القصة القصيرة

وإمكانية التحول الداخلي*

أميمة الخش

 

كتبتُ القصة القصيرة بلا تعمُّد ولا اجتلاب. فرضتْ نفسَها عليَّ فرضًا، هكذا، من حيث لم أكن أتوقع!

بعد "محاولتي" الأولى في كتابة الرواية، باشرتُ كتابة روايتي الثانية زهرة اللوتس، التي كُتِبَتْ على مراحل، وعلى مهل، بعكس الرواية الأولى التي خرجتْ دفقة واحدة.

والغريب أنني كلما أوغلت في كتابة تلك الرواية جاءتْني، على حين غرة، فكرةُ قصة وفرضتْ نفسها عليَّ، بحيث إنني كنت أنحِّي الرواية جانبًا – أتناساها مؤقتًا – وأنصرف بكلِّيتي إلى الفكرة التي جاءتْني.

غير أن الموضوعات التي فرضتْ نفسَها عليَّ لم تكن بالغريبة عن تساؤلاتي الفلسفية إجمالاً، ولا بالبعيدة عن أجواء اللوتس. كنت في تلك الرواية أتتبَّع المسار الداخلي لنموذج فتاة من مجتمعنا، تحاول أن تتلمَّس لنفسها طريقًا في الحياة، على مستويي الداخل والخارج معًا، وصولاً إلى نوع من التحول الداخلي غير المرتهَن للاشتراطات المجتمعية الخارجية.

كانت ثيمة التحول الداخلي مستبدة بي عندما كنت أشهد، أو أسمع، أو أختبر، أو أتخيل أحداثًا قد تبدو، حينًا، متكررة في حياتنا حتى الابتذال، أو فريدة من نوعها، حينًا آخر. لكني كنت، في كلتا الحالين، أجد فيها مناسبةً لتحقيق التحول الروحي المذكور عبر إعمال الحوار الداخلي في الشخصية الرئيسية للقصة، معتمدة تارةً على ما يُصطلح على تسميته بـ"جدول الوعي" stream of consciousness، أو على المونولوج الداخلي تارة أخرى. فكنت أنطلق بالشخصية دومًا من حالات "لامخرجية" impasse (بحسب مصطلح عالِم النفس المصري سامي علي) – والحالة اللامخرجية وضعٌ تتألَّب فيه على الفرد ظروفُ الداخل والخارج، بحيث يُنتزَع منه زمامُ الأمور، أو تُشَلُّ فيه أيةُ قدرة على المبادرة من شأنها أن تُخرِجه من مأزق نفسي أو أخلاقي هو واقع فيه، فتكون الشخصية واقعةً في "فخ"، إذا جاز التعبير، تضطر فيه إلى مواجهة تناقُض صارخ بين قيمها الأخلاقية الأصلية وسلوكها الخارجي، المساير والمداهن للممارسات الاجتماعية السائدة.

في مثل هذا الوضع اللامخرجي، كما قلت، مهما فعل المرء، ومهما حاول أن يوجِد من مَخارج، يعود فيجد نفسه أمام تناقضه الأساسي هذا (دائرة معيبة) – إلى أن لا يعود قادرًا على الاستمرار حاملاً هذا التناقض بين جنبيه. عندئذٍ – وعندئذٍ فقط – تبدأ عملية الحوار الداخلي بين الذات الجوهرية، حاملةِ القيم الأخلاقية، وبين الشخصية الخارجية المفتعلة (القناع الاجتماعي الزائف)، حتى الوصول إلى جذر التناقض واجتثاثه من خلال الاعتراف بوجوده، أولاً، ثم التحلِّي بالشجاعة على كَسْرِ تلك الدائرة المعيبة التي تدور فيها الأنا الشخصية.

هكذا يتم حلُّ التناقض والخروج من المأزق عبر خبرة تحوُّل أو انقلاب، تمثل لها نقطةُ التأزم أو الذروة في كلِّ قصة، يليها الحلُّ الذي يقع على سوية وعي أعلى تحقِّقها الأنا.

هكذا توالت قصصُ المجموعة: "خارج أسوار الماضي"، "الفدية"، "الحلم"، "العالم الثاني"، "ديك الجن يحطم قيوده"، "الخروج من التيه"، "انعتاق"، إلخ، التي تدل عناوينُها على ما ذكرت. ومن هنا أسميت قصص المجموعة انعتاق.

وأغلب الظن أن الشعور بالانتعاش الداخلي الذي منحتْني إياه كتابةُ هذه القصص هو الذي ساعدني على فهم الحالة اللامخرجية التي عاشتْها بطلةُ زهرة اللوتس، وهداني إلى إيجاد المخرج منها عبر تجربة حبٍّ حقيقية غير مألوفة في واقعنا اليومي. أليست خبرة الحبِّ الحقيقي هي التحول الداخلي بامتياز؟!

***

في مجموعتي الثانية الرشيم، التي استبقتْها ومهَّدتْ لها قصةُ "حنين" في المجموعة الأولى، إنْ من حيث الأسلوب أو تقنية السرد، أظنني خطوت خطوة أبعد قليلاً في مفهوم التحول الداخلي. فالشخصيات الرئيسية في هذه القصص لا تحاول أن تخرج من حالة مأزقية وحسب، بل هي كائنات يؤرقها البحثُ عن المعنى – معنى الحياة عمومًا، ومعنى حياتها خصوصًا. التحول الداخلي هنا لا يتم إلا عبر إيجاد المعنى وإضفائه على الحياة التي تظل، في غيابه، خاوية بائسة.

في قصص الرشيم اتكأتُ أكثر على المونولوج الداخلي على حساب الحدث، حيث استعملت في معظمها ضمير المتكلم الذي يسهِّل عليَّ معايشةَ التحول الداخلي الجاري في الشخصية، أو ربما، على العكس، خَلْعَ التحول الداخلي الجاري فيَّ آنيًّا على الشخصية في أثناء فعل الكتابة نفسه.

كلمة أخيرة عن المونولوج

المونولوج، قبل أن يكون أسلوبًا وشكلاً تعبيريًّا أدبيًّا، هو الحوار الداخلي الذاتي الرامي إلى معرفة النفس من خلال استنطاقها عن مكنوناتها التي تطلب التحقق؛ هو، في جوهره، معاينة أنفسنا على ما نحن عليه فعلاً، وليس على ما نتمنَّى أن نكون. إنه قبول نفسنا كما هي، بخيرها وشرِّها، بنورها وظلامها. فوحده هذا القبول هو السبيل إلى المصالحة مع النفس والخروج من مآزقها.

من هنا جاءني استعمالُ المونولوج الداخلي في قصصي عفو الخاطر، وسيلةً للتعبير عن العالم الداخلي للإنسان. وحتى الحوارات، على قصرها النسبي (باستثناء قصتي "نشوة" و"الرشيم" اللتين يشكِّل الحوارُ عمودهما الفقري)، أتت في قصصي أشبه ما تكون بتحاوُر جوانب متعددة في شخصية إنسان واحد، يجسِّدها كلٌّ من الشخصيات (كأنْ يتحاور الجانب المذكر في الإنسان مع جانبه المؤنث – الأنيموس animus والأنيما anima، على التوالي – مع الأنا، على حدِّ اصطلاح كارل يونغ؛ أو الأنا مع صورة الأب أو صورة الأم؛ إلخ).

المونولوج، إذن، ليس في قصصي وليد المصادفة. فإنْ كنت أسبر فيها إمكانات العودة إلى الذات كسبيل لا بدَّ منه للتأثير على الواقع، في بُعديه الفردي والجماعي، فالمونولوج هو الشكل الأمثل للتعبير عن هذه العودة التي ليست إلا تحقيق الانقلاب الداخلي والوعي.

*** *** ***


 

horizontal rule

* قُدِّمَتْ هذه "الشهادة" ضمن فعاليات ندوة "القصة في سوريا: الأصالة والتقنيات السردية"، المعهد الفرنسي للدراسات العربية، دمشق، 31 ت1-1 ت2 2002.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود