دراسة نقدية عن لوحة "القلمون"
للفنان نزار صابور
أثير محمد علي
ضربات
ريشة الفنان السوري نزار صابور ترفع الأفق عن مساحة الرسم، تزيح
المنظور، وتكفن آخر الضوء من البيوت المتراكبة، تدحرج العتمة فوق
الجبال وتبعد فعل البشر من أيقونات العذارى والقديسين المشرقيَّة ذات
اللون والعيون الخرزيَّة، من نطاق اللوحة الداخلي إلى حاشية علويَّة
تؤطر المنظر. ومن هذا الإطار المذهَّب تسترق شخوص الأيقونات القدسيَّة
السمع لرجفة بؤرة الشدة وغزو الفظاعة على مدار الداخل التشكيلي.
تبعث لوحة "القلمون"
(145-315 سم) المنجزة في ربيع دمشق 2014، إيهامًا للمتلقي بأنه ملقى
على قارعة الطريق في العراء، وبأن مروره البصري على الديار والرعوش
الجبليَّة والسفوح المرسومة أشبه ما يكون برحلة هو ناظر ومشارك فيها،
فالوقوف أمام اللوحة لا يدع مجالاً للسكينة أو اللامبالاة.
تختفي كل نأمة إنسانيَّة للمنازل المتكدسة المتراصة، حتى ولا صوتًا
أنسيًا، لا زمزمة بشرية، والتشويه الفحمي المتعمد من الريشة يقول
بإخفاق كل قدرة على محاكاة الواقع وجسد الحاضر، لكل ذلك تتوارى أهمية
البيوت المعرجة إلى السموات الكالحة، أمام الهلع من الانفصال عن الجذور
الصخور الرحميَّة. وتصارع صيرورة لحظة الرسم وزمان اللوحة ضد دوام
الحال، فشموليَّة الرماد تحلُّ في بدن المكان المتصل، بيوتًا وجبالاً
وسموات في المساحة الداخلية للوحة، وتُسمَع من القماش المرسوم صرخة
كامنة للخلاص من غوليَّة تبتلع المنظر كله.
لا تقرُّ للفنان عين، يرسم خوفه من إخفاق الشكل في الصراع مع الواقع،
ومن الفن الذي يذوي ويصبح جمالاً بلا روح، فيعتمد التكنيك الخشن في
تعامله مع تدرجات السواد والبياض، إلى أن يجعل القتامة تعرض نفسها في
برزخ هي فيه صفة من صفات الموضوع بنفس الوقت الذي تكون فيه ظواهر مجردة
لاجسميَّة. وهذه الازدواجية المختلطة ما بين العينيَّة والتجريد،
التركيب والانحلال، الثبات والتوتر، الدقة والإيحائيَّة، والمكان
الحقيقي المتموضع في إطار حلمي كابوسي.. تترك الشكل في حالة من انعدام
الاكتمال والعزوف عن قول الكلمة الأخيرة، كما تتركه معلقًا على هسيس
حركة تحوُّل خفيَّة في باطن المنظر، الأمر الذي يتيح المجال لتعبئة عين
المتلقي كي يكمله بعرفانه الحرِّ... وعمياء هي العين التي تغلق أجفانها
وتتحجر ولا تلفحها ريح الموت.
يشبه منظر "لوحة القلمون" لقطة بانوراميَّة عامة لكاميرا سينمائيَّة،
نحدس أن اقترابها يتبدى عن تفاصيل رعب فيلمي، ومشاهد منزوفة في العمق
الغميق الغميق.
القلمون، بيوتًا وجبالاً وسموات، هو بطل المشهد، مشهد يمشي متباطئًا
كما في جنازة.. مشهد بلا وطن.. بلا بشر، إلا من المتلقي/الشاهد على
الألم، فهل يقول كلمته وينتفض من رماد السنين المكان؟! هنا يكمن القول
بأهمية الاتجاه الذاتي للفنان على حد سواء من أهمية التجربة الشخصيَّة
للمشاهد/الشاهد وإعادته تشكيل ما تشكل بحوله وقوته.
لكل ذلك لا يهتم خالق اللوحة بالبراعة المقصودة لذاتها، بل بتقنيَّة
تشكيليَّة يتغيا فيها القول تحايثًا وتواشجًا في مجمل العمل الفني.
ويتقرى المبصر في إعادة نزار صابور رسم طائفة من العذراوات والقديسين
الأيقونيَّة السوريَّة في مجرة الإطار التي تكلل المساحة الداخليَّة،
استحضارًا لذلك الفنان المجهول، وربما الراهب الصوفاني، الذي قام بفعل
الفن والإبداع دون أن يمهر اسمه في صياغة التراث/ القلمون.. هذا التراث
الذي يتداعى بعذابه البدني والاحتراق في راهن الداخل التصويري، إلا أن
روحه ما برحت متبقية، تدل عليها نثرات نورانيَّة مذررة تتوهج من تحت
بنية السطح المرئي في المساحة الداخلية.
هل البيوت المصلوبة على القلمون هي قربان درب آلام في سبيل قيامةٍ تقول
"في
البدء كان/ كانت الكلمة"، و"الكلمة" "فعل" انعتاق المعترين المعذبين في
الأرض؟!
من وجهة نظر أخرى، ربما يرى البعض في التحلية الأيقونيَّة المحيطة
بالمنظر، سؤالاً حول استعادة الذاكرة السوريَّة. وربما يرى البعض الآخر
في خلاصتها الجماليَّة تمَثُّلاً للملاك الذي حمَّله ولتر بنيامين
تصوره للتاريخ، وأظهره الرسام بول كلي في لوحته الصغيرة "الملاك
الجديد"
(1920)
ملاك التاريخ هذا يتأمل في الماضي، ولا يرى إلا
بقايا احتضار وخرائب تتراكم حتى الحاضر، بينما العاصفة التي هبت من
الجنة تنفخ في جناحيه، تحمله مجبرًا إلى خيمة أفق غامض مقلق.
تتداعى احتمالات الرؤية وجوبات التساؤلات والمكاشفة، وتبدو "لوحة
القلمون" كما لو أنها توغل، على طريقتها، في روح سؤال لوحة "منظر
طليطلة" للغريكو من القرن السابع عشر، وإن اختلف السياق في كل منهما.
رسم الغريكو مدينة طليطلة تحت سماء ملبدة بحشدٍ من غيومٍ محتقنة، وفي
برهةٍ تُرى فيها تفاصيل المدينة المبهمة من خلال شقوق نور بارد لعاصفة
رهيبة تنذر بحدوثها في أية وهلة، فعند لحظة دراميَّة أشبه ما تكون
بالمصيريَّة رسم الغريكو منظرًا للمدينة المستغرقة في الترقب، وكأنها
صلة وصل بين عالمين أو بين حالتين متحولين. وحاول السؤال: حينما ستعصف
الرياح، وتمطر السماء بجحارة من سجيل، ووابل وحشي لا يرحم، هل ستمحى
ملامح طليطلة، أم ستصمد أمام ظلمات العاصفة المروعة؟!
من جانبه، رسم نزار صابور "لوحة القلمون" في بؤرة العاصفة وتراكم
الوحشة، وحاول ترك السؤال: هل سيصمد المكان أمام ضلالات التحريق الهمجي
المسعور وطعم الزقوم المعدني؟!
كما لو أن تلاوين الداخل تفحمت.. ودخان.
يصلني صوت نزار صابور وهو يفرُّ من فم حزين، يبدد خواطري المعلقة نحو
"لوحة القلمون" المتكئة على الجدار قبالتنا في الصالون ونحن نجلس إلى
الكنبة البنفسجيَّة الواطئة.
تعبر أزمان مجروحة. أراه بعيني ينهض، يفرد قامته في فضاء الغرفة، يغيب
خلف الباب، ويأتي بلوحات لم تتضح ملامح قماشها المشترى من سوق الحميدية
والمصبوغ بلون الطين.. خام قماش يصلح للموتى، كما يصلح للعجن مع لون
الوحل، والشدِّ على الخشب بعد دهنه بالغراء.
يسند نزار صابور ما تكمش به يده من أعمال أوليَّة إلى تشكيل البيوت
الثاوية على الجرود في "لوحة القلمون"، أعلى قليلاً من علب الألوان
المبعثرة على البلاط المحازي للسجادة.
يعود للجلوس للكنبة، يتوارى خلف كلمات بلون مسموع لم يرسمها بعد. يتشرب
بصرنا جموع المنتهي واللامنتهي من اللوحات، وهي تتموضع واحدة للأخرى
كمنافذ كهفيَّة. نقلب صفحات الطلول المخططة، والإمكانات المحتشدة، حين
الكثيف من جنح ليلي ناصل يغطي قبة السماء قرب سقف الغرفة في
"لوحة
القلمون" الكبرى.
تحلُّ عتمة دمشق قبل أوانها في ضاحية قدسيَّا، يطلب مني أن أهاتفه حين
وصولي البيت كعادتنا التي درجنا عليها مع تكوُّم القذائف وغفلة
الانفجارات..
أهبط الدرجات مهرولة ألحق بزين، الذي فاته موعد طبيب الأسنان، ليعبر بي
بسيارته حواجز العسكر وأسفلت التلال. وعلى ضوء مشاهد الطريق ونيونات
المنازل الواهنة أستعيد يومي منذ صباح آخر الممشى في الطابق الثالث من
كلية الفنون الجميلة في البرامكة حين ملت يمينًا، وإلى جهة اليسار شدني
إيحاء سادس للنظر، كان نزار صابور في عمق مديد وراء الباب المنفرج يجلس
خلف مكتبه ينتظرني. اقتربت مني كأني أدخل ردهات متتابعة واحدة وراء
الأخرى، أرتقي لوحة يعمرها هو بحضوره في ذاكرة الفن السوري، أسلِّم
عليه وأجلس إلى كرسي يجاور الطاولة.
تشفُّ حواسي وأنا أراني منعكسة على المرآة المقابلة كصورة تنضاف
للأفيشات والروسمات المعلقة على جدران المكتب. وأشهد امرأة المرآة تقول
متشككة:
ليتني أستطيع أن أكتب عنك يا نزار..
وأردفُ بلا تمهل وأنا أزيح الطرف عن سطح المرآة الصقيل:
لا شيء معي إلا قلمًا وورقة غربلها الرصاص، وآلة تسجيل صغيرة تحتاج
لبطارية.
*** *** ***
مجلة "الكلمة" الإلكترونية