|
اللغة والمدينة وُلْت وِتْمَن رفيقي في قراءة هذه الروحانية الإنسانية
لست أدري لماذا كان وُلْت وِتْمَن رفيقي في قراءة مجموعة قيصر عفيف الشعرية اللغة والمدينة*! فلا فكرة اللغة توحي أوراق العشب، ولا فكرة المدينة تستوطنها أو تشكل امتدادًا لها. ولئن كان المناخ في اللغة والمدينة عاصفًا بالوجودية الفلسفية المتغلغلة في شرايين المدينة وأزقَّتها، فالإطار العلائي transcendental يغلِّف أوراق العشب بغلاف شفاف من الروحانية الإنسانية التي تفترش الطبيعة مسرحًا رحبًا لها. فلماذا كان وِتْمَن شريكي في قراءة اللغة والمدينة ورفيقي في تتبُّع متعرجات هذه المجموعة الشعرية؟
مع انشغالي بمثل هذه التساؤلات تذكرتُ سطرًا شعريًّا لوِتْمَن مفاده: "إن العشب شكل هيروغليفي للطبيعة." هو إذن مجموعة حروف هيروغليفية تتشكل منها المفردات وتتكون عبرها لغة مميزة هي لغة الطبيعة. ولئن كانت للطبيعة لغتها فللأرض لغتها؛ وكذلك للأوطان، وللمدائن. واللغة في هذا المعنى تعني السياق المنطقي. فاللغة مبنية على تركيب منطقي معيَّن؛ والمدينة، بدورها، مبنية على هندسة منطقية محددة؛ والمنطق هنا تواصُل عقلاني متجانس، سواء في التعبير اللغوي أو في التعبير المديني: كلاهما يستعين بالآخر وسيلة معرفية لكشف الذات وسبر أغوارها والغوص في خصائصها وتجاربها ومزاياها. في هذا السياق يعتبر برترند رَسِّل أن الفلاسفة "يستنتجون خواص العالم من خواص اللغة"، ويُدرِج بين هؤلاء سپينوزا وهيغل وبرادلي. فكأني بقيصر عفيف يستنتج خواص المدينة من خواص لغته الشعرية الخاصة، فيُسقِط عليها من ذاته بقدر ما تُسقِط على شعره الموجوع ومفرداته المتأوِّهة من ذاتها المتراكمة. في مثل هذه المقاربة يتَّحد روحُ العالم بروح اللغة كما تتَّحد أشكالُ المدينة بأشكال اللغة. ولكلٍّ منهما تراكيبُه وقواعدُه، لكلٍّ منهما منطقُه وأحاسيسُه ورؤاه. ويبقى على الشاعر أن يكتشف "خواص" المدينة أو الأرض أو العالم من خلال ما تتميز به لغتُه الشعرية من "خواص"، أو من لغة خاصة في قلب اللغة. ترانا هنا أمام لغة المدينة، أم مدينة اللغة، أم المدينة اللغوية؟! أيًّا كان الجواب، فالعلاقة تستحيل عضوية بين الطرفين؛ إذ تتداخل اللغةُ مع عروق المدينة وشوارعها وأزقَّتها وجاداتها كما تتداخل المدينةُ مع تراكيب اللغة ومصطلحاتها ومفرداتها وقواعدها وصورها. يستعير كلٌّ منهما من أدوات الآخر لإثراء التعبير، وبالتالي، لإثراء المعرفة، ولإغناء الصورة الشعرية سبيلاً أصيلاً إلى إثراء المدينة ذاتها، ولو وسط الركام. الموضوع هنا لا ينفصل عن لغة الموضوع لأن اللغة غير مستعارة، بل تكتنز باستعارات مولَّدة وصور مستحدَثة لا تحيد بمادتها فحسب، بل تجتاز مادتها أو تجتاحها بسيل من الرؤى الشعرية الخلاَّقة. لغة الشاعر تكشف الزيف المتوغل في شرايين الأرض ونبض المدينة؛ تكشفه بوجع المكلومين، محاولةً أن تردَّ المفردات إلى مضامينها والتراكيب إلى دلالاتها الحقيقية: حذارِ/ ليس الركوع علامة التقوى/ ولا السكر علامة البلوى!/ أن تغنِّي الألم شيء/ وشيء آخر أن تكتوي بناره [...]. وقد يكون سبب هذا الزيف في أن ما تطلبه من سعادة لن تجده عند أسفل الجبل/ ولا في أعاليه/ لا على الشاطئ الشمالي/ ولا في أرض الجنوب/ الكنز الذي تطلبه هنا/ تحت طيات المعطف –/ أتجرؤ أن تراه؟ ويتعالى صوت الشاعر كالصراخ، يصقله الألم وتُدميه الجروح، فيتساءل: أأنا الشاهد الوحيد على هذه المدينة الكثيرة التعب/ على اللغة يملؤها الحزن والكذب/ مَن غيري يستوعب هذا الرعب؟ فاجعة السير عكس الزمن تسيطر على المناخ الشعري في اللغة والمدينة، بحيث تتشابك اللغة المأسوية مع مأساة المدينة. وقمة الفاجعة أن المدينة لا تعي حقيقة مأساتها. من هنا غضب الشاعر، بل وجعه الذي يبحث له عن لغة تستوعبه وتنتقل به إلى الآخرين. ويختصر الشاعر فاجعة المدينة وأهلها بفكرة اعتياد الانكسار، اعتياد المأساة، واعتياد البشاعة في الأرض اليباب، بحيث لا نعود نرى وجه الضلال، ولا نعود نرى وجه الخطيئة. عندئذٍ تنقلب الأدوار، وتتداخل معالم الصحيح في معالم الخطأ. فكيف الخلاص؟ كل هذه المرايا مكسورة/ لكننا نرى وجوهنا فيها/ كل هذه الأماكن مهجورة/ لكننا نسكنها وتسكننا/ كل هذه الأحلام حجارة/ لكننا نبني بها قصورًا. ويجد الشاعر أنه أمام فجوات هندسية وبشرية في قلب المدينة، تقابلها فجوات أو هفوات – كي لا نقول شروخ – في قلب اللغة التي لا تعي دائمًا عجزَها عن التعبير المأسوي، فتلجأ إلى ضروب من الإطناب والمبالغة الموهومين والخاويين. إلى المناخ الفلسفي الغالب على قصائد المجموعة نزعةٌ نقدية شعرية ترمي إلى مواءمة الموقف الفكري الفلسفي مع الحسِّ النقدي الشعري. فإذا كانت حداثة اللغة مواكِبة لحداثة المدينة فإن إبداعية القصيدة متلازمة مع إبداعية المدينة. فيحذِّر الشاعر من أنْ تأتيك القصيدة أسيرة/ لا تستند إلى اللغة/ ولا تتوكأ على التقليد/ ولا تخضع لتانغو الغابات. ولو تساءل القارئ لماذا؟ لماذا تؤسَر القصيدة؟ لماذا تنفصل عن اللغة؟ يأتيك الجواب قاطعًا: لأنها حين تأتي/ متأخرة متآكلة تأتي/ تطلع من غياب القلم والورق. غير أن معاناة الشاعر الفيلسوف (أو الفيلسوف الشاعر) تقوده إلى موقف حاسم حيال فلسفة لغة المدينة، ليقرر أنْ "ثمة ارتباك شديد في ممالك الكلام". في كلام آخر، ثمة ضياع كبير في مملكة الأدب لأن أدبنا يفتقر إلى المحتوى الفلسفي، وثمة شحٌّ كثير في مملكة الفلسفة لأن فلسفتنا تفتقر إلى ذاتها والى ثرائها الأدبي. وتشتد قسوة الصورة السوداوية، كأن انهيار المدينة من انهيار لغتها، أو أن انهيار اللغة من انهيار مدينتها. وأمام هذا المشهد الحزين يبدو كل المارة غرباء / .../ البيوت خرساء/ الهواء أسود/ الأشرعة مثقوبة/ ... وأنت في غياب المعنى/ لا أمن ولا مأوى. وقمة المأساة في عقمٍ ضَرَبَنا وأسقط عنَّا قدرة الإنتاج: كلنا في عباءة المأساة/ تتكئ على غضب لا يورق،/ على حرف أخرس،/ وعلى جناح كَسَرَه الخوف. على الرغم من هذه المأساة التي تنخر عظام مدينتنا والتي تشق صخور أرضنا، يعود الفيلسوف ليستيقظ في الشاعر، كما يعود الشاعر ليستيقظ في الفيلسوف، ليهمس صاحب اللغة والمدينة بشيء من الثقة بالنفس كما بالآتي من الأيام، فيقول: اللغة مدينة أسكنها/ والمدينة لغة أكتبها/ أنتهك حرماتِها وحدودها،/ أضيع في حاناتها وحوانيتها/ .../ فما عدت أعرف أين تبدأ المدينة/ ولا أين تنتهي اللغة. صحيح أن الشاعر لا يعود يعرف حدودًا بين المدينة واللغة، أو لا يعود يميِّز بين قصيدة تبحث عن معالم المدينة وأخرى تؤسِّس لِلُغة شعرية مستوحاة من وجوه المدينة، لكنه يعرف أن يولِّد لغةً من قلب المدينة أو يولِّد مدينةً من قلب اللغة. وفي الحالين، يبقى السر، فيجعل المدينة رحم اللغة، تمامًا كما في جعل اللغة رحم المدينة. كلاهما يولِّد الآخر: إذ يستحيل أن تأتي بلغة الحداثة، مثلاً، وسط مدينة تقليدية، أو أن تأتي بمدينة سوريالية وسط لغة واقعية، أو أن تبتدع لغة وجودية وسط ركام شخصاني أو براغماتي. تلك هي إشكالية اللغة والمدينة، كما كتب فلسفتَها شعرًا قيصر عفيف بقصيدة ظاهرُها شعري وباطنُها فلسفي. *** *** *** عن النهار، الأربعاء 1 كانون الأول 2004 * صدرت في منشورات "دار نلسن"، 2004. |
|
|