ظلال
أنثوية 1
ثناء درويش
استهلال
أستميحكم عذرًا أيها السادة،
فأنا ومنذ البدء لم تكن نيَّتي أن أدوِّن شهادتي، وكنت أؤثر أن أعبر
كما عبر سواي، فلطالما وجدت التدوين جريمة لا تقلُّ فداحة عن سواها،
ولم تزد الطين إلا بِلَّة، منذ عصر اختراع اللغة وحتى اللحظة، حيث يقع
القارئ تحت سطوة ما راق له، فإذا به أسير رؤى أو آراء الكاتب لا يستطيع
أو لا يبتغي منها انعتاقًا. وليس في الأمر ضير، بل أنا واثقة مما
للكلمة الطيِّبة سواء كتبت أو نطقت من أثر، وكم لها قدرة جبارة على
التغيير وتحريض الخير، وكيف يتحول ما نقرأه إلى سلوك، فتتلبسنا الكلمة
كفعل واقع. لكنني أيضًا واثقة بالمقابل أن النص قد يكون ككاتبه مغلقًا،
حابسًا محبوسًا يدور كقوقعة حول نفسه، فيما القارئ كحلزون يتبع دورة
القوقعة في استلاب واضح. وأقولها صراحة أنني لطالما سمعت قرقرة الحروف
في جوفي، فأسارع لإسكاتها بفتات اللامبالاة والتهكم من عبث أي فعل
نهايته الصمت الأبدي، وكان الأمر سينتهي وفق ما أردت، لولا هذا الجيشان
الذي ازداد في داخلي، فوجدت أن لا مناص من إكمال اللعبة حتى النهاية،
فلعلَّني لست سوى أداة لقوة كونية جبَّارة تسيِّر خطاي وتوهمني أني
صاحبة القرار والحسم والفصل، فملت إلى أن أضحك عليها كما ضحكت علي.
وللتوضيح، وحتى لا تذهب بكم الظنون بعيدًا، عليَّ أن أوضح أن شهادتي
تنطلق بدءًا من نفسي وتعود إليها، فكلُّ فعل صغير كان أم كبير لا
أبرِّئ نفسي عنه، وهكذا فما أدونه هنا عني كما عن أيِّ عابر فيكم، وما
القصد منه الإدانة، بل صور تمرُّ أمام عيني فألتقطها كعدسة الكاميرا
ليس إلا، فلا تتأهبوا لرجم بيتي الزجاجيَّ بحجارتكم، ولا تصبُّوا عليَّ
وابلاً من لعناتكم، فما لبيتي سقف سوى السماء. هكذا أيها السادة وجدت
نفسي عالقة في مسرحية، أنا الكاتب – أو هكذا بدا لي – والمخرج والممثل
بآن، وكانت الأدوار تتناوب عليَّ، فمرة أراني البطل ومرة أكون مجرد
كومبارس مهمل قد يؤدي دوره صامتًا لدقائق معدودة، ولكم أن تتصوروا
الكمَّ الهائل من الأدوار الذي قمت بها متنقلة بين طرفي التضاد من خير
وشرف أو رذيلة وفضيلة، ولتعجبوا ما طاب لكم العجب، من هذا العالم
اللامتناه الذي اصطلح على تسميته "النفس" كم به من أدوار متناقضة وغير
عادلة أو منسجمة، وكيف لهذه النفس أن تكون مجمع التناقضات من فرعون إلى
موسى معًا، بين شيطان وملاك. وكأني بكلِّ واحد منكم، يجذبني لأكتب عنه،
ويغريني بتفاصيل قصته لأجسدها كدورٍ على مسرح روايتي، فأحار من أين
أبدأها وكيف أنهيها، ما دام لا نهاية لفصولها، ولست ربَّة الأقدار
لأحتم بمصير شخصياتها، فأؤثر أن أتركها معلقة وفي القلب صلاة تتمنى
الخير والنهايات السعيدة للجميع، ولكن هيهات أن يكون ذلك دومًا في عالم
الأسباب والنتائج، أو عالم الصدف العمياء.
***
1
سولا
كان لأبي أرضان يفلحهما - أرضه
الغربية.. وأمي
-
يا له من مستهلٍّ قديم لقصتك الحديثة يا سولا.. على
فكرة... هل حقًا اسمك سولا أم هو اسمك الحركي أو المهني؟ تضحك بمجون
كأنها تلقَّت عربونًا سلفًا من زبون يخلع على عجل مكتبه وهيلمانه
وشاربيه وأمره ونهيه ويبقي ناره استعدادًا لطعم مختلف. أجل هو اسم إحدى
عشيقات أبي التي تعلَّق بها كأكثر من عابرة سرير.. ركلته بعد أن امتصت
ماله مع ماء الشهوة... وصادف أن رزق بي في أوج عماه.. ثم إلى ماذا
تلمِّحين يا أستاذة؟ هل تظنين أني أستحي من عملي وهو مصدر رزقي. نحن
نعمل في الضوء برخصة رسمية، كما في كل دول العالم. بيوت الدعارة يا
أستاذة ليست بنت اليوم... لأنها مهنة قديمة جدًا. حلَّت مشكلتين معًا
أولهما باعتبارها وسيلة لكسب العيش حين تغلق كلُّ السبل أمام النساء..
وثانيها تفهم لرغبات الجنس الآخر الذي يكون دائمًا وراء قدومه إما شبق
الذكورة أو كبت قديم أو فضول اكتشاف الأنثى خاصة عند اليافعين.
- "عفوًا.. لست هنا لأقاضيك أو
لتبرري لي.. أنا كاتبة وأعتبر كتابتي ناقصة ومواربة إن لم ألج عوالم
الستر والخفاء.. كما عوالم النور".
- يا أستاذة.. لا تولد امرأة بنت
هوى.. ولو وجدت هواء نظيفًا ما هوت. لم يكن في نيَّتي أن أكون سولا
التي ترينها الآن بحمرتها الفاقعة كدعوة صارخة للجنس.. كنت مثلك في
طفولتي أعشق القصص والروايات وأهرب من مجون أبي إلى رحب فضاءاتها.. أنا
لم أرث العهر عنه كما يقول عني أهل قريتي. لكن دروب الانحراف تنفتح
فجأة حين ينحرف من يفترض أن يكون قدوتي فتقوده شياطينه لسريري بدل سرير
أمي... اذهبي يا أستاذة وأغلقي الباب وراءك.. فلدينا عمل مكثَّف
اليوم.. وبيتنا يثبت وجوده مع الزمن باستقطاب أكبر رؤوس هذا البلد..
شكرًا لأنك تجرأت على دخول بيتنا المشبوه.. وأنتظر أن تهديني نسخة من
كتابك حين صدوره.. ولا أعدك أن يتاح لي ان أقرأه.. فالعمل كثيرًا ما
يشغل عن المقال.
2
نتالي
أواه ما أحرقَ الذكرى
أنتِ تنضحينَ حبًّا
من مسامٍ خُلقت لتُرشفَ
في تلك الأماسي البعيدةِ
وأنا أؤجلكِ كوجبةٍ مضمونةٍ
لحينِ انتهاءِ نشرةِ آخرِ الأخبار
دون أن ألاحظَ انسحابَكِ لنومٍ مصطنع
مع استدارةِ ظهرٍ ما عاد مكشوفًا
ثمَّ ثورةٌ في داخلي واستغرابي لمزاجِ النساءِ المتقلِّبِ بين أرغبُ..
ولم أعدْ أرغبُ
ودمعتان
.. يمكنُ لي بعدَ كلِّ هذا الزمن تخيلهما عالقتان على أهدابك السوداء.
3
نكتار
ما أخفَّ هذه الروح وما أشفَّها،
وما أظلم هذا الجسد الثقيل كيف طاق حبسها. أسألها بشغف عن معنى اسمها،
بعد أن يصلني إحساس بأن رتاج الصمت سينزلق قليلاً ليسمح لعصافيرها
وفراشاتها بالرفيف ما بيننا ولزهور وجهها الذابلة بالتفتح من جديد
ولسيالة روحها أن تسقسق كنبع بعد غيض. تبتسم وتجيب بنشوة: شراب
الآلهة.. سمَّاني إياه أبي السكران دومًا بالأساطير التي يراها الحقيقة
المغيَّبة بأوهام البشر.. لدرجة أنهم ترجموا اسمي على أنه العصير كي لا
يكفروا كما يتصورون. "يا سلام - أهتف من كل قلبي
-
ما أجمل معناه وأي موسيقا تنساب من حروفه الخمس
كأنها أوتار". تصل محبتي غير المدَّعية إلى هذه الروح الخفيفة كريشة
فتنفرد أساريرها كأنها الغريب الذي وجد وطنا يلمَّه. تضحك وهي تقول:
"مالك ومريضة نفسية مثلي.. أنهى أمرها وبتَّ فيه الأطباء بإجماعهم على
أن ما بها هو الفصام. كل تصرفاتي جعلتهم يغلقون أي باب موارب يسمح
بولوج تشخيص مغاير. وابتدأت رحلة العذاب.. بتناول حبوب مهدئة، الامتناع
عنها يعني نوبات هستيرية تفضي للجنون أو الانتحار". لكل ظلٍّ حقيقة
لكلِّ مظهر جذور ونكتار وفق انطباع مبدأي ضحية من ضحايا البشرية التي
زاد الطين بلة أنها عربية. "كيف كانت طفولتك يا نكتار" تسرح بعيدًا
وأشعر بروحها كأنها تلاشت تمامًا ويصبح صوتها قيثارة بوح: "كان أبي
إلهي الجميل وكانت حكاياته معبدي. هل يُرضع الأب أطفاله؟! أجل
لقد فعل.. أستغرب كيف تعامى عن الشر وقد شرب جرعاته المرَّة أينما حل
وارتحل. فأرضعني كل جميل من الخير والحق والسمو. فظننت أن الدنيا
فضاءات مفتوحة لجناحيَّ الذين تحول زغبهما لريش"... بدأت الكآبة
تعاودها وهي تبتلع ريقها وغصتها: "ثم ابتدأت رحلة قصقصة الأجنحة وبناء
الجدران.. لأجد نفسي حبيسة نفسي والإحباط تحول إلى صراخ وتكسير لا
يشبهاني. من منا الحقيقية يا أستاذة.. أنا أم أنا. روحي الشفيفة أم
نفسي الساخطة".
أضم نكتار كأم.. وأنا أمسح دمعها المقهور مع إحساس كبير بعجزي.. وأقول
لها: "لا جواب لدي سوى أن روحك تليق بمتحف لا بمزبلة". ونغادر لتنتقي
لي غلافًا لروايتي ثم نشرب معًا رحيق الآلهة.
4
ناديا
أقسم أني بكامل قواي العقلية، وعن سبق إصرار وتصميم، اخترت ما تدعونه
العنوسة وأسميه حق تقرير المصير. ولعلكم أحقُّ مني بنظرات الشفقة، تلك
التي ترمقونني بها في رواحي وإيابي، حزنًا على شبابي الذي ولَّى دون
رباط الزوج "المقدَّس" أو اختبار مشاعر الأمومة ما بين حمل وإنجاب
وتربية. ناديا أيها القوم لم تزل بعيني نفسها رغم الزمن العابر.. تلك
الشابة التي رغب بها الكثير من شباب البلدة وعبثًا جربوا خطب ودِّها
وحين كانت ترفض كانوا ينعتونها بالصلف والغرور، مؤكدين أنه سيأتي اليوم
الذي تندم فيه على ما ضيَّعت من فرص ذهبية.. فقريبًا ستفترسها الوحدة
والوحشة ولن تجد ابنًا يناديها ماما أو يكون عونها في عجزها. هكذا أنتم
دومًا عبيد لما ألفتم وتعارفتم عليه حتى صار قانونًا لازمًا الخارج عنه
إما متمرد أو غبيٌّ. ولست أدري كيف تختصر بنظركم كل العلاقات الإنسانية
بصكِّ زوجية، ولما لا يكون طفل شردته الحرب أحقَّ بأمومتي من طفل أنجبه
لو استبعدنا "أنا" الجينات الحاكمة المستبدة. كونوا ما شئتم يا قوم،
وأبعدوا عيونكم عني لأنها لن ترى كم طفل تربَّى بحضني وكم يافع احتاج
مشورتي وكم شاب اعتبرني أمه دون أن يكون حبلنا السرِّي قطعة لحم.
ولأنكم لن تروا كم أنا أكثر حرية وسعادة منكم في خياراتي المتعددة
المفتوحة أمام خياركم القدريِّ الوحيد. أما بشأن نهاية كل منا وقصة
الاحتياجات.. فمن منكم يجزم ببرِّ ابنائه وجحود من أحببتهم. ربما بغد
لناظره قريب.. في حوار مفتوح لا جدل عقيم.. سترون كم الحياة أرحب من
معاييركم للعنوسة من حيث إطلاقها على من فاتها قطار الزواج الذي يطحنكم
بعجلاته وأنتم تتغنون به.. كقرار لا خيار. وربما رأيتم العنس هو
النعس.. لقلوب وعقول تأبى الصحوة.. من يدري؟!
5
نجوى
لو كنت أعلم أني أنجب ابني للموت في زهوة شبابه، لآثرت أن أرمي رحمًا
حمل وثديًا أرضع للكلاب، قبل أن أرى روحي تنطفئ كشمس لتحل لعنة الظلام
على ما تبقى لي في حاسوب عمري... عمري الذي توقف لحظة جاءني الخبر،
والباقي منه لدغات لا تنتهي لعقارب الساعة في انتظار مديد ليس له قلب،
فالرصاصة الطائشة التي اخترقت قلبه تابعت طريقها المرسوم لترميني معه..
زغاريد تجلجل في أذني مع نواح النائحات ونسوة جئن مهنئات بأن صار اسمي
أم الشهيد، وأن هذا الاسم تاج أمومتي وفخر عائلتي. وأنا مشلولة القوى
أعجز عن فهم كل هذه الترَّهات، فهل مجد الشهادة سيعيده لحضني لأشمشم
عميقًا رائحته. عقلي يجاهد ليسلم ببدهية أن الحرب طاحون عمياء لا تفرق
بين ظالم وبريء.. أما قلبي فيزأر كلبوة جريحة قائلاً خذوا وطني وبيتي
وسريري وأعيدوا لي فلذة كبدي. أيتها الأمهات المفجوعات مثلي.. دموعكن
عزيزة علي.. ولكنكن تبكين حرقتكن لا حرقتي وهيهات دموعكن تطفئ ناري،
وأنتن يا صديقاتي كم أمتنُّ لدعواتكن لي للحياة والخروج من خباء حزني،
لكني كلما هممت أن أفعل حاصرتني تفاصيل طفولته وصباه وشبابه، فانكفئ
على ذاتي كي لا أفسد رغبتكن بالحياة وآمالاً واهية واهمة. ولطفاً يا كل
الآخرين.. لا تكرروا على مسمعي قولكم.. العوض بسلامتك وسلامة أخوته..
فليس أسخف من كلمة العوض... وكأن أحدًا يقدر أن يحلَّ مكان آخر في قلب
أم. لا تحزن لأجلي بنيّ.. لأنك تركتني ورحلت وأنك اوجعتني بل ذبحتني عن
غير قصد.. بل أنا من عليها ان تعتذر فوالله إن فطرة الأمومة عمياء.. لو
تفكرت قبل الإنجاب باحتمال أن تشهد موت بعضها.. ما أنجبت.
6
فاتن
لمْ يعدْ التجاهلُ مجديًا، كما
أنَّ الصدَّ يزيده إصرارًا ورغبةً. ها هي رسالةٌ جديدةٌ في بريدي
الالكتروني، يمكنني أن احزرَ سلفًا مصدرها حتى قبل فتحِ علبةِ البريدِ،
كعادته كلَّ صباح. العباراتُ ذاتها يرددها بطريقةٍ تزيدني نفورًا،
والغزلُ الممجوجُ الذي لديَّ يقينٌ أنه قاله لسواي مرَّاتٍ ومرَّات:
"أما آن أن تليني وترقِّي، لصبٍّ في هواكِ، غير التفاح الناضج حلفَ ألا
يذوق". وأكاد أسمعُ صليلَ الرغبة في دمه: "تعالي قبل حلولِ الخريفِ،
فعمَّا قريب يولِّي زمنُ النضجِ، يبهتُ اللونُ وتتلاشى الرائحةُ ويصبح
المذاقُ الطازجُ كريهًا، فتسقطين وحيدةً متعفنةً، كأنك ما زهوت على
غصنِ الحياةِ الأخضر". برأسي الصغيرِ لمعتْ فكرةٌ عاجلتها بقرارٍ
سريعٍ. أناملي ترقصُ بخفَّةٍ على لوحة المفاتيحِ، والحروفُ شهبٌ تتساقط
على الفراغِ الأبيض، والوعدُ أبوابٌ مشرعةٌ لعاشقِ الوهمِ الذي لا
يشبع. "لا بأس، انتظرني، سيأتيك ردِّي بعدَ ثلاثِ ليالٍ سويًّا". لا
أعلمُ كيف مرَّت تلك الليالي عليه، في احتراقه شوقًا للثم وضمٍّ، ولا
النارُ التي اشتعلت في سريره، ولا إحساسه الخفي بالنصرِ كصيادٍ أفلحَ
في قنصِ غزالته الطريدة. لكني أعلمُ أن التفاحةَ الناضجةَ إن قضتْ
أمرًا فعلته. كجنيَّة تسللتُ إلى حاسوبه، أجريتُ بلمحِ السحرِ عمليةَ
استعادةٍ لكلِّ ما في سلة المحذوفاتِ من أعقابِ التفاحِ الأخضرِ
المقضومِ ورسائلِ الاشتهاء، وأعدتُ إرسالها من جديد عقبًا عقبًا إليه.
بعد ثلاثِ ليالٍ سويّا، بلغني أنه كرهَ التفاحَ عن بكرةِ أبيه، وصارَ
محرَّمًا بعرفه كفاكهةٍ تؤجِّجُ الرغبة وتثيرُ الفتنة، والكثيرون لشيخ
تحريم التفاح على إثره ماضون.
7
سعاد
نظرت من جديد إلى ساعتي، ثمَّ سرحت في الدروب محاولة التخمين.. من
أيِّها سيهلُّ طيفه. كان الوعد قبل عشرين عامًا أن يأتيني على حصان
أبيض، فارسًا لا يشقُّ له غبار، يأخذني معه إلى مدينة الأحلام بعد أن
يتوجني بإكليل زهر جمع وروده من كل أرض مرَّ بها في طريقه إلي..
ليعلنني أميرة الحبِّ الخالد. وفي كلِّ سنة كنت أمحو تفصيلاً من اللوحة
الحالمة.. مرة لا داعي لإكليل الورد.. ومرة بعدها ليس بالضرورة ارتداء
الفستان الأبيض فالسعادة ليست ثوب عرس... وهكذا وصولاً إلى فكرة أن لا
بأس إن لم يكن شابًا، أو حتى إن أتى راجلاً لا على فرس تسابق الريح.
تغيرت ملامح الحلم تمامًا، حتى اختصر بفكرة الزواج بحدِّ ذاتها للخلاص
من رعب قضاء ما تبقى من العمر وحيدة دون أنيس. ثم بعدما ولَّى زمن
الأحلام، دقَّ بابي راغبًا. لم تأت به الدروب الممتدة أمامي، فعريسي
المنتظر الذي نذرت له انتظار عمر لم يكن إلا جاري الطيب الذي رفضته
مرارًا أيام صباي منشغلة بصورة نسجت خيوطها بأوهامي الجميلة. هو أيضًا
كنت عروس أحلامه الشابة، وقد راوده حلمه القديم بعد وفاة زوجته فجاء
يتلمس لطف القبول.. آه كم غريبة هي الحياة كيف لي أن أعلم حينها أن
السعادة قاب قوسين.. وأنا أتطاول لأبلغ وهم شاهقها. وكم ضيَّعت عليَّ
وعليك من عمر يا فارسي الجميل.
8
مريم
أنا يا صديقتي لستُ لي، قبل الزواجِ كنتُ لأهلي بعد الزواج صرتُ لأهلي
وأولادي وبعلي رغم أنهم لهم ما لهم وما لي أنا لستُ لي.. عبَرَ عمري
وليس لي مني شيء: لا وقتي.. ولا عملي، لا اهتمامي.. ولا مالي، حتى الرب
استوطن بدل قلبي عقلي... وكنت كثور في عنقه نير أدور وأدور.. أفلح
وأمنح ما بين خوفي وخجلي.... فجأة وكان الشيب قد غزا مفرقي، وصار
لعظامي صرير باب صدئ تلفَّتُ حولي وجدتني وحيدة حتى النخاع ولم تزل
الأفواه والأيدي تستنزف قولي وفعلي... فصرخت.. أقيلوني من أنواتكم فلي
أناي.. وسأغني ولو مرَّة موالي.. هكذا خرجت من باب اللاعودة.. تشيعني
عيون ذبحتني محبتها من الوريد للوريد.. أردت أن أختار مرة ما أريد..
وأن أقول للدنيا.. لن أمنحك بعد لا خدًا أيمن ولا أيسر لتصفعيه بتسليمي
ورضاي. أن تكون مضحيًا، تلك سمة الأخيار الطيبين، حيث تفيض النفس فطرة
بكرم سجاياها، لكن المطبَّ الأكبر أن يكتب عليك أن تكون دومًا كبش
الفداء.. لأن كرمك سيقترن مع الزمن بتفضيل أولوياتهم على أولوياتك، وأن
تمحق أناك لتكبر هالاتهم، فإذا ما فكرت يومًا بذاتك غلَّك خجل متجذر في
النفس رضعته وتربيت عليه، فيصبح منحك فعلاً لازم الوجوب لا فضل لك فيه.
وحين من سجف الصمت يخرج صوتك... سيخرج ناشزًا غريبًا كنكرة في محفل
معاريف... سينظرون إليك وكأنك جدار آيل للسقوط كانوا يظنونه حائط مبكى
أو محجَّ احتياجاتهم.. ولا تستغرب إذا ما نعتوك بالأنانية.. ستمضي في
الدروب وحدك... وأنت تعلم أنك الوحيد أنَّى الدروب سلكت، ستحفر في
الصخر وقد ولَّى العمر وتوسَّع براحتيك الضيق.. وتجدِّف بذراعيك وأنت
الغريق لن تستسلم... ستبدأ من جديد في ركنك القصيِّ ببداية تليق
بالنهاية.. لأنك اخترت أن تكون الحرَّ.. في فضاءات لا تأسرها رغبات
البشر.
9
سلاف
سأقصُّ عليك حكايتي يا حضرة
الأديبة من الآخر وصولاً لنقطة البدء لعلك تجدين بها ما يستحقُّ أن
يضمَّه كتابك.. وليست قصتي بأحسن القصص تطرب لها الأذن وتتوق لتفاصيلها
النفس، بل هي كسواها من حكايات بلدنا مرَّة المذاق ناشزة الوقع، تجترُّ
عبر الزمن من قبل الجواري.. حتى كأنها بلا نهاية. الآخر.. هو ما حدث
قبل ساعات.. حين مررت بمحل الزهور لأحضر لك باقة نرجس لعلمي أنك من
عشاقه.. فرمقني البائع بذات نظرة الريب التي ينظر إلي بها الجميع على
اعتباري مطلَّقة.. ورأيت شياطينه توسوس له أنني أشتري الورود لموعد
غرامي.. فيما عيناه تسبران تفاصيلي بشهوة مقرفة. وفي عودة أبعد
قليلاً.. ذهبت منذ شهور بأوراقي للتقديم على وظيفة.. ومعي شهادتي
الجامعية ووثائق تؤكد خبراتي المتعددة. لكن عينيِّ المدير لم ترى أيًا
منها بل راحتا تنتقلان ما بيني وبين كلمة مطلَّقة.. فقد وجد في الكلمة
ضالته المنشودة ولم يتوقع أن يكون نصيبه بعد أيام صفعة تليق بدابة
يرتدي ربطة عنق. هل أعود أكثر فأكثر للوراء.. للحظة قراري الانفصال
وطلب التفريق.. هل أعود لوشوشات النسوة ونسج الحكايا وهنَّ الأكثر
ظلمًا وانطفاء.. أو لندب الأم التي لا تدري كيف ستواجه المجتمع بما
اقترفت ابنتها.. أو لشرف الأخوة وفرض الحظر والمنع.. خوفًا على سمعة
مهلهلة.. فكأن الطلاق انتقال من سجن إلى آخر.. أو لشفقة الأصحاب..
والمواساة بكلمات بائسة تزيد الظلام حلكة. وهل كانوا سيسمعوني لو قلت
أن المصطلح برمَّته باطل.. لأن هناك أيضًا مطلِّقة بكسر اللام.. كما
هناك مطلَّقة.. لأنه فعل إن كان أحادي الجانب.. فهو بيد الزوج أو
الزوجة ولا دخل لمسألة العصمة هنا. وهيهات يكون اتفاقًا كما يليق
بإنسانيتنا.. وكما يحصل الزواج بالتراضي.. يكون التفريق. اكتبي.. يا
صديقتي اكتبي اكتبي عن دفتر العائلة الذي كرَّم المرأة بجعلها الزوجة
الأولى أو الثانية أو الثالثة أو الرابعة... اكتبي عن زوجة ثانية
وجدتها يومًا قد صارت على الدفتر.. فمزقت ورقتي اكرامًا لها ولي..
اكتبي عن اهجروهن بالمضاجع كعقاب.. وكأن المضجع جائزة من الزوج
للزوجة.. وحريٌّ بالمرأة أن تهجر إن عاد زوجها سكرانًا يطالبها بحقوقه
فلا يقال لها إن اعترضت إلا اصبري فللزوجة أن تطيع زوجها حفاظًا على
الأسرة. اكتبي عن اضربوهن.. فالعصا لمن عصا.. ولا تسألي عن رضوض ستشفى
مع الزمن.. بل ضميني لأنسى رض القلب.. أجل.. يا صديقتي.. لقد تزوجته
بعد قصة حب عاصفة دامت لسنوات.. وكنت سعيدة بكل ما أقدمه باسم الحب..
بدءًا من قبولي به بلا مهر أو ضمان إلى تركي عملي والتفرغ لرعاية أطفال
هذا الحب. ثم توالت التنازلات.. لأجدني وجهًا لوجه أمام عبارة قالها
حين ذكرته بتضحياتي.. "أنت من رمت نفسها علي.. ويمكنك أن تغادري متى
شئت..". هل أعود بك أكثر فأكثر إلى بيت أهلي إلى مورثات الضعف.. وتربية
الخجل.. وأخلاق الوهم.. وأسطورة الحب.. أم أكتفي بالقول هو لم يكن
قويًا.. أنا التي كنت الضعيفة.
*** *** ***