جَيْبُ النساء
نصان
دارين أحمد
(1)
الفكرة هوس العقل،
هناك من يجني ثمرًا مرًّا ويبصق في كفه كلما قطف واحدةً كي لا يلتصق
قميصها بجلده. كيف تذبل راحة الكف، يذبل اللعاب في فمه! يسيل كل شيء
ببطء: الفكرة والعقل والرجل ذو اليد المغلولة؛ إنه يفكر بالمدينة التي
يركلها الجنون من جهة إلى جهة، ويركض من جهة إلى جهة. يومًا ما سيتعثر
بما كانت عليه، بما آلت إليه، ولن يكون ظلًا لنفسه، لن يكون شيئًا.
الفكرة هوس العقل،
وأنا صيادة طعوم لغيري، لا أقتل كائنًا إلا وقد قذف جوهره في رحم
الحياة. لا أحفر قبرًا، فكل كائناتي جائعة وفيها يتحول الموتى إلى تراب
وماء. حتى السماء المقببة، وعرشها الغيمي، يتصاعدان من نهشٍ موسيقيٍّ
نَّوَّاسٍ.
تحسس خلاياك، التفافاتك، اضطجاعك الجنينيَّ، سأتذكر هيئات الأحصنة
والبلاد والحروب، القصائد والشرفات والعناكب، التروس والسيوف والفرسان
ذوي الصدور الحديدية، سأتذكر الرجال ذوي الأقنعة وهم يصلحون هندامهم
للكاميرات ويبتسمون: (سيكون محصولًا جيدًا).
تحسس خلاياك، التفافاتك، اضطجاعك الجنينيَّ؛ أريد أن أنام قليلاً
واستيقظ بعد حين.
*
اليقظة – أيتها الكائنات العائمة في غيبوبتها – انهدامُ الغيب، رشق
المسِّ للعقل بالعقل. هناك حيث تذوي ظلالكِ أيتها الكائنات المتراكمة
مثل رمل في عيني.
*
للوجه المتوغل في الطين ملامح شيطان، هو ذاته الوجه الذي إن غُسلتْ
عيناه بماء الينابيع سالت صور داكنة تعطي للألوان معنى. ألتفُّ حوله،
أتمسك به، أشرب نسغه وأُثمرُ.
يا مذاق العليق في الجسد المدمى! أيها اللسان يا مالك الأرض بحركات
قليلة في الجهات كلها؛ أيتها اللغة النابتة في تراب الرأس، أيتها
الحرائق الذهانية، تخمدين في ملامح الصمت الندية بينما تتجمر طرق موتك
المتعرجة.
*
الفكرة حَبْلُ الرأس، حَبَله، احتمالٌ وأجنة وأطواق من خرز ملون كان
زينة معاصم النساء وجيبوبهن.
وأنتَ أيها الرجل الخاوي
أينما يمَّمتَ وجهك
رأيتَ امرأة.
***
(2)
النساء، حاملات السلاسل المعلقة برقابهن، يتسابقن في علو الصمت والهجع؛
من أشعلن الحرب في النأي يتمددن في دخانها هنا مثل أشباح طويلة لشجر
محترق على بقية المدينة. المدينة، أيتها الكلبة ذات الجراء المرقطة وهي
تختار دروبًا ترابية لتعفِّرها وتمضي.
لقد رأيناك، ضممناك، جلدناك، عوينا جائعين حتى تلبسنا غبارك. لقد رأينا
تلاشيك، تشممنا رائحة الهزيع الأخير منك وأنت تتبخرين عن الأشجار
والأعشاب والصخر. قبَّلنا الحجر الذي تعثرتِ به - كلُّ ما بقي منك.
المدينة الهاجعة تحت أحجار متثاقلة مثل سيدات القرون القديمة وهن
يتصفحن أثر الخواء في المدى، تسلِّم مفاتيح نومها إلى مهربي نساء العصر
السريعات، قانصات اللحظات الناعمة تحت هدير الطائرات. إنهن يتدفقن
متدليات الرؤوس يقرأن الكثافة في أثر خطوات من سبقهن.
من فكَّر في أثر القدم على الأرض، وزن البشريِّ وهو يدفع قامته نحو
الأعلى، يتمسك بالسماء كخفاش نائم يمدح الظلمة التي أنجبته؛ من رأى أثر
القدم على الأرض مثل خصر رشيق برؤوس خمسة كسرت سلاسلها؛ نعم أنتَ أيها
الحارس الأخرس! اطلق كل الأسماء التي تقبض على لسانك، وامضغ الصمت كما
تمضغ طعامك. أنت أيها الحارس الأخرس! تفكر بالجوع ذي الوجه الهزلي وهو
ينحت عظمة الوجنة العالية وتقول في سرك "لا علو يفوق علو عظمة الوجنة
إلا قبر العين الواسع".
مثلي ومثلك ثابتان في دروب تتلوى متقاربة. صور الأشجار التي ظللتنا من
وهج الشمس عندما كنا صغارًا، حملت أراجيحنا، ورمت على رؤوسنا ثمارها
الناضجة، تتشابك الآن: ذراعي وذراعك.
-
أتسمع صوت الثمرة النائحة في الصدر؟
-
هَذْيٌ هذا النواح،
هَذْيٌ كل طريق إليه، كل طريق منه.
قلبي ثمرة ناضجة
ويدكِ قبرها.
*** *** ***