|
تداعيات بسيطة حول المعرفة
أولى "الحقائق النبيلة الأربع" التي علَّمَها البوذا غوتاما حقيقةُ الألم. ثمة ملذات عديدة في الحياة، وهناك جمال كثير أيضًا. لكن الملذات والجمال يظلان مبطَّنين بالألم. ولهذا الألم، بحسب العقيدة البوذية، طبيعةٌ مزدوجة: تَـنْها tanhā (الرغبة، الظمأ، اشتهاء الموضوعات الخارجية، المرئي منها وغير المرئي) وأفِـدْيـا avidyā (اللاعلم أو "الجهل"). ولأن طلب اللذة من أجل ذاتها يتبطَّن على ألم، فإنها زائلة، وسرعان ما تنقلب إلى وَجَع، سأم، إنهاك، وهلم جرا. * كثيرًا ما نظن أن الشقاء ناجمٌ عن الظروف أو عن الآخرين – عن شيء خارج أنفسنا؛ لكن هذا ليس صحيحًا في الواقع. الشقاء ناجم عن اشتهاء الذهن للموضوعات الخارجية (أي التي تقع "خارج" الذات الحقيقية)، وعن جهله لطبيعتها الجوهرية. والشهوة والجهل مظهران من مظاهر الشرط عينه؛ إذ إن جهل الطبيعة العميقة للحياة هو وحده ما يولِّد الشهوة. أما الذي يحيا بالحقيقة، وفي الحقيقة، وللحقيقة، فلا تعتريه الرغبةُ، – بالمعنى الدارج على الأقل، – لأن الحقيقة من الغنى والكمال بحيث لا تستبد به حاجةٌ إلى التفتيش عن أيِّ شيء سواها. لذا فمن المهم أن نفحص عن طبيعة كلٍّ من الجهل ومن المعرفة، بما أننا كثيرًا ما تلتبس علينا الأفكارُ بخصوص كلٍّ منهما. * المعرفة، بالمعنى العادي للكلمة، – معرفةُ الموضوعات الخارجية، – لا تستطيع حتى أن تخفِّف من الرغبة – فما بالك في أن تستأصلها؟! إن امرأ ذا "معرفة" واسعة قد يكون، في الآن نفسه، طَموحًا، تستهويه الرغباتُ الدنيا، وضيعًا. لكنْ حيثما توجد معرفةٌ حقيقية، تزول الشهوة. إن الاختبار الحقيقي للفهم الذي يتمتع به امرؤٌ ما هو قدرتُه على الانعتاق من َتـنْها وأفِـدْيـا. من هنا، إذا لم تُعِنْه دراسةُ التعاليم الفلسفية والروحية على أن يصير حرًّا من الداخل أكثر، فإن ثمة شيئًا ما ليس على ما يرام، إما في صحة التعاليم، وإما في تفسير هذا المرء لها، أو في مدى جدِّيته في وضعها موضع التطبيق. * المعرفة الحقيقية، حينما لا تكون عقائدية، معرفةٌ يقينية، لا بمعنى الاعتقاد بامتلاك الحقيقة – فالحقيقة لا يمتلكها أحد، بل بالأحرى هي التي "تمتلكنا" عندما نعرفها – بل بمعنى انعدام المسافة بين المعرفة والكينونة: "معرفة الشيء عين وجوده." (السهروردي المقتول) وهي، بهذه المثابة، لا تحتاج إلى برهان ولا إلى تأييد خارجي. العارف يعرف وحسب. وحده غير المستيقن مما "يعرف" في حاجة إلى الاتكاء على آراء الآخرين لتأييد اعتقاده: يستهويه حفظُ أقوال الآخرين والاستشهادُ بها، بمناسبة ومن غير مناسبة، والاتكاء على مرجعيات فكرية. وهو، فيما يخص تفسير النصوص (من دينية وغيرها)، "عقائدي"، مهما كان منفتح الفكر، لأن آراءه لا تجد لها سندًا في خبرته الذاتية. وكلما أدرك انعدامَ اليقين لديه ازداد حدةً في عَرْضِ آرائه، وعَلَتِ النبرةُ التقريرية في طَرْحِه إياها خشية أن تهتزَّ وجهةُ نظره؛ فنجده يصرُّ ويتشدَّد، متصلِّبًا في رأيه وأحكامه، مُماحِكًا. * المعلِّمون الروحيون الحقيقيون هم أبعد ما يكونون عن العقائدية لأنهم يعرفون الحقيقة – يعرفونها بمعنى أنهم وَعْوا أنها ماهية وجودهم وجوهره. ولذلك لا حاجة لهم إلى فَرْض رأيهم ولا إلى فَرْض أنفسهم على أحد، أو إلى استغلاله، لأن الحقيقة – المحيطة بكلِّ شيء، السرمدية، المتجددة أبدًا في تجلِّياتها – تبرِّر نفسها بنفسها في الوقت المناسب. عندما وَطِئَ حكماءُ الإنسانية الكبار (كالبوذا، مثلاً لا حصرًا) هذه الأرض الدنيا، لم يكونوا في حاجة إلى "مدير علاقات عامة" لتنظيم مؤتمرات صحفية، لكن تعاليمهم كانت تنفذ إلى قلوب الذين يصغون إليهم بملء جوارحهم؛ وهؤلاء، بدورهم، كانوا يحدِّثون الآخرين بها. وهكذا كانت الرسالةُ تنتقل إلى الآخرين والتعاليم تنتشر. وتلكم هي القدرة التي تتصف بها الحقيقة: العدوى المعرفية! * من شأن المعرفة الحقيقية أن يلازمها حسُّ الزهد. ففي الحياة اليومية ثمة العديد من الأشياء التافهة التي نغالي في تقدير أهميتها، فلا نتدبَّرها تدبرًا سليمًا. استجاباتُنا لحوادث الحياة اليومية – وبخاصة لردَّات فعل لآخرين – غالبًا ما تكون ميكانيكية عمياء. غير أنها اختبارات لطباعنا بالغة القيمة والأهمية لنموِّنا الداخلي. فإذا اتفق لأحد أصدقائنا أن يسهو عن ذِكْرِ فَضْلِنا عليه، ماذا يكون موقفُنا منه؟ إذا عَزَمْنا على "ردِّ الصاع صاعين"، فهذا يعني أننا فوَّتنا على أنفسنا عِبْرة الاختبار. إن كلَّ شيء، مهما بدا لنا تافهًا، إما مناسبة لصَقْل حسِّ القيم الصحيحة فينا أو إما سبب لتعاستنا. يمكن لأتفه الأسباب أحيانًا أن يشوِّش علاقة وطيدة وأن يتسبَّب في خلاف قد يدوم سنوات. لكننا، حين نحيا المعرفة، لا تؤثر فينا الأحداثُ الصغيرة تأثيرًا سلبيًّا، لأننا نرى فيها اختباراتٍ نحاول أن نتعاطى معها في فطنة وحصافة. عندما يواجِه الذهنُ اختبارًا كهذا، فيبقى واثقًًا، متوازنًا، متحررًا من ردَّات الفعل، فلنعلم أن معرفتنا "حقيقية"، ولم تذهب سدى. فالمعرفة الحقيقية تجلب، تلقائيًّا وفي صورة طبيعية، سكينةً داخلية عميقة، تتضاءل معها الأحاسيسُ والخواطرُ والنزاعاتُ التي تنتمي إلى الشخصية الضيقة. * الأديان كافة تشدِّد على السلوك السليم لأن النشاطات التي نقوم بها لمصلحة الذات الشخصية الضيقة تُعمينا عن الحقيقة. الزيف، غريزة التملك، الغرور، الطموح، الحسد، وغيرها من التعبيرات الانفعالية الأخرى عن الذات الشخصية الدنيا، تستولي على ساحة الوعي على حساب اكتشاف طبيعتنا الروحية. أما المعرفة الروحية، من ناحية أخرى، فهي تتأسَّس على التضحية بالذات وعلى الإيثار المجاني. * تتصفُ المعرفةُ الروحيةُ بِصِِفَة الاستعصاء على الوصف! بيد أنها تجسِّد السلطة الروحية (وهي غير التسلُّط في الرأي)، لأن من شأنها أن تنتقل إلى الآخرين على مستوى أعمق، غير ملموس. الكلمات التي ينطق بها الحكماءُ ليست أحكامًا مُنزَلة، ولم تُقَلْ أساسًا لكي يُنظَر إليها على هذا الأساس، بل غايتُها وضع المستمع في حالة من الحضور والجاهزية والانتباه الثاقب تمكِّنه من تلقِّي الرسالة من دون كلام. * هكذا تتصف المعرفةُ الروحيةُ بأنها لا تتقاطع مع ما نصطلح على تسميته عادةً بالـ"معرفة". إن غالبيتنا يخطئون عندما يظنون أنهم حازوا على المعرفة، في حين أنهم، في الواقع، مازالوا أسرى الجهل، يتخبطون فيه، عاجزين عن الاستجابة للحياة. إن العجز عن الاستجابة للحياة في هدوء وسكينة، في لطف وَدود، في تواضع وطيبة، يشي بحالة جهل تولِّد، بدورها، الرغبةَ في الأشياء والمناصب والنفوذ وذيوع الصيت والسعي إلى اعتراف الآخرين وأمورًا لا آخِر لها. ولمثل هذا الجهل أخطر العواقب على الإنسان. * الموت نفسه ليس سببًا للألم. فعِلَّة الألم وأصلُه كامنان في عدم استيعاب معنى الحياة والموت. عندئذٍ فإن فقدان شخص، منصب، شرف، شيء "عزيز"، يولِّد خللاً، مقاومةً، سوءَ نية، لأننا لا نفهم غايةَ الوجود وطبيعتَه والقوانين التي تنتظمه. غياب الفهم هذا – وليس الفقد في حدِّ ذاته – هو عِلَّة الألم. * تحرُّرنا من الجهل مرتبط بتعلُّمنا كيف نتحرر من خلال سائر الاختبارات الصغيرة للحياة اليومية. إن اختبارًا صغيرًا يمكن له إما أن ينتهي إلى إخفاق ذريع وإما أن يضيف الكثير إلى فهمنا – وهذا يتوقف على درجة يقظتنا ومسؤوليتنا. فالتملص من المسؤولية عما يجري جَهْل. ويجب أن نكون من الحصافة والحكمة بحيث نقبل الفحص عن أنفسنا بلا هوادة لتشخيص الخلل في مواقفنا من الحياة وفي أفعالنا. *** *** *** |
|
|