في الحبِّ والحبِّ العذريِّ

تحرير العواطف والجسد من النظرة التقليدية

 

تهامة الجندي

 

ضمن إطار سلسلة "مختارات" الشهرية التي تصدر بالتعاون ما بين وزارة الثقافة السورية ودار البعث وتُعنى بإعادة نشر الإبداعات الفكرية والأدبية التي تركت أثرًا مهمًّا في الساحة الثقافية السورية – ضمن هذه السلسلة تمَّتْ إعادةُ إصدار كتاب في الحب والحب العذري* للمفكر د. صادق جلال العظم، بعد أن كانت الطبعة الأولى منه قد صدرت في العام 1968، وأثارت ضجةً بمقاربتها الجريئة والعلمانية لموضوعات تُعتبَر، حتى يومنا هذا، في عداد التابوهات الاجتماعية.

د. صادق جلال العظم

تبدأ فصول الكتاب بمقدمة لمحمد كامل الخطيب، تلقي الضوء على إسهام العظم في مجال الفلسفة؛ تليها أربعة فصول تبدأ بالتمهيد، وتنتقل إلى "مفارقة الحب"، ثم "في الحبِّ العذري"، وتنتهي بـ"خواطر أخيرة".

الحب والشهوة

في التمهيد يتناول د. العظم الجوانب الأساسية التي تعبِّر عنها ظاهرةُ الحب – موضوع الكتاب – حيث يرى أن الحب ظاهرة مركَّبة ومعقَّدة ومتشعِّبة المناحي والظِّلال، لا يمكن ضبطُها في تعريف شامل. فهي تشير إلى أطياف من المشاعر والأحاسيس والانفعالات المتقاربة والمتشابهة، المترابطة ترابطًا عضويًّا في النفس البشرية، يدخل في عدادها الشَّهوة والميل والنزوع إلى امتلاك المحبوب بصورة من الصور والاتحاد به بغية إشباع هذا النَّهم وتحقيق الشعور بالرضا والاكتفاء، بحيث يرتبط الحب ارتباطًا مباشرًا وأساسيًّا وعضويًّا بالشَّهوة الجنسية وبسعيه لإرضائها.

لكنْ على خلاف الرغبة الجنسية المحض التي تعتبر جميع الموضوعات الجنسية سواءً بسواء، مادامت تزيل توترَها وتخفف من حدَّة هياجها، فإن الحبَّ يميِّز وينتقي ويفرِّق؛ وهو يزدهر بعد عبور مرحلة الانجذاب الجنسي وتخطِّيها إلى ما هو أهم وأرفع وأعقد. كذلك يرى العظم أن الحبَّ انفعال تلقائي وعفوي بالنسبة إلى مصدره وبواعثه، يجيش في قلب الإنسان دون تكلف أو جهد خاص. وهو ليس مجرَّد انفعال سلبي، بل يتصف بطابع حركي، يميل بالعاشق نحو الفعل المستمرِّ والنشاط الدائم والسعي للاتجاه نحو المحبوب. كما أنه انفعال لا يخضع لاعتبارات التذكير والتأنيث.

وهو أيضًا يشير إلى أن الحبَّ الذي ترك أثرًا مهمًّا في تاريخ الإنسان وأدبه وفكره يتميَّز بكونه حبًّا شقيًّا وتعيسًا بائسًا. ويُغني العظم ما ذكره بالعديد من الشواهد الأدبية والتاريخية، منها مثلاً ما كَتَبَه المسرحي اليوناني القديم سوفوكليس عن حقيقة الحب:

الحب ليس وحده الحب،/ ولكن اسمه يخفي في ثناياه أسماء أخرى متعددة./ إنه الموت والقوة التي لا تزول ولا تحول،/ إنه الشهوة المحض، الجنون العاصف والنواح...

مفارقة الحب

في هذا الفصل يوضح المفكر أن الحبَّ عاطفة تقوم أساسًا على التناقض والمفارقة. فعاطفة الحبِّ، كغيرها من المشاعر والانفعالات الإنسانية، تتصف ببُعدين رئيسيين: الامتداد في الزمن، أي دوام الحالة العاطفية، والاشتداد، أي مدى عنف الحالة العاطفية وحدَّتها في لحظة ما من الزمن. والمفارقة تأتي من أنه كلما امتدَّ الحب خفَّتْ حدَّتُه باتجاه يقترب باستمرار من درجة الصفر كحدٍّ أدنى. وإذا كانت نزعة الامتداد تتجسَّد في الزواج، فإن نزعة الاشتداد تتجسَّد في "المغامرة العاطفية". وهنا تعمل شريعة الامتداد، متضافرةً مع الأخلاق السائدة والقيم الدينية الشائعة والمؤسَّسات الاجتماعية، على كبت نزعة الاشتداد.

وفي هذا السياق، يعتبر الباحث أن "الشخصية الدنجوانية" هي المثال الأسطع على نزعة الاشتداد: فحياتها ليست إلا محاولة مستمرة للبقاء بالحبِّ في مستوى العشق العنيف والانفعال الحاد؛ فهي شخصية تتصف بالتقلُّب السريع والاستجابة المباشرة للمثيرات العاطفية والغرامية، في حين تعارِض شريعةَ الامتداد بجميع قيمها ومعاييرها، وخصوصًا الزواج والعلاقات العاطفية المستقرة، لا فرق في ذلك بين الرجال والنساء. وهنا يميِّز العظم بين هذه الشخصية الدنجوانية وشخصية مَن تتيح له ظروفُه الخاصة الاستمتاعَ بالحبِّ، فيعتبر أن الخليفة المتوكل الذي وطئ أربعة آلاف جارية، على سبيل المثال، ليس دنجوانًا، بل رجل فاجر، لأن ثمرة الدنجوان لا تأتيه طائعةً خاضعة، لا حول لها ولا قوة أمام سلطانه وجبروته، بل تأتي بملء إرادتها ورغبتها نتيجة ظَفَر جهوده ومساعيه ومخططاته.

سادومازوخية الحبِّ العذريِّ

الفصل الثالث من الكتاب مخصَّص لدراسة ظاهرة الحبِّ العذري انطلاقًا من المقدِّمات السابقة، واستنادًا إلى سيرة جميل وبثينة الشهيرة، التي يعتبرها المؤلِّف قصة نموذجية لدراسة هذا النمط الغريب من الحبِّ، حيث يوضِّح أن جميلاً لم يكتم حبَّه لبثينة، على الرغم من إدراكه أن العادات والأعراف القبلية كانت ستحرِّم عليه الزواج منها "لو رأيتها مدى الدَّهر"! وبثينة تزوجت من رجل دميم أعور، لم تعشْ معه طوال حياتها، ولم تقطع علاقتها بجميل. وهذه العلاقة ظلت في إطار اللقاءات السرِّية والتناجي، ولم تبلغ أبدًا حدود الجسد.

وعليه، يستنتج العظم أن العشق العذري محاولةٌ لمواجهة مفارقة الحبِّ الكبرى، والتغلب عليها باختيار نزعة اشتداد الحبِّ عن طريق رفض العلاقات العاطفية الدائمة المستقرة بين العاشقين؛ وبالتالي، فهو تعبير عن حالة مَرَضية متغلغلة في نفس العاشق، تتبيَّن في ولعه بسقمه وهزاله وحرمانه، وتلذذه بألمه وشقائه وتعاسته، واستمتاعه بحرقة الشَّوق الذي لا أمل في إشباعه. فهو حبٌّ لا يخلو من خصائص سادومازوخية، من حيث إنه ميلٌ واضح إلى تعذيب النفس والغير (أي الحبيب) دونما سبب واضح. وهو، خلافًا للآراء الشائعة، حبٌّ شهواني في أصله ونرجسيٌّ في موضوعه ومنحاه، لأن اهتمام العاشق وهيامه ينصبَّان على ذاته ومشاعره وأحاسيسه وخياله، لا على شخص الحبيب.

وبهذا فالحبُّ العذري لا يرتفع إلى مملكة الروح، لأن السبيل إليها يمر بمملكة المادة والجسد؛ والعاشق العذري يؤجِّل، بنفسيَّته المريضة، المرورَ بمملكة المادة إلى ما لانهاية. وحكايات الحبِّ العذري تمجِّد الحبَّ خارج نطاق الرابطة الزوجية، ولا تؤاخذ العاشقين على حبِّهما الزاني، وتستهزئ بالزوج وترسمه على صورة لا تحبه؛ كما أنها تروي لنا أخبار أفعال وأعمال تخالف جميع الأعراف والتقاليد السائدة، وتمزِّق القيم الأخلاقية المعمول بها، وتُناقِض المؤسَّسات الاجتماعية المستقرة.

ولكنْ يستدرك العظم في نهاية مقاله، فيؤكد أن اعتبار الحبِّ العذري ظاهرة مَرَضية في أساسها لا يعني الحطَّ من شأنه التاريخي، ولا الإنزال من أهمية العشَّاق العذريين الكبار أو الأدب الذي أنتج من حولهم.

خواطر أخيرة

في خواطره الأخيرة يقر العظم بأن إيجاد حلٍّ نهائي لمفارقة الحبِّ أمرٌ مستحيل. لكن الاتجاهات العصرية، التي تتصف بالعلمانية وبالنظرة الموضوعية إلى الكون والإنسان والحياة، تسعى إلى التخفيف من وطأتها بتحرير عواطف الفرد من القيود المفروضة ومن الآراء الدينية والأخلاقية والاجتماعية المسبَّقة التي ورثناها. فهي تسعى إلى تحقيق ثلاث غايات:

-       أولاها: خلق أوضاع اقتصادية واجتماعية جديدة تؤدي إلى تحرير العواطف والانفعالات؛

-       وثانيتها: تحرير الجسد من النظرة التقليدية التي كانت تربطه بالخطيئة والتهلكة وبالشهوة الحيوانية؛

-       وثالثتها: تحرير الرابطة الزوجية من قيودها التقليدية وارتباطاتها الاقتصادية والاجتماعية والعشائرية، والاتجاه بها من مؤسَّسة خاضعة، في تفصيلاتها كلِّها، للعرف الاجتماعي وشريعة الامتداد إلى علاقة لا تقوم إلا على أساس الاختيار الحرِّ والمتكافئ بين الطرفين المعنيين – علاقة تستمر بدوام الحبِّ وتنفك بزواله.

فالاتجاهات العصرية قد استغنت عن الأسرة كوحدة إنتاجية، وأصبح المجتمع، بمؤسَّساته وأجهزته، يحمل جميع الأعباء التي كانت تحملها الأُسَر سابقًا، من تأمين العلم والدواء والعناية الصحية وحماية الضعيف والمسنِّ والعاطل واليتيم.

لقد عرفتْ المكتبة العربية كثيرًا من الأدبيات التي تناولت ظاهرة الحبِّ وسِيَر العشَّاق في تاريخنا القديم والحديث؛ لكن كتاب د. صادق جلال العظم كانت له الريادة في مناقشة تعبيرات هذه الظاهرة المختلفة من وجهة نظر علمية صرف، تتماشى مع روح العصر وتوجُّهاته، فكان أول من تجرَّأ وربط الحبَّ بفاعلية الجسد، وأكد أن تَلازُم هذين الجانبين دليلٌ على الصحة النفسية، لم يفرِّق في ذلك بين رجل وامرأة، بل رَسَمَ تصورًا متكاملاً لعلاقة إنسانية تقوم بينهما دون قَسْر أو قَهْر أو أية اعتبارات أخرى غير دوام الحب.

*** *** ***

عن الكفاح العربي، 19/1/2004


 

horizontal rule

* صادق جلال العظم، في الحبِّ والحبِّ العذريِّ، وزارة الثقافة ودار البعث، "سلسلة مختارات"، دمشق، 2004؛ 155 صفحة قطع صغير.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود