كتموجات حلم بين
النوم واليقظة
(شذرات من أوراق في فضاءات النسيان)
محمد حسن
(تموز)
للأشجار
قلوب ليس لها مثيل في البذل والعطاء، فمن ذا منعته شجرة من قطف ثمارها،
نتاج روحها، وهي تثمر وتزهر وتتعرى وليس لها مطمعٌ في ثناء أو ذمٍّ،
إنها قلب الكوكب النابض، بل حتى إنها تحتضن عيون ناظريها، وهل لنا أن
نجد من نعطيه القليل ليعطينا الكثير، وفي قمة ما وجدته بذلاً كيف لها
أن تمنع شخصًا يقترف السوء وتبادله بالسوء، قد يقوم باقتلاعها بقتلها
وتتقبل الموت بقلب نابض، إنها عنوان الاستمرار والعطاء. تحية إلى أصحاب
القلوب الخضراء!
ودعوة ليكون لنا قلوبًا كقلوب الأشجار محبةً
وعطاءً.
كتلك الأوراق الخضراء أتلوى مع نسيمات ساحرة تراقصني، وحبك يساكنني
كاتصال تلك الأوراق بكلية الشجرة، فأوراق حبي تتصل بجذور مودتك وليست
تلك الأغصان والساق إلاَّ مسافةً مصطنعة تختبئ خلفها حرقة الأشواق
وأبدية اللقاء مخافة العاذلين والحاسدين، أولئك الذين يتوهمون لأنفسهم
ما يدعونه حبًّا بجانب مصطنع ويحاربون أيَّ حبٍّ يلمع نورًا أمامهم،
أُشفق عليهم وأعرف ضعف نفوسهم وهشاشة قلوبهم أمام ضوء الشمس.
في الخريف يقف الشتاء مترددًا في الدخول، يروعه مشهد الأوراق المتساقطة
على سفوح الدروب كذكرياتٍ هاربة منسية، تتحول الأشياء إلى صبغة القديم
والحزين، يُحدِّثُ نفسه سأعود لن أقوى على احتمال تلك التجربة المريرة،
أشعر بعذابات الأشجار وأنين الريح. ثم يلتفت ناظرًا إلى سطح بحيرة ماء
صافية تعكس عمق السماء! ويضع التردد خلفه ماضيًا إلى مصيره بسعادة
وسكينة لأنه يعلم أن في تضحيته ربيعٌ وحياة، ومازال في كل خريف يقف
مترددًا مُحدثًا نفسه ومن ثم يمضي!
تتناثر تلك الأضواء في الأفق القريب البعيد مع ليلٍ فضي ونجوم تفيض
بريقًا وجمالية كرمزٍ عالقٍ في خفايا الأساطير السحرية لا يزداد
المحبون له إلاَّ تعلقًا ورومانسية.
تمنيت ورغبت ومشيت بين ممرات الحقول، كم أعاقتني تلك الأحجار وأجبرتني
على المسير ببطء، لكني لم أجعل نفسي يومًا أتراجع بسببها، لطالما
اقتنعت بأن صعوبة الدرب هي سرُّ العبور، وبأن تلك العوائق لن تجعلني
أتخلى عن ذاتي فمن بعيد تلمع شجرة الزيتون بأوراقها متموجة اللون
الأخضر كتموجات حلم بين النوم واليقظة وتقول اقترب!
في صباحٍ خريفي استيقظت وهرعت كعادتي إلى نافذتي لأحدق إلى سماء بيضاء،
لم أنوي التفكير بأي شيء، كل ما أردته أن أنظر بصمت وأنظر فقط وأتفاعل
بالقلب، أردت أن يغفو عقلي أبديةً ليترك للقلب التعبير عن انسيابيته
عبر أبعاد المشهد بحرية، وبعد أن استسلمت روحي بكليتها للغة الطبيعة
شعرت أنَّ عقلي بدأ يتفتَّح كما تتفتَّح أوراق وردة يغمرها عطر الندى
بعد استراحة ليلة صامتة.
تلك الدروب مشيتها مِرارًا، لم أعتد ملاحظة الدرب وتفاصيله، وإن كان
لديَّ هامش حركة اعتقدته حرية اختيار، لكني لم أكن حُرًّا كنت مسوقًا
لاهثًا وراء ما أظنه هدفي وذلك لم يجعلني أبصر حقيقة الدرب وتفاصيل
الرحلة. اليوم اكتشفت أنَّ تلك الدرب التي قطعتها وعَدتُ فيها وتوهمت
نفسي أعرفها جيدًا، اكتشفت حقيقة أني لم أكن أعرف شيئًا عنها سوى خطوات
قدميَّ وتجنبي لعثراتٍ خبرتها، هدفي البعيد لم يجعلني أرى حقول
اللافندر بتموجاتها وبريق ألوانها تَشعُّ نورًا على طول الدرب، لم ألمح
تلك الشجرة مع نبعتها الهادئة، لم أكن لألحظ خيط النور الذي يهديني عبر
المجهول، كان مسيري عذابًا فغاية الوصول سرقتني حتى من نفسي، واغرورقت
دروبي بدموع الهموم وانعكاسها على مسحة وجهي بوجوم. أمَّا اليوم فإنه
متعة ونزهة. فمهما بَعُدَ طريقي وصعبت رحلتي لن أغلق عينيَّ عن رؤية
تفاصيل الرحلة وجمالية ما يرافقني وراحة روحي عبر فهمها العميق أنَّ
إدراكها لأبعاد اللحظة وتفاعلها مع تناثرات الحب في كل خطوة من خطوات
الدرب هو سر العبور نحو أي قمة على الرغم من يقيني بأني لن أكون
مأخوذًا ببهجة الوصول كما فتنني سحر الطريق.
على تلك الضفاف نُثرت أوراقي، تطايرت.. تبعثرت.. ذهبت مع النسيم..
تأرجحت في الهواء لكنها سقطت على شلال المياه عائمةً كالموت.. تجري مع
تيار الحياة الذي يسوق كُلَّ ما يعترض طريقه دونما إنذار ليصدمك
ويُركِبُكَ موج تياراته، يجبرني على المرور من صخرةٍ إلى صخرة
مُقيِّدًا أطرافي بسرعة تياره ومجمِّدًا أعاصير نفسي ببرودة عواصفه..
تدور دوامَّة الأفكار، تشاهد ما حولها على عَجلٍ مضطرةً للاستغاثة. لكن
في ليل الغرق هل من مجيب؟ هجرتْ طيور الإنقاذ غابة الغرق وتردد صدى
الضمير على جذوع الأشجار الخاوية فعند الحلول في لولبية الرقاد تتسرَّح
الأفكار معلنةً انفصالها عن الجسد هاربةً من الغرق، تبقى حينها فكرتان
متصارعتان إلى الأزل: الأولى هي الصراخ في سبيل الموت! والثانية هي
الصمت في سبيل الخلاص! عندما تتوحد الرؤى ويستقّر اليقين على ثقافة
السْكينة قادرًا على استنباط ملامحَ تبقى في مُستقر الذاكرة بين الفينة
والأخرى في خضم السيل الجارف إلى اللانهاية، مُجرِّدًا يديَّ من ثقل
اللهاث، عَلِّي برفعها أستجمع دقائق الأثير فأسرِّع من حركة المشهد
رافعاً ذراعيَّ إلى السماء أهب نفسي بضعة أنفاس، جامعًا حبات الأفكار
في لحظةٍ من الجمود الكلي وقد توقف المحيط وبدأت ذاتي تتحرك جامدةً! في
صمت عظيم داخلها مستجليةً سُبل خلاصها بنورٍ يتماهى مع الفجر يهيم بها
إلى الأعلى اللاموصوف.
الحنين إلى المستقبل، فهل هناك من جموح نحو المستقبل في غفلةِ الحاضر
وآسية الذكريات، تعبر الأفكار على دروب الربيع مُشرقةً بتهاويل وردة
بعد قسوةٍ عانتها في برودة الشتاء القارس، تسلك الأفكار مسلكين بين خطٍ
مُتصاعد سُرعان ما يهبط وخطٍ مُستقيم يصعب إيجاده، فالنفس تتأرجح
كاهتزاز سطح الماء مرةً بعنف ومرةً بتناغم، لكن السؤال الذي يطرح نفسه
هل هناك اهتزاز متناغم، أقصد بسؤالي هل عندما تضطرب الأفكار بتوافق
ستؤدي إلى القلق الذي يحقق الإرادة ويبعث على النجاح أمْ أنَّ مثلها
كمثل زوابع النفس عندما تثور مُدمرةً صرح أفكار المستقبل مُعلنةً
نقمتها على جميع الرؤى السالفة والحاضرة ليتمعَّن صاحبها بسكون بعد
عاصفةٍ عاتية فيعيد ترتيب أولوياته وتنعاد الكرّة من جديد، فلا يأس مع
الحياة، على الرغم أنه يجب عليه التأقلم مع هذا النمط من الحوارات
النفسية، بتلطيف تلك الكلمة، ليخلق أرضيةً صلبة للثبات، لا أعتقد، فليس
من القوة كبح جماح الفكر عندما يثور، بل هي دورةٌ فصلية، كل إنسان لديه
شتاء أفكار تتعرى خلاله الأفكار من قشورها لتزهر بألوان ناصعة في ربيعه
وتنضج ثمارها في صيفه فيبذل منها ما يريد، أمَّا أوراقه فتشيخ وتتساقط
في خريف الفكر. هذا هو تقلُّب مناخ النفس على وترٍ دقيقٍ أوله آخره
وآخره أوله.
أُشبه الأشجار في كل شيء، سوى أني لن أتخلى عن أوراقي في خريف أصنعه
لأحيا في شتاء بارد.
*** *** ***