اغتصاب
ثناء درويش
صوت
سأغمس اليوم ريشة من جناحي، بدمي الراعف الراعد، وألبس اسم مغتصبة، فهو
أيضًا اسم من أسمائي التي أعيى البشر إحصاؤها، ولولا فظاعة الشرِّ ما
كانت.
سأتقمَّص اللحظة بكل قسوتها، وأدخل في ثنايا النفس المفجوعة الممزقة،
لأشهد العنف متجسدًا هذه المرَّة بفعل الاغتصاب، ولو حكمت بالقصاص لكان
البتر جزاء الفعل، وهيهات يروي غليل.
هاكمُ صكوك الغفران، خذوها فهي ليست لي بعد اليوم، بل للمتَّكئين على
وسائد المحبة غير المشروطة، يشربون خمرتها في حانات سكرهم، ويكتبون
قصائد الغزل في ربٍّ ينتشي بالتمجيد والتسبيح، فيرضى عنهم ويرضوا عنه.
ترى أين كان ذلك الربُّ وهو يراني بين براثن الوحش، هل كان نائمًا أم
يداعب أطفاله الملائكة بعيونهم الزرق في السماء القصيَّة؟
أم لعله انشغل عني بتتويجه سلطان دولة العشق الذي لا يضاهى.
هل وصلته توسلاتي، أو رأى دموعي، أو أبه لصراخي يشق صمت العالم
المتواطئ.
قولوا عني ما شئتم، كافرة أو معذورة، فالإنشاء والتوصيف يزيدني سقمًا،
والحمائم التي يطلقها الطيبون منكم لتعزيتي، تستحيل فور وصولها عندي
سحائب من دخان أسود تمطر سخطًا ووعيدًا.
أبصق في وجه العالم الظالم المظلم، وأشتم منظمات حقوق الإنسان،
ومؤتمرات حقوق المرأة، وألعن جسدي، فيما أتقيأ قرفي وألمي واحتضاري،
فكل ماء العالم لن يزيل رائحة النتن عن جلدي، أو يطفئ نار شهوة
الافتراس تقاطرت في جوفي لتتركه أرضًا محروقة بلا حياة.
يقولون لي ستنسين والزمن كفيل بشفاء أعمق الجروح، فأبتسم ساخرة من
نسيان أحمق يحسب نفسه بارعًا بمداواتي.
وكيف أنسى والحياة اختُصرت عندي بمشهد واحد، يجمع شبق الوحش مع قلة
حيلة الفريسة، وصليل الرغبة تفحُّ في وجهي أنفاسها مع أنيني المكتوم
ودمعي المهدور عبثًا.
أهذا هو الجنس المقدَّس الذي عبَّأت رأسي به يا أمي سنين حياتي؟!
أهذه لحظة الانعتاق والتجلي والتوحد التي أمَّلتني بها بقران عشق
هيأتني له؟!
لماذا بدل دروس المحبة التي قرأتها على روحي كالقرآن، لم تخبريني أن
العالم شرير، وأننا لقمة في فم الأقوى؟!
كررت مرارًا على مسمعي أن جسدي مقدس، فكيف يلوث المقّدس بقذارات
النذالة والفحولة؟!
لعلِّي حينها كنت سأقف بكل شراستي في وجه مغتصبي، وأغرز أظافري
المسنونة في وجهه، لكنك سامحك الله قلَّمت أظافري وحمَّلتني صليب أخلاق
اغتُصبت تحت وطأته، فكيف بحقك كيف أغفر لله. لمن أحببته وتخلَّى عني.
صدى
اصرخي صغيرتي، فحقك أن تملأي الدنيا استنكارًا ورفضًا، وحقك أن تستفرغي
حزن مصابك دموعًا ونشيجًا، وحقك أن تكفري بعدالة السماء، وحقك أن تسخري
بشريعة الغاب.
خذي ما شئت من الزمن، ثم بعدها جربي أن تصغي إليَّ، فما أنا إلا أمٌّ،
مصابك مصابها، وجرحك جرحها، ولن يستشعر ألمك مثل قلبي، ولن يلملم دمعك
مثل حضني.
إن الدنيا على قسوة البشر فيها، لن تخلو من الرحمة، ورغم وحشة الطيبين
في دروبها، قد تأنس النفس بقلب إنسان، فتخفُّ آلامها.
فلا تقنطي من رَوح الله، وثقي أن العنف الذي تعرضت له، مردود على
مرتكبه، وأن سيحصد ما اقترف ولو بعد حين.
لست من تلوَّث بالدنس والنجس، بل هو، وستبقى لعنة فعلته تلاحقه إلى أبد
الآبدين.
وحين سيأتي الحب، سيطوي بين دفتيه صفحة الماضي، وتشرق الحياة من جديد
في قلبك الحزين، وربما تحولت نقمتك إلى رثاء وشفقة، على المحروم من
نعمة الحب، سعادته شبق افتراس... ولا يشبع.
وفي اللحظة التي كنت بها تُغتصبين، كانت الحياة تتعرض للاغتصاب، وكان
الله في عليائه يبكي فجيعته بما صنعت يداه ليكون خليفة له على الأرض.
لكنَّ هذه الدموع المالحة التي جرَّحت وجنتيك، سيأتي اليوم الذي تكون
فيه سُقيًا لربيع أخضر، ونقمتك التي فجَّرت فيك براكين نار، ستخمدها
الأيام بما تهبه مما استودعته في القلوب الطيَّبة من رحمة ومحبة غامرة،
وإيمانك بذلك مفتاح كلِّ مستغلق.
هناك عند خطِّ الأفق سألتقيك، شمسًا لا تغيب.
*** *** ***