مدينة الله

حبَّان بنيا مدينتين: أولى تُفاخِر بذاتها وثانية بالخالق

 

هنري فريد صعب

 

عوَّدتْنا "دار المشرق" على تقديم الغذاء الفكري والروحي في ما تُصدِره من كتب جادة ومهمَّة. وها هي ذي تقدِّم إلينا مدينة الله*، العمل الرئيسي للاَّهوتي، والفيلسوف المسيحي، وأحد كبار آباء الكنيسة، والمُدافع الأول عن الكنيسة، القديس أوغسطينوس الذي طوَّر المفهوم المسيحي لتاريخ العالم الذي كان يفهمه فهمًا قَدَريًّا، باعتباره مقدَّرًا تقديرًا مسبَّقًا من الله. شاء أسقف هيپون في "مدينته" الإلهيَّة أن يؤسِّس قاعدةً مطلقة للكنيسة، في مقابل "مدينة الأرض" (أي الدولة الدنيوية) "الخاطئة". وهذه العقيدة قامت بدور مهمٍّ في كفاح البابوية ضد المُلاَّك الإقطاعيين.

قام بنقل هذا الأثر الخالد عن الفرنسية الخورأسقف يوحنا الحلو، الذي يواصل منذ سنين نقل بعض المؤلَّفات الأساسية للقديس أوغسطينوس إلى العربية، مثل الاعترافات (1962)، خواطر فيلسوف في الحياة الروحية (1971)، وشرح رسالة القديس يوحنا الأولى (1992). وأمنيتي أن يُعطى الخورأسقف الحلو وأمثالُه من الإكليروس، المميَّزون بعلمهم وكفاءاتهم، القدرة على إتحافنا بمثل هذه الأعمال التي تثري مكتبتنا العربية. وأمنيتي أيضًا أن يتمَّ النقل عن اللغة الأصل، وليس عن الترجمات. فالنقل عن الترجمات، ولاسيَّما في النصوص الفكرية، تواجهُه منزلقات؛ إذ ما أدرى الناقل بأنَّ مَن ينقل عنه أمين في ترجمته؟ – إلاَّ إذا لجأ الناقلُ إلى مراجعة النصِّ المترجم بالاستناد إلى الأصل من طريق طرف آخر ملمٍّ بهذا الأصل.

بدأ هذا الأثر الخالد نشرة جدليَّة، ثمَّ أصبح، بعد توسيعه وتعميقه، تقصيًّا عن "السرِّ الأكبر" وواحدًا من السبُل التي يلجأ إليها العقل البشري لفهمه. والجدلية التي انطلقت منها بذرةُ مدينة الله كانت نتيجة لاستيلاء القوط الغربيين على روما ونهبها سنة 410.

وقد صرَّح قسطنطين الكبير يومذاك بأنَّ انتصاراته العسكرية كانت مكافأة له من إله المسيحيين على اعتناقه المسيحية، فيما كان أتباعُ الديانات غير المسيحية يردُّون على ذلك بأن سقوط روما هو عقوبة أنزلتْها الآلهة غير المسيحية بها بسبب الكفِّ عن التعبُّد لها في 391-392. وعليه، نَذَرَ أوغسطينوس نفسه لردِّ هذه الدعوى، واضطر إلى محاولة الكشف عن العلاقة بين حياة الإنسان المادية ومشاركته الموازية زمنيًّا في ملكوت السماوات.

يتألف كتاب مدينة الله من اثنين وعشرين بابًا؛ وقد شرع أوغسطينوس في كتابته سنة 412 وأنهاه سنة 427. في الأبواب الأولى، يحاول أن يبرهن على أن ما أصاب روما من نَهْبٍ وتعذيب وأسْرٍ ليس غريبًا عن التاريخ البشري كلِّه. فإن روما ابتُليتْ بما ابتُليتْ به سائرُ الشعوب على مدى قرون من جراء سطوتها وغطرستها. لذا، فإن العناية الإلهية لا يمكن اعتبارها مسؤولة، لأن مصير الإنسان – يوضح أوغسطينوس – ليس مقررًا على هذه الأرض، ولا في نطاق حياته الجسدية. مثل هذه المصائب لا تصيب جوهر حياته، ويجب ألاَّ تقوده إلى اليأس: "فالحياة الزمنية دار ابتداء تُعِدُّ للأبدية، والمصائب ليست للمسيحي غير امتحان وتأديب." (1/ 29) إنها، في الواقع، أداة لتربية إلهية؛ ففي نظر أوغسطينوس أن كلَّ ألم، جماعي أو فردي، يجب أن يُنظَر إليه، أولاً، كعقاب صريح على أخطاء جسيمة. إن الألم الذي ينجم عن الحدث يجب أن يكون لكلِّ فرد مناسبة للتوبة وللتقشف. وهذا لا يمكن أن يقود المسيحي إلا إلى محاسبة صادقة للذات. فكلما كانت الأزمة جسيمة، على الإنسان أن يختار الوجهة المعطاة لوجوده: هل سيكون مواطنًا عاديًّا في مدينة أرضية، يتلمَّس طريقه في منعطفاتها التاريخية، أم، في الوقت عينه، – لأن الموضوع ليس التنكُّر لمهنته كإنسان – سيكون أمينًا لمدينة الله؟

ذلك هو المحور الجوهري للفكر الأوغسطيني: هذا التضاد الأساسي بين الإيمان المسيحي الذي يتوق إلى السعادة في الجنَّة السماوية، والمثال القديم للمدينة القديمة، المكان الوحيد للحضارة والسعادة. إن علَّة الوجود، في نظر المسيحي، لا يمكن أن تكون فقط في تفتُّح القيم الإنسانية، خدمةً لغاية سياسية، مهما سَمَتْ هذه الغاية. فالخير العام لا يبرِّر مثل هذا التميُّز حصرًا، لأن الخير والشرَّ هما، على نحو مبهم، متمازجان في العالم، كما في حياة كلِّ فرد. والوجود الإنساني يتمثَّل، حقيقةً، في خلفية تعلو على كلِّ تاريخ بشري بحت، وحين لا أهمية إلا لغايات فوق الطبيعة. فالإنسان جاء من الله، وبنعمته سوف يعود إليه. التاريخ كلُّه يندرج بين هذين القطبين، وكل شيء يجب أن يوصل إلى هذا الهدف الوحيد.

إنما يجب ألا نستنتج من ذلك سريعًا أن الإنسان لا عمل له في هذا العالم. على العكس، يؤكد القديس أوغسطينوس، في شيء من الشجاعة، أنْ لا رابط أساسيًّا بين الكنيسة المسيحية و"الإمبراطورية"، ولا ينكر، تبعًا لذلك، اهتمامه الواعي، وأحيانًا المنفعل، بمثال المدينة القديمة. فهو وارثٌ بامتياز للثقافة الرومانية، ولا يغفل ما لها من حضارة سيطرت على حوض البحر المتوسط؛ لكنه يسعى إلى إظهار أن الرومان، في جريهم وراء المطامع الأرضية، لم يحظوا بغير "الخيرات العابرة": السيطرة على العالم، لزمن معيَّن. ما فعلوه من أمر عظيم إنما كان بدافع من الوطنية. بيد أنهم أسلموا أنفسهم إلى شهوة التسلط التي كانت، من بين شهوات الجنس البشري كلِّها، الأكثر إسكارًا للنفس الرومانية (1/ 30):

هؤلاء الناس، مواطنو المدينة الأرضية، وقد حصروا اهتمامهم في واجب تأمين الخلاص لوطنهم ولملكه، لا في السماء بل على الأرض، لا في الأبدية بل في هذه الحياة، في سلالات متدافعة، تموت اليوم أو غدًا، لا فرق – ماذا أحبوا؟ أحبوا المجد الذي يَعِدُهم بحياة جديدة في مدائح المعجبين بهم. (1/ 14)

وهكذا، على عادته، في تحليل دقيق، يُظهِر فيلسوفُنا أن المأساة الداخلية للمدينة الوثنية هي القهر والإكراه، تحت طائلة تدمير نفسها، بحثًا عن العدالة والنظام والسلام من طريق قواها وحدها، في حين أن ذلك لا يمكن الحصول عليه إلا من الله. المدينة الوثنية، إذن، تأخذ على عاتقها القيام بأمور هي من خصوصيات الله. وعلى ذلك، اعتبرت الدولة الرومانية أن قانونها وسلامَها من المسلَّمات التي يمكن لها أن تتخطَّى تاريخ البشرية كلَّه. هذه المكابرة كانت سببًا لهلاكها: فبادعائها القيام بتنظيم كلِّ شيء، والسيطرة التامة، استبعدت الله. وفي الباب الرابع عشر، المقطع الثامن والعشرين، نجد الصيغة–المفتاح لهذه اللاهوتية التاريخية تحت عنوان "صفات المدينتين":

حبَّان بنيا مدينتين: حب الذات حتى احتقار الله بنى المدينة الأرضية، وحبُّ الله حتى احتقار الذات بنى مدينة الله. إحداهما تُفاخِر بذاتها، والثانية بالله تُفاخِر. إحداهما تستجدي المجد من الناس، والأخرى تضع أعزَّ ما تفاخر به في الله، الشاهد على ضميرها. حبٌّ في كبرياء، مجدُه يسير مرفوع الرأس، وحبٌّ يقول لإلهه: "مجدي أنت ورافع رأسي." [مزمور 3/ 4] مدينة تقع أسيرة التسلُّط من خلال رؤسائها وانتصاراتها على سائر الأمم، ومدينة تقدِّم لنا مواطنيها موحَّدين بالمحبة، يتبادلون الخدمات، حكامًا مُجَلِّين ومحكومين مطيعين. إحداهما تعتزُّ بمقدراتها وقدرة رؤسائها، والأخرى تقول لله: "أحبك يا ربُّ، قوتي الوحيدة." [مزمور 17/ 2]

وبعد، فلا أظن أن في المستطاع، ضمن حدود هذه السطور، أن أوفي هذا الأثَر حقَّه من العرض والتحليل؛ لكنه مجرَّد احتفاء متواضع بأحد معالم الأوغسطينية في مكتبتنا.

فشكرًا للخورأسقف الحلو على جهده. فهو، بهذه الهدية الجديدة، مضافةً إلى هداياه السابقة، يكون مكَّن القارئ العربي من مجالسة عقل فذٍّ، "اعتُبِرَ في عصر من العصور المعلِّم غير المنازع للكنيسة مباشرة بعد الرُّسُل"، لا يزال يعلِّمنا إلى اليوم، كما كان – ولا يزال – موردًا لعقول كثيرة في أزمنة مختلفة، أمثال القديس توما الأكويني، پاسكال، مالبرانش، لايبنتس، وحتى هوسِّرل.

*** *** ***

عن، النهار، السبت 11 أيلول 2004


 

horizontal rule

* صدر لدى "دار المشرق"، توزيع المكتبة الشرقية، 2004.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود