديدة ومتعاطفة. وهناك حقيقة مختلفة تمامًا تنبثق اليوم، بعدما كان أتباع لويس ماسينيون في الماضي هم الاستثناء الذي أثبتَ قاعدة سيطرة الاستشراق على الدراسات الإسلامية. وأخيرًا، تستحق "دائرة التراث والتقدم" بعض الذكر؛ وهي منظمة أنا واحد من مؤسِّسيها، وتهدف إلى الجمع بين أفراد غربيين مميزين، ملتزمين بقيمهم التراثية، وبين نظرائهم في العالم الإسلامي. هذا كلُّه، حسبما أعتقد، يشكل الأخبار السارة، ويجب أن يحفظنا من اليأس، حتى في الليلة الظلماء التي نجد أنفسنا فيها حاليًّا.

أولاً، دعوني أعلق على الأستاذ هنتنغتون.

صموئيل هنتنغتون

من الجدير أن نتذكَّر أن المقالة الأساسية لصاموئيل هنتنغتون قبل عقد مضى ("صِدام الحضارات؟"، Foreign Affairs، صيف 1993) تحتوي على علامة استفهام في العنوان. ومن الواضح أن هنتنغتون كان، منذ البداية، أقل اقتناعًا بصحة نظريته مما افترض العديدُ من نقَّاده. وقد أصغى هنتنغتون في انتباه شديد إلى النقد الذي تمَّ الإدلاءُ به. واتضح مدى ما تعلَّمه في العام 1996، عندما نَشَرَ كتابًا بعنوان صِدام الحضارات وإعادة صنع نظام عالمي.

غلاف كتاب صِدام الحضارات

في ذلك الكتاب، وعلى الرغم من إصرار هنتنغتون على رأيه أن "حدود الإسلام دموية كما هي دواخله"، إلا أنه أظهر ميلاً للكلام – في صدق – عن الرياء الذي يَسِمُ الكثير من السياسات الغربية الخارجية. فقد كتب أنه "لا يتردَّد غير الغربيين في الإشارة إلى الفجوات بين المبادئ الغربية والأفعال الغربية". وأضاف أن

الرياء، المعايير المزدوجة، والاستثناءات، هي ثمن حجَّة العالمية. يتم الترويج للديموقراطية – إلا إذا كانت ستوصل الأصوليين إلى السلطة. ويتم وعظ إيران والعراق بالحدِّ من الإنجاب، ولكن ليس إسرائيل. وحقوق الإنسان قضية تتعلق بالصين، ولكن ليس بالسعودية. والعدوان على الكويتيين أصحاب النفط يتم ردُّه بقسوة، ولكن ليس في حالة البوسنيين الذين لا يمتلكون نفطًا. وممارسة المعايير المزدوجة هي ثمن المبادئ العالمية الذي لا يمكن تجنبه.

والأهم من ذلك أن هنتنغتون دعا إلى "حوار بين الحضارات"، وأوضح أن آخر شيء يتمنَّى رؤيتَه، شخصيًّا، هو اندلاع أية حرب بين الحضارات!

ولم يكن هذا الكتاب نهاية ما تعلَّمه هنتنغتون. ففي السنة التالية كتب مقالة أخرى في Foreign Affairs بعنوان "تآكُل المصالح الوطنية للولايات المتحدة" (أيلول/تشرين الأول 1997)، جاء فيها أن

الولايات المتحدة تفتقد أيَّ تهديد يمكن لها أن تقف ضده وقوفًا مقنعًا. فالأصولية الإسلامية منتشرة وبعيدة جغرافيًّا.

ولذلك فإنه تبرَّأ من نظرية حتمية الصِّدام بين الإسلام (الذي أصبح في هذه المقالة "الأصولية الإسلامية") والغرب التي اقترحها قبل أربع سنوات فقط من مقالته هذه. وفي الحقيقة ذهب هنتنغتون بعيدًا إلى حدِّ القول أن المتطرفين الأمريكيين الذين فجَّروا المبنى الفيدرالي في مدينة أوكلاهوما ما كانوا ليُقدِموا على فعلتهم لو كان هناك عدوٌّ أجنبي خطير على الأبواب!

وقد استمر تعلُّم هنتنغتون بعد ذلك. فقد ألقى خطابًا في دبي في تشرين الثاني 2001، أظهر خلاله فهمًا جديدًا من أساسه ومتعاطفًا مع العالمين العربي والإسلامي، ووجَّه نقدًا قاسيًا لسياسة أمريكا الخارجية. وهذا التحول ما كان ليخطر أبدًا على بال من قرأ فقط مقالة هنتنغتون للعام 1993 في Foreign Affairs.

لقد أكد هنتنغتون، خلال خطابه في دبي، على ثلاث نقاط رئيسة:

-       أولاً، أن الولايات المتحدة تحتاج إلى التخلِّي عن أيِّ افتراض بأن الثقافة الأمريكية يمكن جعلها عالمية، أو أن الشعوب الأخرى ترغب بتبنِّي أسلوب حياة الأمريكيين أو قيمهم.

-       وثانيًا، لاحظ هنتنغتون أن الولايات المتحدة، التي قامت بعمليات عسكرية في 16 دولة تقريبًا خلال العقدين الماضيين، عليها أن توقف سياسة التدخل غير الشرعية هذه.

وفي الواقع، أوصى هنتنغتون أن تكون عمليات الجيش الأمريكي في الخارج مقصورة على حالات استثنائية يكون فيها تهديدٌ للمصالح الوطنية الحيوية لأمريكا.

-       وثالثًا – وهو الأعجب! – أن هنتنغتون أعلن أن الولايات المتحدة "تحتاج إلى أن تبعد نفسها عن إسرائيل".

وكان هنتنغتون محدَّدًا في كلامه على ما تحتاج الولايات المتحدة إلى فعله على الجبهة الإسرائيلية–الفلسطينية حتى تحبط أيَّ صراع للحضارات، وحتى تحمي مصالحها الوطنية. فعلى واشنطن، حسبما لاحظ، أن "تلزم نفسها بجهود لإقامة دولة فلسطينية، بحيث تكون القدس عاصمة مشتركة مع الإسرائيليين". أضف إلى ذلك أن الولايات المتحدة يجب أن ترعى جهودًا "لضمان إزالة المستوطنات الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية". واعترف هنتنغتون أن إزالة المستوطنات غير الشرعية سيكون "إجراء صعبًا للغاية". وفي جواب على أحد الأسئلة، قال:

هناك مسلمون في الشيشان وكشمير تحكمهم حكوماتٌ غير إسلامية – بعبارة أخرى، وفي حالة الفلسطينيين، الإسرائيليون هم مَن يحكمون – وسيكون من المستحب كثيرًا أن يمارس هؤلاء المسلمون تقرير المصير.

أخبار سارة، وأخبار سيئة. لسوء الحظ، يبدو مسار الأحداث العالمية – على الأقل في ما يخص العلاقات بين العالم الإسلامي والغرب – معاكسًا لأفكار هنتنغتون. ففي الإمارات العربية، لاحظ هنتنغتون أنه "يجب أن يختار المسلمون بين تنظيم القاعدة وبين دبي"، في إشارة إلى دور دبي كمركز للتكنولوجيا المتقدمة. وأضاف: "إذا كان أسامة بن لادن يستطيع حشد الناس من أجل قضيته، فإن هذه الحرب ستصير بالفعل صِدامًا بين الحضارات."

على هذا الصعيد، على الواحد منَّا أن يعترف بأن احتمال أن تتطور الحرب الحالية ضد الإرهاب إلى صراع بين الحضارات هو أمر واقعي جدًّا. الوضع في فلسطين مستمر في التدهور؛ ويبدو أن الولايات المتحدة تجهِّز لغزو للعراق قد يشارك فيه 250 ألف جندي من القوات الأمريكية[1]. هناك ظلام يتفشَّى الآن في العالم، وحرب رئيسة بين الحضارات تبدو احتمالاً قويًّا. وقد تثبت أقسى المفارقات أنه، حتى إن ارتدَّ هنتنغتون عن تكهناته للعام 1993، إلا أن التطورات الدولية وصلت إلى درجة تنبئ بأن نظرية العام 1993 قد تثبت في النهاية صحَّتها.

وعلى الرغم من ذلك، توجد أخبار سارة في واشنطن بالمعنى المؤسَّسي. فهناك، منظمتان غير حكوميتين تعملان بجدٍّ لإدامة الاتصالات وتحسينها مع العالمين العربي والإسلامي: أولاهما، "المعهد الإسلامي"، وهو منظمة سياسة عامة، قامت أخيرًا برعاية مؤتمر ناجح جدًّا في قَطَر، شاركتُ أنا فيه؛ وللمعهد علاقات ممتازة مع إدارة بوش. والمنظمة الأخرى مؤسَّسة "أطلس"، وهي مركز تعليمي وبحثي، موجودة داخل حَرَم جامعة جورج ميسن، بدأت برنامجًا رئيسًا موجَّهًا إلى العالم الإسلامي؛ وأنا مشترك في هذا الجهد أيضًا. وإذا كان يمكن تجنب الأسوأ، فإن هاتين المنظمتين يمكن لهما، بمرور الوقت، المساهمة الفاعلة في تحسين العلاقات الأمريكية مع العالم الإسلامي.

وتوجد الآن منظمة ثالثة في الولايات المتحدة بدأت بالمساهمة الفاعلة، ليس فقط في تحسين الفهم الأمريكي للعرب والمسلمين، بل أيضًا في إيجاد إدراك جديد عند المسلمين خارج الولايات المتحدة لفوائد الحكم الديموقراطي والمؤسَّسي. هذه المنظمة هي "مركز الإسلام والديموقراطية"، الذي أنا عضو في هيئة مدرائه. ويقوم المركز حاليًّا بتنظيم سلسلة من ورشات العمل والندوات حول مواضيع تهمه في دول مثل المغرب ومصر والأردن والكويت. وهذا، أيضًا، يشكِّل أخبارًا سارة، ويشير إلى أن مستقبلاً أفضل للعالم الإسلامي والغرب لا يزال أمرًا ممكنًا.

وهناك المزيد من الأخبار السارة في الولايات المتحدة، كما تدل على ذلك التعليقات في وسائل الإعلام الوطنية والمحلِّية. دعوني أقدم مثالين على ما في ذهني. هذا النوع الجديد من التعليقات هو نوع غير مسبوق، ويشير إلى أن رأي النخبة والرأي الشعبي يتغيران بطُرُق عميقة، أكثر مما قد يلمسه أحدهم بمجرد مشاهدة الأخبار كما تنقلها الـCNN! فللأفكار نتائجها، مهما كانت هذه النتائج بطيئة الظهور في عالمي السياسة والديبلوماسية.

في افتتاحيتها الرئيسة في 26 نيسان 2001 – وعنوانها "أخطاء الحسابات التاريخية الإسرائيلية" – شنَّتْ صحيفة New York Times هجومًا عنيفًا على رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون لإعلانه رفضَه النظر في إزالة حتى أصغر المستوطنات الإسرائيلية وأكثرها عزلة عن الأراضي المحتلة. فقد قال كاتبُ الافتتاحية:

من الصعب تخيُّل ما هو أكثر إحباطًا من هذا الإعلان بنظر أولئك الذين يأملون في إنهاء أعمال العنف في الشرق الأوسط من طريق مفاوضات الأرض مقابل السلام.

وتابع كاتب الافتتاحية:

المستوطنات في الأراضي التي تمَّ الاستيلاء عليها في حرب العام 1967 هي أعظم عقبة إسرائيلية أمام السلام. إنها تحرم الفلسطينيين من الأرض والماء، وتقسِّمهم جغرافيًّا، ومن الصعب الدفاع عنها ضد هجمات الفلسطينيين، كما أنها تعقِّد إنشاء حدود إسرائيلية واضحة وآمنة.

وأشارت الافتتاحية إلى أنه منذ أن أصبح السيد شارون رئيسًا للوزراء "تم إنشاء حوالى 35 مستوطنة حدودية". وخلصت إلى القول بأن سياسة السيد شارون حالت دون أيِّ إمكان للبدء بحوار بين الفلسطينيين والإسرائيليين بهدف التوصل إلى تسوية نهائية من أجل السلام.

ولنقرأ مقالة كلارنس بيج، كما نُشِرَتْ في Ann Arbor News في 4 آذار 2002، ردًّا على ملاحظات المبشِّر التلفزيوني بات روبرتسون الذي وصف الإسلام بأنه "دين غير مسالم"، متهمًا المهاجرين المسلمين في الولايات المتحدة بأنهم يدافعون عن الإرهاب. فقد كتبتْ بيج تقول:

الأخ العزيز بات: إنني أحرص على تقديم هذا النقد على شكل نصيحة أخوية، من مسيحي إلى آخر. بات، إن المسلمين الذين شعروا بالإساءة بعد أن قمتَ أخيرًا بالحطِّ من قدْر دينهم بوصفك إياه "دينًا غير مسالم" لديهم أسباب جيدة للامتعاض. لقد قدمت تقريرًا محرَّفًا في برنامجك Club 700 عبر شبكة البثِّ المسيحية الخاصة بك، صوَّر المهاجرين المسلمين بأنهم يدافعون عن الإرهاب. بات، أليس من الممكن أن معظم المهاجرين المسلمين جاءوا إلى هنا للأسباب نفسها التي جاء من أجلها معظم المهاجرين الآخرين: البحث عن حياة أفضل لهم ولعائلاتهم؟ لقد قلت: "قمت بالاحتجاج على موقف الرئيس بوش حين قال إن الإسلام دينٌ مسالم. ولكنه ليس كذلك. والقرآن يقول في وضوح إنك إذا رأيت كافرًا فعليك أن تقتله." يا للروعة! لقد تساءلتُ عن المصدر الذي أخذت منه هذه الشذرات القليلة. وقد أجبت أنت عن سؤالي: المصدر هو الموسوعة البريطانية. لقد قمتَ، إذن، بدعوة المتشككين للعودة إلى الموسوعة. وهذا ما فعلته أنا. وهل تدري ماذا حدث؟ لقد كنتَ محقًّا، ولكن في شكل جزئي. تحت عنوان "الجهاد" تقدِّم النسخة الإلكترونية من الموسوعة البريطانية على شبكة الإنترنت التعريف التالي: "واجب ديني مفروض على المسلمين لنشر الإسلام بشنِّ الحرب." ولكن الموسوعة تفصِّل ذلك بعد بضعة سطور: "يشدد الإسلام تشديدًا خاصًّا على مجاهدة الفرد لنفسه. وهو يقر بالحرب ضد الأمم الأخرى فقط كإجراء دفاعي عندما يكون الدين في خطر." وفي الحقيقة، هذا يتطابق مع "دين السلام" الذي يمارسه معظم المسلمين الذين عرفتُهم، ومن بينهم اثنان من رجال الدين واثنان من أبناء عمومتي. ولكنني أيضًا بحثت في "الحرب المقدسة"، ترجمة "الجهاد"، وقادتْني الموسوعة البريطانية إلى أمثلة وفيرة عن مسيحيين استخدموا هم أيضًا نصوصًا مأخوذة من كتاب يهوه والعهد القديم لتبرير جهادهم الخاص، خصوصًا ضد المسلمين واليهود. بات، لقد أصبح العديد منَّا مرهقًا من "الجهاد". بات، العدو ليس الإسلام. إنه الإرهاب. وإذا اخترنا محاربةَ أصدقائنا فإن الإرهاب سوف ينتصر.

أخبار سارة. إنه برهان قوي على أن التغيير يلوح في الأفق. ليس فقط في ما يتعلق برأي النخبة حول حكومة أرييل شارون، وإنما قد يصح الأمر فيما يتعلق بإدراك شعبي أعم لحقيقة الإسلام. في الحقيقة، هناك في الولايات المتحدة الآن تعطُّش إلى تعلُّم المزيد عن الإسلام. ألاحظ ذلك بشكل متزايد في النقاشات المختلفة التي أشارك فيها في مدن أمريكية. وهذا كلُّه يجعلني أخلُص إلى أنه يوجد حقًّا إمكانٌ لمستقبل أفضل.

ولكن هناك أخبارًا سيئة بالطبع. وهذه الأخبار السيئة، حسبما تبدو لي، يجب أن تكون محطَّ اهتمام جميع الأمريكيين، سواء أكانوا على صلة بالمسلمين في أمريكا أم لا.

أخيرًا، قامت وكالاتٌ حكومية أمريكية مختلفة بالإغارة على عدد من مراكز السياسة العامة والمعاهد التعليمية التابعة للمسلمين. هذه المنظمات معروفة، وتحظى باحترام جميع الأكاديميين الأمريكيين الجادين المختصين بالعالم الإسلامي؛ كما أن لها سمعةً دولية راسخة. وأهم هذه المعاهد التي أتذكرها "المعهد الدولي للفكر الإسلامي" و"مدرسة العلوم الإسلامية والاجتماعية".

لقد اقتحم موظفون أمريكيون، شاهرين أسلحتهم، هذه المراكز والبيوت الخاصة ببعض قيادييها، في بحث عن معلومات تربط المراكز وموظفيها بالدعم المالي للإرهاب أو أيِّ دعم آخر؛ وتم تجريد المكاتب مما فيها من أقراص الكومبيوتر ووسائل حفظ المعلومات. وهي تنظِّم الآن برامج محدودة جدًّا. وليس من المفاجئ أنه لم يتم العثور على أيِّ دليل على دعم الإرهاب. فلو أن "مكتب التحقيقات الفيدرالي" FBI و"مكتب الهجرة والتجنيس" والوكالات الأخرى قاموا بالتحقق من الأمر مع أيٍّ من أعضاء "جمعية دراسات الشرق" (المنظمة الأمريكية الأكاديمية الرئيسة التي تركِّز على الإسلام والمسلمين) الذين يزيد عددهم على الألفين، لَوَفَّروا على أنفسهم الكثير من العناء. وكما يبدو الأمر، هناك "موسم مفتوح"، حتى ضد أكثر منظمات المسلمين اعتدالاً في الولايات المتحدة، في ما يتعلق بـ"الحرب على الإرهاب" والتركيز على "محور الشر". وفي نظر العديد من الأمريكيين الذين مازالوا يؤمنون بالقيم الأمريكية التقليدية في اللعب النظيف، التسامح والحرية الشخصية، فإن هذه الإغارات تشكِّل أخبارًا مُحبِطة.

وبالإضافة إلى ذلك، هناك موضوع المسلمين المعتقَلين، الموجودين الآن في سجون أمريكية، دون أيِّ سبب قانوني موجب. في الحقيقة، قد يكون لدى بعض هؤلاء المعتقَلين معلوماتٌ مفيدة لمكافحة الإرهاب. لكن ما يقلقني أنه لا أحد يرى إثباتًا ضد أيِّ واحد منهم، وهو الذي تعتبره حكومة الولايات المتحدة سرًّا. والحقيقة هي أن بضع مئات من المسلمين في الولايات المتحدة مسجونون الآن دونما أية تهمة. وهذا يضر بنظام العدالة المتساوية للنظام الأمريكي بأكمله والمتضمن في حكم القانون؛ كما أنه يمثل تناقضًا مع أفضل ما رمزت له أمريكا تاريخيًّا.

وما يهمني خصوصًا مقولة تمَّ الزعمُ أخيرًا أن قائلها هو النائب العام للولايات المتحدة، السيد جون أشكروفت. طبقًا للتقارير، قال السيد أشكروفت:

الإسلام هو الدين الذي فيه يطلب منك الله إرسالَ ابنٍ للموت من أجله. المسيحية هي الدين الذي فيه يرسل الله ابنَه للموت من أجلك.

وعلى اعتبار حقيقة أن هذا التصريح المزعوم تمَّ من جانب الفرد الأكثر مسؤولية مباشرة عن تطبيق القانون الأمريكي، فإن جميع عمليات السَّجْن دون توجيه تُهَمٍ والإغارات المحلِّية على منظمات إسلامية لا ينبغي أن تكون مفاجئة.

ومنذ وقت ليس بالبعيد، كانت هناك مناقشة جادة في "الزاوية" – وهي دائرة في النسخة الالكترونية من مجلة National Review، إحدى مجلات الرأي الأمريكية الرئيسية – حول جدوى إسقاط القنابل النووية على مدن إسلامية وعربية معينة. والمدن الرئيسة التي تم اقتراحها للتدمير النووي هي طهران وبغداد ودمشق. كما تم أيضًا ذكرُ رام الله وغزة كهدفين محتملين في حال امتلكتْ الولايات المتحدة قنابل "نظيفة" بشكل لا يُحدِثُ دمارًا في المنطقة المجاورة. وجرت مناقشة بين محرِّري National Review حول ما إذا كان يجب تدمير مكة نفسها! قبل كلِّ شيء، هذه المناقشة توضح نوع الهستيريا التي توجد الآن في الولايات المتحدة والتي قد تسبب كارثة دولية. ولا بدَّ أن أسامة بن لادن قد سرَّه نشرُ أنباء هذه المناقشة في العالم الإسلامي.

ولكن يجب ألا ننسى: الولايات المتحدة عبارة عن عدة أشياء. إنها مكان مركَّب. وفي الحقيقة، هناك أكثر من أمريكا واحدة؛ وهناك خطابات أمريكية متصارعة عدة. هذه هي الفوضى، ولكنها أيضًا مجد الديموقراطية الأمريكية. وعلينا ألا نقع أبدًا في ما وقع فيه أسامة بن لادن (أو صدام حسين) من خطأ في الحكم على الولايات المتحدة بأنها واحدة، متجانسة، ووحدة متكاملة. هذه أخبار سيئة، ولكن، كما سبق لي أن أشرت، هناك أيضًا الكثير من الأخبار السارة، في وسائل الإعلام وفي القطاع الخاص. وقد يأمل واحدُنا أن ترجح كفَّة الأخبار السارة، بمرور الوقت، على كفة الأخبار السيئة.

أحد الأمثلة المهمة على نوع الأخبار السارة التي في ذهني جاء في كتاب رائع للبروفيسور بيتر كريفت هو الجهاد العالمي الذي صَدَرَ عن دار Ignatius في العام 1996. في هذا الكتاب يتغلغل كريفت تغلغلاً لافتًا في الحساسية الداخلية للإسلام. فمن خلال حوار متخيَّل، في العصر الحديث، بين النبي محمد وكريفت نفسه، يعرض المؤلِّف ارتباطًا دينيًّا بالإسلام قد يكون نادرًا في نظر غربي غير مسلم. والأهم من ذلك، ربما، أن هذا الحوار بين النبي وكريفت يصف المشاكل المجتمعية للحداثة الغربية. وفي الحقيقة، يقترح المؤلِّف أن الإسلام قد يمتلك القدرة على مساعدة الغرب للنجاة من المستنقع الأخلاقي الذي غرق فيه بسبب الاستسلام للحداثة الإلحادية. إن رؤية بيتر كريفت في الجهاد العالمي تشي بروح "دائرة التراث والتقدم" التي سأتحدث عنها لاحقًا.

يبدأ الحوار في كتاب كريفت عندما يقول بوذا لكريفت في نهاية النقاش معه: "هذا الرجل سيعلِّمك الدين أكثر من كونفوشيوس... إنه سيعلِّمك قلب الدين الأكثر حقيقية وروحه." فيعترف كريفت أنه "صُعِقَ" بعدما تبيَّن أن ذلك الرجل هو النبي محمد. ويقول كريفت:

لذا سألت محمدًا: "ما هو قلب أكثر الأديان حقيقية وروحه؟"، وجاء الجواب "بكلمة واحدة من محمد: "الإسلام – التسليم – والسلام الذي يصدر عن الخضوع، السلام الذي لا يمكن للعالم أن يمنحه، بل الذي يجيء فقط من التسليم لإرادة الله. هذا هو قلب الدين الحقيقي وروحه... الخطوة الأولى الحقيقية هي العبادة، السجود بالجسد والسجود بالروح: الإسلام."

ثم يتابع محمد محذرًا:

أنتم الغربيين، لا تكسبون دنياكم، ولا تكسبون جهادكم، أو حربكم الروحية. إن عالمكم ينزلق بكم إلى جهنم. لماذا؟ لماذا خسرتم أمام الشيطان على مدى قرن من الزمان؟ ذلك لأنكم تثرثرون حول أنفسكم وحول حرياتكم وحقوقكم وإشباع ذواتكم، بدلاً من أن تنسوا أنفسكم وتعبدوا وتطيعوا الله... عليكم أن تعودوا إلى الفطرة إن أردتم دخول ملكوته. القول قوله وليس قولي. أنا مجرد رسول. إنه الواحد الذي ليس كمثله شيء. لا إله إلا الله.

ثم يجثو محمد على ركبتيه "ويحني ظهره ويصلِّي". ويتابع كريفت:

إن الشوفينية الثقافية المتكبرة التي كنت أنظر من خلالها، بلا وعي، إلى هذه الكلمات العربية المقدسة، وإلى تلك الأعمال العربية المقدسة، بدت وكأنها ماتت فجأة في داخلي... لقد تساءلت... ماذا إذا كان لعالمي أن ينجو بأية طريقة أخرى... وبدأت أتساءل عما إذا كان التنامي المتفجر للإسلام في زماننا عائدًا لسبب أبسط مما قد يكتشفه أي عالم اجتماع: إن الله يبارك الطاعة والإيمان، وخصوصًا إذا كانا محاطين بثقافات عاصية وغير مؤمنة.

وكان لدى محمد ما يضيفه:

-        محمد: "إن الدين الذي علَّمتُه لشعبي هو أبسط الأديان في العالم. هناك أوقات تتطلب التعقيد، وهناك أوقات تتطلب البساطة. واليوم هو وقت البساطة، فيه سخرية مفضَّلة تجاه المؤسَّسة المنهارة، المتكبرة الفاسدة والمعادية لله في ضراوة. فما هو يومنا باعتقادك؟

-        كريفت: "ليس لديَّ ما أقوله." ويجيب محمد على السؤال الذي سأله.

-        محمد: "إنه وقت للجهاد، للحرب المقدسة، للحرب الروحية. بل إنه وقت لنفتح أعيننا على حقيقة أننا في خضمِّ واحدة من هذه الحروب، سواء أعجبتك هذه الحقيقة أم لا."

-        كريفت: "لكننا أُمِرْنا أن نحب أعداءنا، لا أن نشنَّ الحرب."

-        محمد: "نحن نحب أعداءنا الإنسانيين، ونشنُّ الحرب ضد أعدائنا الروحيين."

-        كريفت: "أليس المسلمون مشهورين بالخلط بين الأمرين وبشنِّ حروب مقدسة لا تميِّز بينهما؟"

-        محمد: "البعض منهم. إذ يعتقد حوالى ثلاثة في المئة من المسلمين في العالم أن الجهاد يعني حربًا مادية وقتل الكفار؛ لكن القرآن يوضح أن هذه الحرب هي، أولاً وقبل كلِّ شيء، موجهة إلى داخل المرء وضد خطاياه وخياناته."

-        كريفت: "لكن شعبك – العرب – مشهور في العالم بالعنف."

-        محمد: "وهل هم بخلاف شعبك في إيرلندا الشمالية."

-        كريفت: "ولكن تاريخكم كلَّه مليء بالـ..."

-        محمد: "بالحروب الصليبية ومحاكم التفتيش والإكراه في الدين ومعاداة السامية والحروب الدينية؟"

-        كريفت: "أدركت بسرعة أن منطقي يراوح مكانه، وأنه سينفجر في وجهي."

عند هذه النقطة، يقول كريفت، تابع محمد كلامه في لطف.

-        محمد: "دعني أحاول أن أشرح لك. الإسلام والجهاد مرتبطان في جوهرهما. فالإسلام لا يعني التسليم فقط، وإنما السلام أيضًا – السلام الذي لا يمكن للعالم أن يمنحه، السلام الذي يمنحه الله فقط، عندما نسلم له وجهنا. وهذا التسليم يتطلب جهادًا داخليًّا، حربًا على حربنا ضد الله. ومن هنا نصل إلى مفارقة أن السلام (الإسلام) يتم إحرازه فقط من خلال الحرب (الجهاد)، وأن هذا السلام يقود أيضًا إلى الحرب، لأن الخضوع الذي يتطلب هذا السلام، يتطلب منَّا أن نطيع إرادة الله؛ وإرادة الله تطلب منَّا أن نصير محاربين روحيين ضد الشر."

إن أعمال باحثين، مثل بيتر كريفت وكارين أرمسترونغ، تشكِّل أخبارًا مشجعة بالفعل، كما يبدو لي، تُظهِر في وضوح حقيقة وجود أصوات بديلة في أمريكا والغرب. بالطبع، هذا التعاطف المتطور مع تقوى الإسلام يوفر الإمكان لبدايات جديدة متنوعة، إذا كان الباحثون المسلمون أنفسهم يميلون إلى الدخول في هذه المناقشة وتوسيعها – وبعضهم يفعل ذلك.

وختامًا، دعوني أصف لكم جمعية عالمية جديدة تحاول تيسير هذا الهدف. إن "دائرة التراث والتقدم"، ومكاتبها الرئيسة في لندن وبَلتمور بماريلاند، تحاول الجمع بين شخصيات مسيحية ومسلمة، نقلية في ثقافتها، للسعي نحو تحسين ما يمكن تسميته "الجانب المظلم للتنوير"، كما تمَّ تصويره في شكل بليغ في حوار البروفيسور كريفت المتخيَّل مع النبي محمد. وهدف هذه الدائرة، المعبَّر عنه في جرأة، هو محاولة التأكيد على أنه لا يوجد صراع حضارات يضع العالم الإسلامي في جهة مضادة للغرب. وتعبِّر "دائرة التراث والتقدم" في بيان أهدافها عن فلسفة في التاريخ وتقويم للحداثة وتوصية تتعلق بمقاييس يمكن ضمنها إدارةُ العلاقات الدولية في شكل مناسب.

ويقول بيان الأهداف الخاص بالدائرة بأن

المشروع الحديث، المشتق أساسًا من التنوير الأوروبي، يمكن له أن ينسب لنفسه بحق الإنجازات العظيمة في المجالات التقنية والاجتماعية السياسية. وعلى أية حال، أصبح العديد من الشعوب في العالم على وعي بالنتائج التي تلازمتْ مع الحداثة: انتصار المادية، انهيار الأخلاق، سقوط الأسْرة والمجتمع، وتآكل المعتقد الديني.

ويواصل القول:

إن المشروع الحداثي يتضمن في داخله إصرارًا متكبرًا وساذجًا على أن الإنجازات البشرية يمكن تحقيقها فقط على أسُس مادية، ويتضمن إيمانًا بالاستقلال المطلق للمنطق البشري وبالقدرة المفترضة للإنسان على خلق منظومته الأخلاقية والسياسية في معزل عن أيِّ اعتقاد متعالٍ.

ويؤكد بيان الأهداف خصوصًا على "مقاومة شطط الحداثة، مع انتباه خاصٍّ لنقد التجربة العلمانية المتطرفة السلوكية المادية المعاصرة". وضمن أشياء كثيرة أخرى، يوضح البيان أن هذا المجهود "سيتضمن تشجيعًا على وحدة الوجود الفاعل لدى الفرد والمجتمع". ويبيِّن أن

وحدة الوجود الفاعل في المجتمع الذي نسعى إليه سيشمل حكومة مسؤولة ديموقراطية، وحقوق إنسان، وحرية فردية أساسية، ونظامًا اقتصاديًّا حرًّا وإنسانيًّا. ما نقترحه هو إعادة إنشاء توازن بين الروحي والمادي، وإصلاح ما يُسمَّى "الأشياء الدائمة". وفي معنى أوسع، إن نيَّتنا هي أن نرعى نشاطات فكرية تهدف إلى تصحيح العلاقات الحديثة بين الاقتصاد والأخلاق، المنطق والدين، والإنسان والله. وفوق ذلك كلِّه، نأمل في التشجيع على تفاهم أكبر بين الأديان وفي المساهمة في المصالحة بين الشعوب في التعاون الدولي.

وفي النهاية، يعرض البيان توصيات في شأن إدارة العلاقات الدولية:

إننا نفضل إدارة العلاقات الدولية على أساس احترام جميع حضارات العالم، ونعارِض جميع المحاولات لتصدير الأنظمة الثقافية أو فَرْضِها، أو دعم الأنظمة الديكتاتورية أو إعاقة التحول الديموقراطي. إننا نؤمن بأن محاولات إعادة اختراع الحرب الباردة، وفيها استهدافٌ للمسلمين كأعداء للغرب، أو اعتبار الغرب العدو الدائم للإسلام، هي محاولات بائسة ويجب تجنبها. ويوحِّدنا الاعتقاد بأن جميع الصيغ المانوية [التي تقسم العالم إلى نور وظلام] ستعوِّق التعاون بين المسلمين والغرب. ومن المرجح أن يكون لها، بمرور الوقت، تأثيرٌ سلبي على الاستقرار الدولي والسلام العالمي.

أخبار سارة. ويبدو لي أننا جميعًا، ممَّن نلتزم بتحقيق مستقبل أفضل لأبناء إبراهيم المعذبين، مسؤولون للعمل معًا، أكثر مما مضى، لتحقيق هذا الهدف بدقة.

*** *** ***

ترجمة: مروان حمدان

عن النشرة، العدد الثالث والعشرون (2002)

دورية تصدر عن "المعهد الملكي للدراسات الدينية" (عمان)


 

horizontal rule

[1] لم يكن غزو العراق واحتلاله قد وقع بعدُ لدى كتابة المقال. (المحرر)

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود