الإعلان التَّخارُجي - بَيان شِعري
د.
مازن أكثم سليمان
أوَّلًا:
إشكالية البَيان
يُولَدُ الشِّعرُ وينمو ويتخلَّق على حبلٍ مُضطَّربٍ قلِق، تُناديهِ
دومًا الحوافُّ الخطِر، وينأى بطبيعتِهِ التَّكوينية عن كُلِّ ما هو
مُستقِرٌّ ومُنسجِم ومُتآلِف، نحوَ كُلِّ ما هو مُتغيِّر ومُتحوِّل
ومُدهِش.
إنَّهُ الانفتاحُ الدائمُ في عُقر دار الوجود، وهو الصراعُ الذي لا
يُستَنْفَد. وجودُهُ علَّتُهُ، وعلَّتُهُ لا تنفصل أبدًا عن أسئلةِ
الحداثة وكينونةِ التَّجديد وحُلمِ الانبثاق نحوَ الأمام. لهذا يحمِلُ
في أصل تكوينه لعْنَتَهُ العظيمة وخُلودَهُ العتيق، ويعيشُ بلا هوادة
أزمَتَهُ الوجودية المُلِحَّة: أن يكونَ مسكنَ الجَمال الحيِّ وشمسَ
الأصالة الكاشفة!
فالشعر مأزومٌ بما هو التباسٌ بينَ الزمن الأفقيِّ والزمن العموديِّ في
آنٍ معًا، وكُلُّ انقطاعٍ تراكميٍّ يعتريه في حقبةٍ ما أو في عصرٍ ما،
يُسَوِّغ لهُ الخيانة مثلما يدعوه إليها كُلُّ اتصالٍ تراكميٍّ! فمن
طبيعتِهِ المُتجدِّدة أن تهترئَ أسئلتُهُ في فَجوات الوجود، وحينها
عليه بكُلِّ جسارة أن يُواجِهَ اختبارَ القطيعة: والقطيعةُ نسْفٌ، لا
وصْلٌ. والأزمةُ دائمًا عُلُوٌّ: فهيَ باستمرارٌ حركةٌ - نحوَ -
الانفصال، وبحثٌ دؤوبٌ عن كينونةٍ حُرَّة، وتخفُّفٌ لا نهايةَ لهُ من
كُلِّ اطمئنانٍ للمُنْجَز.
لقد ازدحمَتْ وتزاحمَتْ في أدبيَّات الحداثة مقولاتٌ عريضة من قبيل
الحديث والمُعاصِر والجديد، أو من قبيل التَّجاوُز والتَّفجير واكتناه
المجهول، وتحوَّلت هذه المقولات إلى عُدَّةٍ آلية شكلية في مُعظَم
الأحيان، مُشكِّلةً غشاوةً تحجبُ طبيعةَ الحداثة الشِّعرية ووظيفتَها
الأصلية!
ولعقودٍ خَلَتْ، تراكَبَتِ التَّجاربُ الشِّعرية على أُسُسٍ مرجعية
أقلُّ ما يُقال عنها إنَّها أصبحَتْ أُسُسًا تقليدية؛ إذ تقومُ في
الأغلب على مُحاكاة أو تقليد تجارب فردية سابقة أو مدارس شعرية أو
تيارات بعينها. لتبدو الصورةُ العامةُ بهذا المعنى غير مُبَشِّرةٍ،
ولاسيَّما في ظلِّ سيادة أنماطٍ قَبْلية لم تلبث أن تغدو نوعًا من
الإيديولوجيا المُعادية لحُرِّية الشِّعر، ثُمَّ ليزيدَ من سوداوية
المشهد مآلُ الجَماليِّ - نظرَية وشِعرًا ونقدًا - بوصفِهِ الضَّحية
الكُبرى في كُلِّ ذلك.
وهكذا، تعيشُ الحداثة الشِّعرية اليومَ استعصاءً يُعيقُ استئنافَها إلى
حدٍّ بعيد. وهذا الاستعصاءُ بما هو أزمةٌ كيانية من طبيعة الشِّعر، هو
اختبارٌ خطير للقدرة على الخيانة، ولمدى إمكانية مُواجَهة التَّحدِّي
الوجوديَّ - الجَماليَّ بقطيعةٍ تشفي غليلَ الأسئلة اللَّجوجةِ
الحارَّة، وتمدُّ حبالَ النجاةِ للرُّوح الجَماليِّ المغدور، وتستدعي
حداثةً شعرية حُرَّة جديدة لا تكفُّ عن الانفتاح - نحوَ - المُجاوَزة
والتَّباعُد والاختلاف.
لهذا تنطلقُ الإشكالية النَّظَرية الأكثَر عمقًا ودقَّة ممَّا هو سؤالٌ
مسكوتٌ عنهُ يتعلَّقُ بِمساءَلة مُنطلَقات الحداثة الشِّعرية نفسها؛ أي
إنَّهُ يتعلَّقُ بإمكانية أن نسأل: هل تصحُّ مقولاتُ الحداثة الشِّعرية
ومفاهيمها في كُلِّ زمانٍ ومكان؟ أو بمعنىً آخَر: ألا تحتاجُ الحداثة
نفسُها إلى إخضاعٍ دوريٍّ للتَّفحُّصِ والتَّنقيح والمُراجَعة تبعًا
للمُقتضيات المُستجِدَّة وجودًا وفنَّا؟
ثانِيًا:
الحداثة الشِّعرية بينَ الشِّعر
الرُّؤيويِّ والشِّعر اليوميِّ
احتفَتِ الحداثةُ الشِّعرية بتيَّاريْن عامّيْن اتَّبَعَهُما الشُّعراء
بغيةَ الفوز بأهدافها الشِّعرية المُشتهاة. حيثُ عرَّفَ التَّيّارُ
الأوَّلُ الحداثةَ الشعرية بأنَّها رؤيا، وكُلُّ رؤيا هيَ تغييرٌ في
نظام الأشياء وعلاقاتها، وتفتيتٌ لمنطِقها وروابِطها، وقفزٌ مُستمرٌ
باتِّجاه التَّحوُّل والتَّحويل، وسعيٌ دؤوبٌ إلى خلخلة البُنى
والمفاهيم القائمة، وإعادةُ خَلْقٍ وتشكيلٍ لزوايا النَّظَر إليها.
إنَّ الرُّؤيا هي إعادةُ تركيبٍ للرُّؤى الجزئية في رُؤيا كُلِّية
لعالَم مُتكامِل قائم بذاته، ومختلف عن العالَم الوقائعيِّ؛ فهيَ لا
تنقلُ العالَم مُجزَّءًا إلى أشياء، إنَّما تكشفُهُ في كُلِّيَّتِهِ
الحقيقية، وفي وَحدتِهِ الكونية، وفي شُموليته العميقة.
لهذا، تنتقِلُ الرُّؤيا من حالة الانفعال بالأشياء، إلى حالة الكشف
والاكتشاف ولا محدودية الخَلْق. وذلك في إطار تجربةٍ جمالية مُتكاملة
تتخطَّى العصور الماضية والعصر الحاضر على السَّواء، نحوَ رؤية ما
تحجبُهُ الأُلفةُ والعادة، وهو الأمرُ الذي يُفضي إلى اكتشاف علائق
خفية ضمنَ تداعيات خلَّاقة توليدية قادرة على تجاوُز الأشكال الفنِّية
المألوفة إلى أشكال غير مُحدَّدة بقالبية جاهزة.
لكنَّ هذا التَّيّار الرُّؤيويَّ واجَهَ نقضًا له من داخل مفهوم
(الكشف) نفسه عند تيار واسع من الشُّعراء؛ إذ قدَّمَتْ تجاربهم
اقتراحات جادَّة لمفارقة التَّوغُّل الحداثيِّ في العوالِم
الميتافيزيقية غير المرئية والمجهولة، نحوَ الغوص في تساؤلات الإنسان
اليومية في العصر الحديث.
لقد دعا التَّيّار الشِّعريُّ اليوميُّ إلى التقاط حركية الحياة
اليومية، وتفاصيلِها، ولحظاتِها الإنسانية البسيطة، بغيةَ كشف المساحات
الصَّغيرة المعيشة، وصيرورتها، ومشاعرها العابرة المُتحوِّلة، مُستندًا
إلى حركة الشعور في الكلام، لا إلى حركة اللاشعور في اللغة، ومعتمدًا
في تعيين الكشف على توتُّر الكلمات العادية والمُمارَسات اليومية
والرُّؤى الجزئية، لا على الرُّؤى الكُلِّية الشُّمولية المُؤسَّسة على
حركية تداعي الصُّوَر الشِّعرية.
وهكذا، تصدَّرَ هذان التَّيّاران المشهدَ الشعريَّ لِعقود، وتناحرا
لِرغبة كُلِّ منهما في احتكار الحداثة، أو تجاوَرا أحيانًا وتعايشا حتى
في تجربة الشاعر الواحد، وبدا الاطمئنانُ رخيًّا راسخًا عندَ معظم
الشُّعراء، ظنَّا منهم أنَّهُم باتوا يملكونَ الوصفات الآلية الإجرائية
التي تسمَحُ لهم بِمُجرَّدِ تطبيقها بالقبض على الجديد، وبسط الكشوف
الشِّعرية غير المَسبوقة!
ثالثًا:
المُطابَقات المركزية المُسَبَّقة
إنَّ أية مُقارَبة مُعمَّقة تستهدف تفكيك مفاهيم الحداثة الشِّعرية،
ثُمَّ إعادة بنائها، تستدعي بالضَّرورة أن نلتفتَ مُباشرةً إلى مفهوم
الذات. فنقدُ الحداثة الشِّعرية لا ينطوي - فقط - على نقد الذَّات،
إنَّما يقوم في جوهره على مُعاينة توضُّعات الذاتية المُبدعِة،
وتحوُّلاتها، بدءًا من عالَمها الوقائعيِّ، وانتهاءً بعالَمها
الشِّعريِّ.
والذاتُ - في فهمها الأوَّليِّ العام - هي كُلُّ ما يتَّصل بحالة
الفرد، وموقعه الاجتماعيِّ، وعلاقته بمُحيطه، وإدراكِهِ نفسِهِ
وخبراتِهِ والآخرينَ في هذا المحيط. فالإنسان دائمًا موجود في عالَم
يُحيط به ويُكوِّنه، ومعَ آخرين يُؤثِّرونَ فيه، ويُؤثِّر فيهم، ولذلكَ
فإنَّ أيَّ حوار مع مفهوم الذات هو بالضَّرورة حوار مع علاقتها
بالمُحيط الخارجيِّ.
تقومُ الرُّؤيا الحداثية على حركية تقليدية، يستدرِجُ بها الشاعِرُ
العالَمَ الخارجيَّ إلى داخلِهِ، بغيةَ محو الفواصل بينَ الذات
والموضوع إلى حدِّ التَّوحُّد مع الإنسان والمجتمع والكون؛ فالخطُّ
البيانيُّ لهذهِ الحركية ينطلِقُ من العالّم الوقائعيِّ (الخارجيِّ)
إلى اللاوعي الدَّاخليِّ، ومن الواقع الفيزيقيِّ إلى الواقع
النَّفسيِّ، ومن الغرض الشِّعريِّ إلى الرُّؤيا، مُحاولًا أن يبلغَ
الكشفَ اعتمادًا على سلسلة تحوُّلات يُفترَضُ أن تبسطَ عالَمًا جديدًا.
تُعَدُّ خلخلةُ وَحدة الذات، والنَّظَر إليها بوصفِها تعدُّدًا، من
أهمِّ خُطوات الفكر المُعاصر الذي سعى إلى مُجاوَزة ميتافيزيقا الحُضور
بتحطيم النَّظرة التي ترى أنَّ الذاتية مبدأ مُوَحِّد لكلِّ ما هو
موجود، وأنَّ الوعي الذاتيَّ حَكَمٌ وحيدٌ على الحقيقة، والتي كانت
مُرتبطةً فقط بما تُقرِّرُهُ الذات المُتعالية، وما تُسوِّغُهُ
وترفعُهُ إلى مستوى اليقين. وهي المسألةُ التي وضَعَتِ الإنسان في مركز
الكون بوصفِهِ العقل والأنا والفاعل الإنساني المُفكِّر، والمُتأكِّد
المُتيقِّن من هُوِيَّتِهِ، في مُقابِلِ الموضوع بوصفِهِ الشيء الموجود
في العالَم الخارجيِّ، والذي ينبغي أنْ تتمثَّلَهُ الذات الواعية
حاضِرًا أمامَها، ثُمَّ تُطابِقَ بينَهُ وبينَ عقلها وفكرها، في وضع
يسمَحُ لها بالتحكُّم قَبْليًّا به. وهذا الفهم ليسَ سوى تثبيت
ميتافيزيقيٍّ لمركزية الذات بِوصفهِا وَحدة شمولية مُسيطِرة تقنيًّا
على العالَم، إذ تتجرَّدُ بذلكَ من بُعدِها التّاريخيِّ لتكونَ هُوِية
مُستقرَّة وكونية، تطمسُ كُلَّ العناصر التي تُعاصِرُها،
وتَسْتَبْعِدُها، لكونِها مركزًا مُتعاليًا يُمثِّل المبدأ الواحد
والثَّبات والدَّيمومة والتَّطابُق.
إنَّ الحداثة الشِّعرية ليست في أدبيَّاتها وتطبيقاتها سوى احتفاء
مُستمر بالذات الميتافيزيقية الواعية، والتي تفترس بوفائها لميتافيزيقا
الحُضور إمكانيات الاختلاف الوجوديِّ الشِّعريِّ؛ ذلك أنَّ شُعراء
الحداثة ما برحوا يتحرَّكون في إطار وَحدة الذات ونظام التَّمركُز. ولم
يكُنْ اعتمادُهُم على اللاوعي الباطني لبلوغ الرُّؤى الكاشفة سوى تثبيت
لآلية نفْسية مُتعالية لطالَما قالت بوجود جوهر بذاتِهِ يُسمَّى
(النَّفْس(
التي تُذيبُ الأشياء والعالَم الخارجيّ في وعيها،
إذ حافَظَتْ هذه الذاتية في مُحصِّلتها النهائية على سُلطة الوعي
المُهيمنة على العالَم الخارجيّ، والتي تُحضِرُهُ موضوعيًّا، وتطويه
ليتطابَقَ مع مركزيَّتِها، مُتحكِّمَةً مُسَبَّقًا بما افتُرِضَ أنَّهُ
أنساق كُلِّية لاواعية، وعلى الأغلب كان هذا على حساب تجرِبة الوجود
الحُرِّ الذي هو شرطٌ حاسِم لكُلّ انبثاقٍ شِعريٍّ!
ويبدو لي أنَّ أزمة الحداثة المُزمنة، ومعنى الجَمالي المغدور فيها،
يرتبطان عُمقيًّا بكون الشِّعر الحديث عَجِزَ - في مُعظم الأحيان - عن
بلوغ الكشف المُبتغَى، وظلَّ يُكرِّرُ باستمرار مُطابقاتٍ ميتافيزيقية
خارجية وقَبْلية؛ أي بعبارةٍ أخرى، بقيَ شُعراءُ الحداثة مرهونينَ
للموجود تحت اليد، وللمُتَحَكَّم به مُسَبَّقًا، وللمطويِّ على مركزية
الذات، من غير أن يفتتحوا عصرَ مُجاوُزة ميتافيزيقا الحُضور، وذلكَ -
نحوَ - الاحتفاء بالكشف الأصيل للمسكوت عنه والغائب والمجهول، و- نحوَ
- الانغماس بجماليات التَّعدُّد والتجاوُز والاختلاف.
رابعًا:
نحوَ استعادة الوجود الشِّعريِّ
الكاشِف، ومُجاوَزة نظام التَّمركُز
إنَّ أية رغبة في استئناف الحداثة، ينبغي أن تنطلِقَ من السَّعي إلى
مُجاوَزة نظام التَّمركُز الميتافيزيقيِّ، ولاسيما من مُحاوَلة نسف
تقابُل الثُّنائيات الميتافيزيقية بغيةَ تمزيق سُلطة الذات المُتحكِّمة
مُسَبَّقًا بِعوالمها الشِّعرية بتشتيت تمثُّلها الواعي للخارِج الذي
تطويه على مركزيَّتها.
ولعلَّ الخُطوة الطَّموحة الأُولى لتحقيق ذلكَ تكونُ بِمُجاوَزة
ثُنائية (الخارج – الداخل) الميتافيزيقية، فمشكلة الوجود الخارجيِّ في
العالَم، وعلاقة الذات به، مشكلة زائفة؛ ذلكَ أنَّ الكائن الإنسانيَّ
بما هو موجود في العالَم؛ فهو موجودٌ بطبيعته دائمًا خارِجَ ذاته.
إنَّ الذّات لا تحتاجُ - بحالٍ من الأحوال - أنْ تُغادِرَ فضاءَها
الدَّاخليَّ، فهيَ ببنيتها الأوَّلية موجودة في الخارج؛ إذ لا يوجد
أيُّ انفصالٍ بينَ الكون والإنسان، وجميعُ الفعاليات المُوحِّدة للذات
لا تكشفُ إلا تبعثرها وانفصالها عن نفْسها، فهيَ مكانٌ كُلُّهُ خارِجٌ
وتشظِّ واختلاف.
وبهذا الفهم يحلُّ التَّعدُّدُ غير المُتناهي لِلذات مكانَ الوَحدة
والانسجام غير المُتناهي، وتسقطُ الهُوِية المُتعالية لتظهَرَ
الانفصالاتُ التي تخترِقُ الذات، وتقتحِمُ فكرةُ الغيرية استقرارَها
الزائف ويقينَها الهشَّ، مُؤكِّدةً أن الأصل هوَ انتشار الدَّلالة
وتشتُّتها المُستمر باتجاه العُبور والتَّجاوز والانفتاح - نحوَ -
المجهول. وهذا الفهمُ يقلبُ جذريًّا القانونَ الحركيَّ القديمَ للحداثة
الشِّعرية، حيثُ لا تعودُ الحركية تنطلِقُ من الخارج المُتبعثِر نحوَ
الداخل المُتماسِك؛ وإنَّما تنطلِقُ - بصورة نظَرية توضيحية فحسب - من
الداخلِ نحوَ الخارج، أو لنقُل على نحوٍ مُباشَر: هي حركية موجودة في
الخارج أصلًا.
إنَّ ما يُمكِنُ أن أدعوه بـِ (تعثُّر الكشف في الحداثة الشِّعرية)
ناجِمٌ عن تغوُّل ذات الشاعر على العملية الإبداعية-الشِّعرية؛ إذ
لطالَما صادرَتْ هذه الذات مُسَبَّقًا الشِّعرَ ورُؤاه وكشوفه، سواءٌ
أكانَ ذلكَ فيما عُرِفَ بالشِّعر الرُّؤيويِّ، أو كانَ ذلك فيما عُرِفَ
بالشِّعر اليوميِّ.
لقد تاهَ الشِّعر الحديث في ثُنائية ميتافيزيقية مُصطنَعة، فتوزَّعَ
هذا الشِّعْرُ بينَ وهم إحضار المَعيش ومُطابَقتِهِ في القصيدة
اليومية، ووهم إحضار الغائب ومُطابقته في القصيدة الكلِّية. ففي
الشِّعر اليوميِّ عمِدَ الشَّاعِرُ الحديث إلى إلحاق ذاتِهِ الشِّعرية
الافتراضية بذاته الوقائعية المَعيشة، فطوى قصيدتَهُ على مركزية
العالَم اليوميّ المُسَبَّق، وتوهَّمَ أنَّهُ بذلكَ ينجو من
الإيديولوجيا بالقبض على حركة الشُّعور في الكلام بوصفها قبضًا على
سياقات العالَم الخارجيِّ التي ينبعُ منها الكشف. أمَّا في الشِّعر
الرُّؤيويِّ، فقد عَمِدَ الشّاعر الحديث إلى إلحاق ذاته الشِّعرية
الافتراضية بذاتِهِ الوقائعية المُؤدلَجة، والمُتكوِّرة على رُؤىً
شمولية، فظنَّ أنَّهُ يقبضُ بذلكَ - وتبعًا لحركة اللاشُعور في اللُّغة
- على أنساق كُلِّية ينبعُ منها الكشف، غيرَ أنَّ هذا الفعل لم يكُن في
معظم الأحيان سوى استجابة قَبْلية تطوي القصيدة الحديثة على مركزيات
إيديولوجية تُصادِرُ مُسَبَّقًا الرُّؤى والمجهول.
وهكذا، سقطَتِ القصائد الحديثة في المُطابَقات الميتافيزيقية
الزَّائفة، وكشَفَتْ آليَّات خَلْق العالَم الشِّعريِّ فضيحةَ الحداثة
وتناقُضاتِها، فهيَ من ناحية أُولى تنصاعُ لسُلطة الذات الوقائعية التي
تتحكَّمُ بها قَبْليًّا، وهيَ من ناحيةٍ ثانية، تمسَخُ هذه الذَّات
وتُفقِرُها عندما يتمُّ اختزالُها إمَّا بمحتوىً إيديولوجيّ، أو
بمحتوىً يوميّ ليسَ سوى إعادة تدوير مقلوبة للإيديولوجيا، ليخسَرَ
الشِّعر الحديث بناءً على ذلكَ خُصوصيَّتَهُ الوجودية الجَمالية،
وتخسَرَ الذات الشِّعرية الافتراضية إمكانيَّات انفتاحها الحُرِّ
المُختلِف - نحوَ - المجهول.
إنَّ الدَّعوة إلى مُجاوَزة ثُنائية (الشِّعر الرُّؤيوي - الشِّعر
اليومي) البالية، هيَ في عُمقها دعوة إلى مُجاوَزة نسيان الوجود
الشِّعريّ الأصيل، انطلاقًا من مُجاوَزة نسيان الوجود في العالَم، وهو
الأمر الذي يُمثِّلُ إشكالية حداثية جوهرية تمَّ بمقتضاها توظيف
اللُّغة لصالح مُطابَقة المُسَبَّقات الإيديولوجية والتَّمركُز عليها،
وهذا كانَ يعني في لُبِّهِ فصل اللُّغة عن الوجود بالتَّعامُل معها
بوصفها أداةً ميتافيزيقية مُتعالية تستعمِلُها ذاتُ الشاعر الوقائعية
تقنيًّا للتّحكُّم بعالَمها الخارجيِّ والسَّيطرة عليه وطيِّهِ على
مُطابَقات مركزية قَبْلية.
ولعلَّ أصل الإشكالية في نظَريات الشِّعر الحديث تعودُ إلى الفَهم
الإبستمولوجيِّ (المعرفيِّ) للشِّعر، وذلكَ بمعنى أن يتمَّ فَهم
الجَماليّ كأنَّهُ قيمة مُضافة من الخارج إلى اللُّغويِّ، وليسَ ناجمًا
في صلب بنيته عن حركية الوجود في العالَم. ولهذا فإنَّ أوَّل خُطوة
لِمُجاوَزة هذه الإشكالية تكونُ بإعادة الاعتبار لوَحدة اللُّغة
والوجود بوصفها منبعَ الجَمال الشِّعريِّ. وهوَ الأمرُ الذي يسمَحُ
باستعادة الشِّعر أسئلةَ الذات والوجود الأصلية، واستئناف الحداثة بما
هيَ خيانة لكُلِّ استقرارٍ وجُمود ومألوف، واحتفاء بكُلِّ تجاوُزٍ
وتحوُّلٍ واختلاف.
ولا يعني هذا التفسير أنَّني أُروِّجُ هُنا لـ (شعرٍ وجوديٍّ)؛ إذ لا
يوجد شيء اسمُهُ (قصيدة وجودية) و(قصيدة غير وجودية)،
إنَّما يُمكِنُ القول إنَّ كُلَّ قصيدة مُبتكَرة هيَ قصيدة وجودية.
ويتَّضِحُ هذا المنحى أكثَر عندما نعي أنَّ اللُّغة في فهمها الأصيل لم
تعُدْ هُنا والوجود هُناك، فاللُّغَةُ ليست أداة اتصال فحسب، وليست
مُجرَّد وسيلة تعبير تحملُ المفردات والأفكار والمعاني: إنَّها المكان
الذي يكشف فيه العالَمُ عن ذاته، وتتحرَّكُ ضمنَهُ حياةُ الإنسان.
فالتجربِةُ الوقائعية ليست مُستقلة عن اللُّغة، كأنَّها مرآتها، أو
كأنَّ عناصرَ العالَم موضوعات موجودة خارج اللُّغة، ويتمُّ إحضارُها
والتَّحكُّم بها ميتافيزيقيًّا؛ على العكس من ذلك: لقد أصبحَتِ
اللُّغَةُ كينونةَ الإنسان، وأصبَحَ الإنسانُ كينونةً لُغوية، وبات
الوجود في العالَم وجودًا لغويًّا في أصله.
وبهذه الصورة، يُمكِنُ للشِّعر الحديث أن يُعيدَ النَّظَرَ في
مُنطلقاتِهِ الإبستمولوجية، وأن يبدأ بدايةً جديدة تُمَكِّنُهُ من فتح
الشِّعريِّ على مُمكناتِهِ الثَّرَّة، انطلاقًا من تخليص الوجوديِّ من
قُيودِهِ القَبْلية، ودمج حركيَّته في حركية الخَلْق الإبداعيِّ
الشِّعريِّ، ثُمَّ فتح الرُّؤى على المُستقبَل، وهو الأمر الذي يجعلُ
الوجودَ - لِلشِّعر مُحقَّقًا بدءًا من قاعدة أنَّ الشِّعر - لِلوجود.
خامسًا:
الذات بوصفِها دازِنًا، وحركية
التَّخارُج
لقد دَعَتِ الحداثةُ الشِّعرية إلى تحرير الوعي من الأوهام والخرافات
والأساطير، لكنَّها أَخْفَفَتْ إلى حدٍّ بعيد في تحقيق ذلكَ، لأنَّها
استبدَلَتْ بتلكَ القُيود الكابحة قيودًا أخرى، وهيَ المسألةُ التي
تجعَلُ تثويرَ الحداثة قضية مُلِحَّة تبدأُ بخيانة أوهامِها
المُتراكِمة، بهدف الوصول إلى حداثة حُرَّة جديدة تتعيَّنُ بالانتقال
من مدار تحرير الوعي إلى مدار تحرير الوجود!
إنَّ الشِّعر الجديد هو الشِّعر الذي لا يكفُّ عن الكفاح على طريق
التَّخفُّف من تحكُّم الذات بِمُنفتحات عالَمه، مُتحوِّلًا من قصديات
الوعي إلى قصديات الوجود، وناقلًا مركز ثقل الذات من الوعي بوصفِهِ
سُلطة مُسَبَّقة كابحة، إلى الوجود بوصف الإنسان موجودًا في العالَم
بطبيعته، ومفتوحًا بأصله على المُمكنات المُحتمَلَة بما هيَ ظواهر
يكشفُها الوجود الذي يتَّجهُ إليه، فتنبسِطُ فعاليّاتُهُ أمامَهُ،
وبأساليب وكيفيَّات مُتعدِّدة ومُتنوِّعة في عالَم الخبرة المعيشة.
وأريدُ بهذا التأويل أنْ أحتفيَ بدلالتيْن جوهريتيْن؛ أوَّلهما
تتعلَّقُ بفكرة أنَّ وجود الإنسان خارج ذاته، وتحطيمه الدَّؤوب لوهم
المُجاوَرة بينَ كائن يُسمَّى الموجود البشريَّ، وفضاء آخَر يُسمَّى
العالَم، يسمَحُ لقصدية الوجود أن تنقُلَ مفهوم الذات إلى مفهوم أوسع
أصطلح عليه بـِ (الدَّازِن) المأخوذ من مُصطلَح
Dasein
الألمانيِّ، والذي أشتقُّهُ عربيًّا على وزن
(فاعل)؛ وهوَ يعني وجود الموجود البشريِّ في العالَم بما هو وجودٌ
يُجاوِزُ ثنائية الحداثة الشِّعرية الميتافيزيقية (ذات – موضوع)،
ويُفَسِّرُ القصيدة بناءً على ذلكَ بوصفها أوَّلًا وأخيرًا وجودًا
وكينونة.
وترتبطُ الدلالةُ الجوهرية الثانية بما اصطلحتُ عليه بمصطلح
)التَّخارُج(
على وزن
)تفاعُل(؛
والتَّخارُج مُشْتَقٌ من الخارج؛ أي المعروض في الخارج، والذاتية
تستمدُّ ماهيَّتَها من كونها (دازِنًا(
موجودًا ومُنكشِفًا في العالَم الخارجيِّ، وتخارُجُ
الدَّازِن هو الحركية القصدية التي تبسطُ بها هذهِ (الذاتُ –
الدَّازِنُ) المُتَّجهة - نحوَ - العالَم أساليبَ وجودها المختلفة فيه،
إذ يحدث التَّفاعُل بينَ الذات وعالَمها، لتنبسِطَ بناءً على هذا
التفاعُل أساليبُ وجود الدَّازِن في العالَم.
وهكذا، ينتقلُ (الدَّازِنُ) بمفهوم الذات نحوَ مُجاوَزة النَّظَر إليها
بوصفها ذاتًا إنسانية مُتعالية ومُجرَّدة ومُنفصِلة عن العالَم،
ليُنظَرَ إليها بوصفها هي نفسها أساليب وكيفيات وجودها المُتنوِّعة في
العالَم. وهو الفهم الذي يعني أنَّ (الدَّازِنَ الشَّعريَّ) يبسطُ
أساليبَ وجودٍ جديدة في العالَم الشِّعريِّ ليسَتْ سوى شيء النَّصِّ
غير المحدود، والذي يُعرَّفُ بأنَّهُ ذلكَ الانفتاح المُتعلِّق
بالإمكانيات الجديدة النابعة من قدرة (الدَّازِن الشِّعريِّ) على أن
يقذفَ نفسَهُ خارِجَ ذاته، ويُولِّدَ عالَمًا شعريًا جديدًا يُمثِّلُ
زيادةً في الوجود.
سادسًا:
فَصْمُ (الذَّات - الدَّازِن)
إنَّ التَّمييز الإجرائيَّ بينَ الوجود - في - العالَم الوقائعيِّ،
والوجود - في - عالَم القصيدة، يقود بالضَّرورة إلى تمييزٍ حاسِم -
أُشيرُ إليه بوصفِهِ تمييزًا نظَريًّا فحسب - يفصمُ (الذات - الدَّازِن(
في عملية خَلْق الشِّعر إلى الذات الشَّاعرة
الموجودة في العالَم الوقائعيِّ، والذات الشِّعرية الافتراضية
الموجودة في عالَم القصيدة.
ومعنى هذا أنَّنا أصبحنا أمامَ تأويلٍ جديد لِعملية الخَلْق الإبداعيِّ
للشِّعر يرى أنَّها عملية تخارُجية جدَلية مُتراكبة بين ذاتيْن: ذلكَ
أنَّ الجدَل يقومُ بين قصدية وجود الذات الشَّاعرة - في - العالَم
الوقائعيِّ، وقصدية وجود الذات الشِّعرية الافتراضية - في - عالَم
القصيدة. وهيَ آلية تتمُّ تبعًا لـِ (مُحايَثة وجودية تخارُجية) تُغني
الذات ولا تُفقِرُها أوَّلًا، وتُساعِدُنا ثانيًا في مُحاوَلة فهم تلكَ
المنطقة الإبداعية الكثيفة والغامضة في عملية الخَلْق وتفسيرها،
وتمنَحُنا ثالثًا فرصةً نادرة لِمُعايَشة قوى الانكشاف الإبداعيِّ
بوصفها قوى تتحرَّكُ في مسافة توتُّر تُوَلِّدُ العالَمَ الشِّعريَّ
الجديد، وتفتَحُ القصيدةَ - نحوَ - المجهول.
ولعلَّ هذا التّأويل يُعدِّل جذريًّا عناصر العملية الإبداعية
التَّقليدية للشِّعر، فينقُلنا من ثلاثية (العالَم - الشَّاعر - العمل
اللَغويُّ الشِّعريُّ(،
إلى رُباعية (الذات الشَّاعرة - الوجود اللُّغويُّ في العالَم
الوقائعيِّ - الذات الشِّعرية - الوجود اللُّغويُّ في عالَم القصيدة).
وهو تعديل ينطوي في جوهره على السَّعي إلى مُجاوَزة تحكُّم الذات
الميتافيزيقية بالعمل الشِّعريِّ، بما هو فعلُ طغيانٍ يفرضُ على هذا
العَمَل مُسَبَّقات الذات المركزية؛ إذ يأتي الجدَل التَّخارُجيّ
المُتراكِب هُنا لِيُطيح بسيادة المُطابَقة، ويفتَحَ العالَم الشِّعريّ
على مُمكناتِهِ الثَّرّة، ناقلًا مفهومَ الاستعارة من مُطابَقات علاقات
المُشابَهة الذِّهنية بوصفها تصوُّرات مُنعزلة مُتعالية، إلى فَهْمٍ
عمليٍّ مُغايِر ينظُرُ إليها بوصفها آلية تفاعُلية تقوم على مجالات
تامَّة من التَّجرِبة والفعل والتأثُّر والتأثير، وذلكَ بهدف خَلْق
دلالات جديدة في عالَم القصيدة؛ أي بالانطلاق من تفاعُل الإنسان
المُستمرِّ مع مُحيطه الخارجي، ونشاطه المُرَكَّب والمُتعدِّد ضمنَ هذا
المحيط ، وما ينطوي عليه ذلكَ من تجارب ومُبادَرات وأفعال ورُدود أفعال
تُجَذِّرُ الاستعارةَ في أساليب الوجود المُنبسِطة جدَليًّا بينَ
العالَم الوقائعيِّ والعالَم الشِّعريِّ.
إنَّ الماهية بوصفِها كامنة في وجود الإنسان ذاته، ولا تتعيَّنُ إلا
بعدَ انبساط أساليب وجوده، تتعرَّضُ في عملية فَصم (الذات - الدَّازِن(
إلى تحوُّل جوهريٍّ، فالقصيدةُ تغدو ماهية - فقط -
لأساليب وجود الذَّات الشَّاعرة - في - العالَم الوقائعيِّ، لكنَّ هذه
القصيدة ليست سوى عالَم بسط أساليب وجود الذات الشِّعرية الافتراضية
بما هيَ أساليب وجود تخارُجية مفتوحة - نحوَ - المجهول، ولم تتعيَّن
ماهيَّتُها بعد!
وينقُلُنا هذا الفهمُ الجديد من حالة القصيدة (النِّهاية) بوصفها كانت
ماهية فحسب، إلى حالة القصيدة (البداية الدائمة) بوصفها أساليب وجود
الذات الشِّعرية المُتَّجهة دائمًا - نحوَ - المُجاوَزة والمُستقبَل
والاختلاف، وهو الأمر الذي ينقلُ نظَرية الشِّعر من الحداثة المركزية
ذات الرُّؤى المُقيَّدة والكُشوف الوهمية، إلى الحداثة الحُرَّة
الجديدة ذات الرُّؤى المفتوحة والكشوف غير النِّهائية.
إنَّ الحداثة الحُرَّة الجديدة تُعزِّزُ سمةَ استقلالية النَّصِّ
النِّسبية عن مُؤلِّفه، وعن عالَمه الخارجيِّ، وتسعى بذكاء وحنكة إلى
مُجاوَزة ثُنائية (سُلطة المُؤلِّف - موت المُؤلِّف) بما هيَ ثُنائية
مُؤسَّسة على الفَهم الميتافيزيقيّ لثُنائية (الخارِج / القراءة
السِّياقية(
و)الداخِل
/ القراءة النَّسَقية)!
والمقصودُ بذلكَ أنَّ الحداثة الحُرَّة الجديدة تستطيعُ وفقَ حركية
الخَلْق الشِّعريِّ بينَ الذَّاتيْن، وبما هيَ حركية جدَلية تخارُجية
مُتراكِبة، أنْ تخلِّفَ وراءَها - وبكُلِّ ضميرٍ مُرتاح - تلكَ الرُّؤى
التي كانَتْ تفصلُ اللُّغة عن الوجود، فترى عالَم القصيدة إمَّا
بوصفِهِ فعلًا تعبيريًّا أنجَزَتْهُ ذاتٌ وقائعية واعية ومُتحكمِّة به
(سُلطةُ المُؤلِّف)، أو بوصفِهِ بنية لغوية مُتماسِكة، ومُكتفية
بذاتها، ومُنفصلة عن المُؤلِّف، ومُتعالية على الوجود في العالَم (موتُ
المُؤلِّف)؛ لِتُقدِّم هذه الحداثة الحُرَّة الجديدة اقتراحَها الخاصَّ
الذي يرى عالَم القصيدة بخُصوصيَّتِهِ المُغايِرة، والتي هِيَ مزيج من
مُجاوَزة السِّياقية والنَّسَقية من ناحية، ومن طيِّهما في جدَليَّتها
المُتراكِبة من ناحية ثانية، وذلكَ فيما سأصطلِحُ عليهِ بـِ: عالَم
النِّسْياق الشِّعريّ، والذي هو النَّتيجة الحتمية والجوهرية لعملية
إحلال الدَّازِن التَّخارُجيِّ محلَّ الذات القديمة، ثُمَّ فصمه.
سابعًا:
الماهية بوصفها انفتاحًا - نحوَ -
المجهول
أنْ يكونَ الانفتاحُ الشِّعريُّ تخارُجًا يعني أنْ يكونَ دائمًا (نحو)؛
و(نحوَ) تعني مُجاوَزة مُستمرَّة لِكُلِّ ثَباتٍ أو انغلاق!
وينبعُ هذا الفَهم من تجذُّر وجود (الذات – الدَّازِن) في الزَّمانية؛
وهو الأمرُ الذي يعني أنَّهُ من المُستحيل أنْ يتأسَّسَ الكائنُ على
قاعدةٍ ثابتة أو أصلٍ خالص، ذلكَ لأنَّ الزَّمنَ عاملُ عدَمِ تشابُهٍ
وابتعادٍ واختلافٍ يحملُ معهُ تهديدًا دائمًا للهُوِية، ولهذا ينحو
الكائنُ قُدُمًا صوبَ التَّعدُّد والتَّبعثرُ والانفصال، وتغدو
هُوِيَّتُهُ في استحالة كونِهِ (هوَ)
دومًا بلا تبدُّل أو تحوَّل أو تقلُّب، أو في استحالة التَّماهي معَ
ذاتِهِ وصورتِهِ في ماهية جوهرية ثابتة، فهوَ في حالة (قذف) مُتواصِل
إلى الأمام، واتّجاههُ - نحوَ - زمانية المُستقبَل هو اتِّجاه من أجل
ما لَمْ يوجَد بعد، كأنَّهُ يعدو دائمًا أمامَ ذاتِهِ. فالذاتُ -
الدَّازِنُ لا يكتمِلُ وجودُها في العالَم الشِّعريِّ؛ إنَّما يبقى على
الدَّوام بحثًا عن تحقيق كمال الكينونة التي هيَ ليست سوى مُجرَّد
إمكانية تنبسِطُ بوصفها ماهية مفتوحة - نحوَ - المُستقبَل؛ أي بوصفِها
مُحصِّلة الحركية الجدَلية التَّخارُجية المُتراكِبة بما هيَ حركية
تبعثُر وتشظٍّ واختلاف – نحوَ - المجهول.
إنَّ فصمَ (الذات - الدَّازِن(
ليسَ في جوهره سوى إجراء نظريٍّ ضروريٍّ نُعَلِّقُ
به فهمَ القصيدة بوصفها ماهية مُكتمِلة للذات الشَّاعرة الوقائعية،
لنحتفيَ اعتمادًا على حركية الجدَل المُتراكِب بتشتيت هذه الماهية
لحظةَ انفتاح الوجود الشِّعريّ للذات الشِّعرية الافتراضية على مُمكنات
مُتحوِّلة ومُتغيِّرة باستمرار. فالتَّشتيت أو الانتشار هو نقضٌ
لمركزية الذات ووَحدتها، وهو توليد للفوارق ومسافات الاختلاف
بالتَّعدُّد ونفي المحدود والمُغايَرة وعدم التَّشابه وإرجاء المعنى.
ذلكَ أنَّ هذا الإرجاء يعني تكاثُرَ الوجود بطريقة يصعبُ معها على
الذات ضبطُهُ والإمساك به أو السَّيطرة عليه، إلا في ضوء اللَّعِب
الحُرِّ لأساليبهِ بما هي حركية مُستمرَّة تُثير عدم الاستقرار
والثَّبات بوصفها تستجمِعُ المُتناقضات، ثُمَّ تبسطها في الحركية -
نحوَ -؛ أي بوصفها اختلافًا مُتحرِّكًا ديناميكيًّا - نحوَ -
المُستقبَل والمجهول.
لقد أُسِّسَتِ الحداثة الشِّعرية على ميتافيزيقا الحُضور التي تنظر إلى
الرؤيا الحداثِية بوصفها حركية انتقال من الرّاهن المُتحوِّل العابر في
العالَم الوقائعيِّ، إلى الكُلِّيِّ الثابت الدَّائم أو الأبديِّ في
عالَم القصيدة. وهو اعتقادٌ يقوم في خلفيَّته الفلسفية على فَهم الوجود
انطلاقًا من الموجود، وعلى فَهم المجهول انطلاقًا من المعلوم، وعلى
الاعتقاد أنَّ الماهية تسبقُ الوجود.
لكنَّ حداثتَنا الحُرَّة الجديدة تقلبُ هذه الآليات، وذلكَ بما هيَ
مُحايَثة وجودية تسعى إلى مُجاوَزة ميتافيزيقا الحُضور اعتمادًا على
حركية الجدَل التَّخارُجيِّ المُتراكِب، فتنطلِقُ من أساليب الوجود في
العالَم لفهم الموجود، ومن المجهول لفهم المعلوم، وذلكَ بوصف المجهول
ليسَ سوى احتمالات افتراضية تمتدُّ بينَ المرئيِّ وغير المرئيِّ، وبينَ
السَّطح البصَريِّ الخارجيِّ والسَّطح البصَريِّ العميق، وتُؤوَّلُ
بناءً عليها أساليبُ وكيفيّاتُ الوجود المُتنوِّعة التي تنبسِط في
عالَم القصيدة، وتسبق الماهية.
إنَّ حركية الجدَل التَّخارُجيِّ المُتراكِب (بينَ الذاتيْن) تُفكِّكُ
التَّمركُز الميتافيزيقيَّ على الموجود بوصفه معلومًا يتمُّ إحضارُه
وتمثُّله والتّحكُّم به وفقَ سُلطة الذات، ثُمَّ يُطلَقُ عليه زيفًا
اسم الوجود، ليكونَ ماهية مُسَبَّقة لهذا الموجود. فتبسطُ حركية الجدَل
أساليبَ الوجود الشعريِّ أمامَنا، وتجعلُ منها مُنطلقًا أوَّلًا لفهم
الموجودات وعالَم الأشياء، وذلك باتِّجاه هذه الأساليب المُستمرِّ -
نحوَ - المجهول، وبوصفِ هذا الاتجاه حركية الماهية التي لا يُمكِنُ
القبض عليها في صورة ثابتة مُطلَقًا. فمعنى أنْ تكونَ الماهية غير
مُتعيِّنة، لكون أساليب وجود (الذَّات – الدَّازِن) المُنفتِحة في
عالَمها الشِّعريِّ أساليب وجودٍ تخارُجية مفتوحة - نحوَ - المجهول،
يعني بطريقةٍ ما، أنَّ هذه الماهية هي بحدِّ ذاتها ذلكَ الانفتاح
المُستمرُّ - نحوَ - المجهول؛ إذ إنَّهُ بعدَ أن تنطوي أساليب وجود
الذات الشَّاعرة الوقائعية في أساليب وجود الذات الشِّعرية الافتراضية،
تغدو الماهية مُطابِقةً لحركية انفتاح أساليب الوجود الشعريِّ
المُتسارِعة بلا هوادة - نحوَ - المجهول.
وبهذه الصورة، تقومُ الحداثةُ الحُرَّة الجديدة على فكرة أنَّ
المُتحوِّل يُفضي دائمًا إلى مُتحوِّل؛ أي إنَّ القصيدة بوصفها عالَمًا
وجوديًّا مُحايِثًا لا تملكُ موقعًا مُتعاليًا كي تُنتِجَ رُؤىً
شُمولية ثابتة ونهائية، إنَّما هيَ فضاءٌ مُتغيِّرٌ ينقلُ مفهومَ
(رُؤية المجهول) في الحداثة من دلالة رُؤية ما هو ثابت وأبديٌّ، إلى
دلالة رُؤية ما هو مُتقلِّب في حركيَّته ومُتحوِّل باستمرار.
ثامنًا:
إشارات خِتامية
يعيشُ الشَّاعرُ الحديث وجودَهُ الشِّعريّ مأخوذًا بالمُستقبَل، وليسَ
هاجِسُ المُستقبَل سوى هاجِس انشقاق واستباق، ولهذا لا يكونُ جوهر
القصيدة في ائتلافها بوصفه جوابًا، إنَّما في اختلافاتها المُتراكِبة
والمُتلاطِمة بوصفها أسئلةً تُوَلِّدُ أسئلة. وهذا ما لم تنجح الحداثةُ
الشِّعرية في الوفاء الدَّائم بمقتضياته، ولاسيما أنَّها خسِرَت
الرُّؤى الكاشفة في معظم الأحيان لصالح سُلطة الذَّات القَبْلية.
وهكذا، يتأسَّسُ وفاءُ الشَّاعر الحداثيِّ الجديد لِلشِّعر بما هو
غنائية الصَّيرورة والتَّحوُّل على ترويض الذات بفصمها الجدَليِّ
المُستمرِّ، والانضواء في حركيَّتها التَّخارُجية المُتراكِبة، وذلكَ
بوصفها تفتتِحُ عالَمًا تعدُّديًّا واختلافيًّا تنبسِطُ فيه الماهية -
نحوَ - المجهول، ليكونَ هذا الشَّاعرُ الحداثيُّ الجديد مُحرِّرَ
المُطابَقات من أوهامِها، وحامِيَ حِمَى المُباعَدات والمُجاوَزات،
وحارسًا أبديًّا لحكمة التَّخارُج، وليوصفَ دائمًا بأنَّهُ ذلكَ
الخائنُ المُحترِفُ الذي يعي كيفَ يُقصِي ذاتَهُ المُتسلِّطة في
العملية الإبداعية، وكيفَ يُطلِقُ ذاتّهُ الحُرَّة المُنغمِسة بذكاءٍ
خلَّاق في الوجود الجَماليِّ - الشِّعريِّ، ومُنفتحاتِهِ الافتراضية
المُغايِرة.
إنَّ انقلاب الحداثة الحُرَّة الجديدة على الحداثة البالية القديمة،
يعني أنْ نُخلِّفَ وراءَنا تلكَ التَّكتيكات القاصِرة، وأنْ نتلقَّفَ
شُروطَ الخَلْق الشِّعريِّ الجديد بوصفها استراتيجيات كينونة
مُستقبلية، تسمَحُ لنا بالاستجابة الغنية لِلتَّحدِّي الوجوديِّ -
الجَماليِّ، وتمنَحُنا تبعًا لحركية الجدَل التّخارُجيِّ المُتراكِب
إمكانيات واسعة لاستئناف الحداثة، وإنقاذ الجَماليِّ المغدور فيها،
بالانتقال من مَجال القصيدة (النِّهاية)، إلى مَجال القصيدة (البداية
الدَّائمة)، مُحقِّقينَ بذلكَ أهمَّ أهداف الحداثة الحُرَّة الجديدة،
وهوَ: السَّعيُ إلى مُجاوَزة الميتافيزيقا؛ على أنْ نعيَ تمامًا أنَّ
هذه المُجاوَزة بوصفِها طُموحًا مشروعًا وضروريًّا، لا تتحقَّقُ بقرارٍ
حاسِم أو بفعلٍ نهائيٍّ، إنَّما هيَ أسلوبُ وجودٍ شعريٍّ، وطريقةُ
فَهمٍ وتأويل، تُبقِي الشاعرَ الجديدَ - في - عالَم الدِّربة
والمُكابَدة والتَّجريب، بما هو عالَمُ البَحث الدَّؤوب والصِّراعُ
الأصيل في الطَّريق التَّخارُجيّ - نحوَ -.
دمشق في تشرين الثاني
2014
*** *** ***