|
عيون المعرفة الثلاث وخطأً وصوابًا
منذ القديم والإنسان يحاول إيجاد نظرة كلِّية شاملة يفسِّر بواسطتها أو يجمع ظواهر الطبيعة المختلفة التي تبدو للوهلة الأولى متناقضة، كالمادة والروح، العقل والحدس، العلم والدين، الحياة والموت، إلخ. وقد ظهرت مدارس عديدة اعتقدت أنها اهتدت إلى هذه الرؤية أو إلى الطريق المؤدي إليها. وأشهر مدرستين – على تنوع مِلَلِهما وتعدُّدها – هما المدرسة المادية والمدرسة المثالية. تقول الأولى، في صورة مبسطة، بأن العالم يتألف من جواهر مادية (أية كانت)، وأن ظواهره كلَّها – حتى الحدس والعاطفة منها – تُفسَّر على أنها تنظيم معيَّن لهذه الجواهر. أما المدرسة المثالية فهي ترى أن العقل (أو الروح) سابق للمادة (على الأقل في شكلها المعروف)، وأن عالمنا في النهاية أشبه بـ"سراب" أو بانغلاق للروح. ومنذ بداية السبعينات، شهد العالم بروز تيار فكري قديم، ازداد مع الأيام أثرُه الاجتماعي؛ وهو تيار يعمل على مقارنة آخر معطيات العلم الحديث – وخاصة الفيزياء – مع بعض النظريات الصوفية، وخاصة تلك التي جاء بها الشرق الأقصى، ومن ثم على إيجاد رؤية كلِّية لعالمنا. يطرح كلُّ نموذج "موحد" و"نهائي" أسئلة لا حصر لها، لا يمكن التحدث عنها في هذه الأسطر القليلة. وقد تصدى لهذه الأسئلة كلٌّ من كِنْ وِلْبِر وهنري آتْلان. ووِلْبِر هو أحد ألمع المنظِّرين لعلم النفس العِبْرشخصي Transpersonal Psychology؛ وهو يمارس إحدى طرق التأمل البوذية. أما آتْلان فهو بيولوجي، اشتهر بفضل أبحاثه عن التنظيم البيولوجي، ظهور النظام من الشواش chaos، الذكاء الاصطناعي، نظرية المعلومات، إلخ. وهو يهودي ممارس.
سألخص، في تبسيط شديد، آراء هذين المؤلِّفين. يقول آتلان في كتابه خطأً وصوابًا*، الذي يحتوي على 90 صفحة من الهوامش (!)، أنه يوجد فينا نشاطان: العقلي (المنطقي) والأسطوري (الحدسي). ويصف آتْلان وينتقد، في عمق وبراعة، المحاولات الرامية إلى توحيد هذين النشاطين، أو إلى ردِّ أحدهما إلى الآخر. ويشرح الطريقة العلمية، مبينًا ضرورة النهج الاختزالي réductionnisme الذي يحاول تحليل الأشياء إلى عناصرها المركِّبة وتفسير خواصها بواسطة هذه العناصر. ويبين آتْلان أنه إنْ كان لا مناص من استخدام هذا المنهج فهو خاطئ على مستوى فهم معنى الأشياء.
ويلتفت آتْلان إلى التيار الآنف الذكر (وهو السبب في كتابة هذين الكتابين)، ويدرس مقولاته الرئيسية المستمَدة من الفيزياء خاصة. ويفنِّد آتْلان، مثلاً، فكرة أن تابع الموجة fonction d’onde هو أيضًا تابع لـ"حالاتنا النفسية"، وينفي كذلك فكرة وجود حقيقة نهائية، كما يدَّعي المؤمنون بالحقل الفيزيائي الموحَّد. ويبقى السؤال: كيف يمكن لهذين النشاطين أن يتحاورا فينا؟ فغالبًا ما تأتي اكتشافات العقل عن حدس سابق أو عن معتقد يدفع إليها. أما النشاط الروحي فله عقلانيته الخاصة، كما يتجلَّى ذلك في الكتب الدينية في سائر أنحاء العالم. يعتقد آتْلان، أولاً، أنه يجب تحديد قواعد كلِّ منهج (العلوم الصحيحة، علم النفس، علم الاجتماع، الفن، الدين، إلخ)، وتجنُّب الخلط بين المعطيات الخاصة بمنهج ما مع المعطيات الخاصة بمنهج آخر. وتبقى العلاقة أشبه بلعبة، حيث، كما لدى الطفل، تعتمد على حالة انفصال–اجتماع. لئن كنت أتفق مع آتْلان في العديد من تفسيراته، لا أعتقد بوجود قواعد وحدود جذرية بين المناهج. فغالبًا ما يستعير علمٌ من آخر فكرةً ما ليعمل بها بحسب حاجته. أما فكرة "اللعبة" فإني أراها غير كافية، لأنها تقود في النهاية إلى وضع فصامي يُبقي الإنسان محلاًّ لتناقضاته الثنائية. وهذا ينقلني إلى كتاب وِلْبِر عيون المعرفة الثلاث** الذي يقدِّم، من زاويته، الانتقادات نفسها التي قام بها آتْلان.
إلا أن وِلْبِر يضيف أنه إنْ شئنا عن حق إيجاد نموذج واحد فتلزم عناصرُ بعينها، يقدِّم وصفًا دقيقًا لها. يقول وِلْبِر بأن الإنسان يمتلك ثلاث أعيُن، هي: 1. عين الجسم، التي ندرك بواسطتها عالم الفضاء، الزمن، والأشياء الخارجية؛ 2. عين العقل، التي نكتسب بواسطتها معارف فلسفية، منطقية، وأخرى عن العقل ذاته؛ و 3. عين التأمل، التي نرتقي بواسطتها إلى معرفة حقائق عليا. ويضيف وِلْبِر أن كلَّ معرفة صالحة تتألف من ثلاثة مركبات أساسية: 1. مركبة وسائلية أو أمرية: وهي مجموعة من التعليمات لها الشكل التالي: "إذا أردت معرفة هذا قُمْ بذلك"؛ 2. مركبة فهمية أو تنويرية: وهي رؤية مُنوِّرة بواسطة عين المعرفة الخاصة التي تستدعيها المركبة السابقة؛ وهي تقود إلى إمكانية 3. مركبة جماعية: وهي مشاركة حقيقية في هذه الرؤية المُنوِّرة مع بقية الأشخاص الذين يستخدمون العين ذاتها؛ إنها المركبة التي تجيز التحقق من رؤيتها والقبول (أو عدم القبول) بها. يفهم القارئ مما سبق أن هناك، إذن، – وباختصار – ثلاث مركبات للمعرفة، يحتاج كلٌّ منها إلى أداة (عين) خاصة من مستواها. ويكمن الخطأ، عند محاولة صياغة نموذج واحد يشمل الوجود كلَّه، في إهمالٍ للمعرفة التي تأتي بها إحدى الأعين أو أكثر (التقليص). ويشرح وِلْبِر، في وضوح رائع، سيرورة الأنا المرافقة لكلِّ عين، ويبيِّن كيف أن عين العقل تحوي عين الجسم، وكيف أن عين التأمل تحوي سابقتيها. يبقى لديَّ تساؤل هو التالي: لقد فهمت أن أصفى حالات الصوفية (العين 3) لا تظهر عن ممارسة إرادية لمنهج ما. فما مدى انطباق نموذج المعرفة هذا عليها؟ يبقى أخيرًا أن هذين الكتابين جوهريان لكلِّ مَن تهمُّه هذه المواضيع، وخاصة علاقة العلم بالدين أو الفلسفة في صورة عامة. *** *** *** |
|
|