لفظٌ يوحِّد،
وعملٌ يبدِّد
أدونيس
-1-
تذهب السياسة العربية في علاقاتها بالسياسات الأميركية-الأوروبية، إلى
مزيد من الخسران والتبعيَّة.
وراء ذلك أسبابٌ كثيرة أهمُّها:
الأوَّل، يبدو العرب «واحدًا» على مستوى اللفظ. لكنَّهم، على مستوى
العمل، يبدون كثرة، ومتنوِّعين إلى درجة التناقض. وليست لهم قضيَّة
واحدة يُجمِعون عليها إجماعًا كاملاً، قولاً وعملاً، ظاهرًا وباطنًا.
اللفظ «يوحِّدهم» والعمل «يبدِّدهم».
وهذه ظاهرة عربية خاصَّة تدفع إلى القول إنَّ مشكلة العرب الكبرى تكمن
في العرب أنفسهم.
الثاني، يخضع العرب للسياسة الأميركية-الأوروبيَّة المنحازة مسبَّقًا،
وعلى نحوٍ كامل لإسرائيل. وهو انحيازٌ ليس فقط لإسرائيل بوصفها دولة،
وإنَّما هي منحازة أيضًا وقبل ذلك، لرؤية إسرائيل التاريخيَّة
والثقافيَّة والسياسيَّة، في كلِّ ما يتعلَّق بالمنطقة العربيَّة. وهي
إجمالاً رؤية استخفافٍ بالعرب، شأنًا ودَوْرًا.
الثالث، ليس العرب في موقع حِوار مع السياسة الأميركيَّة-الأوروبيَّة،
بقدر ما هم، بالأحرى، في موقع حصار.
وفي هذا الحصار تؤسِّس هذه السياسة لنوعٍ جديد من «الاستعمار» -
بأدواتٍ «وطنيّةٍ»، وبأشكالٍ «تحرُّريَّة».
- 2 -
ما الواقع العربيُّ اليوم؟
ربما تقدِّم جوابًا أحوالُ «الربيع العربيِّ» وتقلُّباته، وهو ليس إلا
«فصلاً» بين فصول أخرى ستكون أكثر «ربيعيَّة». فالواقع أنَّ العرب
(والمسلمين بعامَّة) لم يتعلَّموا شيئًا من الدرس الفلسطينيِّ، وها هي
بلدانهم ميدانٌ لحربٍ عالميَّةٍ ثالثة، في مستواهم، وضمن حدودهم،
تدمِّر شعوبهم، وتخرِّب عمرانهم وتشلُّ طاقاتهم. وها هي الولايات
المتَّحدة والدول الأوروبيَّة، تثبت نظريًّا وعمليًّا، أنَّها لا تقف
مع «الشعوب» - حرِّيَّاتٍ وحقوقًا، وإنَّما تقف أساسيًّا مع مصالحها.
ولا يهمُّها إلا تغيير رجال السلطة «العُصاة» برجالٍ آخرين «طيِّعين».
وهي لعبةٌ «صغيرة» تتبدَّد فيها أموالٌ وطاقاتٌ كبيرة، فيزداد الفقر
والجهلُ والتخلُّف، وتزداد المشكلات حِدَّةً وتعقيدًا.
وتُثبِت التجارب أنَّ حاجة العرب تتخطَّى مجرَّد تغيير «رجال الحكم».
العرب في حاجة إلى تغيير «النُّظُم» و«المؤسَّسات» و«القوانين»
و«البُنى» - لكي يمكن التغيير، حضاريًّا، وبناء المجتمع العادل الحديث
والمتقدِّم.
- 3 -
السماء، عندنا نحن العرب، مَثَلٌ شعبيٌّ.
كيف يمكن أن تهبط سماءٌ على مثل هذه الأرض؟
كيف يمكن أن تعلوَ أرضٌ إلى مثل هذه السماء؟
- 4 -
عندما يرى وجه الواقع
يُغريه الوقتُ
لكي يضع على وجهه حجابًا اسمُه اليأس.
- 5 -
ماذا تعني ثورة «الجماعة»،
إذا لم يكن كلُّ فردٍ فيها قد «ثار» أوَّلاً
على نفسه ضدَّ التخلُّف الذي «يختزنه»؟
الجماعات المتخلِّفة لا تُنتِج إلاَّ «ثوراتٍ» متخلِّفة.
- 6 -
كلُّ شيءٍ يولد شِبهَ ميت
في البلدان التي لا تملك حواضِن
معرفيَّةً خلاَّقة.
- 7 -
رأى المطرَ كيف
يستسلم لجسم الغبار.
وبدا له هذا الجسم كأنَّما ليس فيه غيرُ الشِّفاه،
كمثل جسم آرتميس:
ليس فيه غير الأثداء.
- 8 -
لم يعُد جسمُه قادرًا
على استقبال الحبِّ،
إلاّ مغمورًا بأشعَّة الموت.
- 9 -
عندما أخذَت تبكي أحسَّت أنَّ قلبه يوشوشها سائلاً:
«هل تريدين إذًا،
أن أموت غرقًا في الدمع؟»
- 10 -
هوذا، أسمع نشيجًا للشطآن العربيَّة، نشيجًا عميقًا أليمًا، تتلاطم فيه
أيَّامُ العرب كأنَّها جبالٌ عائمة من الثلج.
- 11 -
منذ سقوط بغداد وقيام السلطنة العثمانيَّة،
تحوَّل الدين إلى مجرَّد أداة عنفيَّة لخدمة السلطة.
لا نجد، على سبيل المثل، في تاريخ السلطنة العثمانيَّة كلِّها، على مدى
أكثر من أربعة قرون، مفكِّرًا عربيًّا واحدًا، أو فنَّانًا واحدًا، أو
موسيقيًّا واحدًا، أو شاعرًا واحدًا، أو عالمًا واحدًا.
هكذا كان لا بدَّ من مجيء أتاتورك للأتراك،
ومن أن تبدأ حركة النهوض العربيِّ.
- 12 -
متى تُقيم الرياح حفلاً راقصًا
لكي تحتفي بغبار ما يأتي؟
- 13 -
اسألي ثمارك أيتها الهموم:
متى يحين موسم القطاف؟
وأنتِ أيتها الجبال إلى متى تصمتين؟
ألَن تقولي أخيرًا كيف تخونك الغيوم،
لحظة تنام معك في سرير واحد؟
- 14 -
يبدو أحيانًا أنَّ العقل في العالم
يسقط كمثل تفَّاحةٍ
بلا جاذبية.
- 15 -
في الأشلاء الآلاتِ
وفي الشمسِ العربيَّةِ التي تنهض كلَّ يومٍ أشدَّ اصفرارًا وأكثرَ
ذبولاً،
في الأسلحةِ التي تَتَصَحَّرُ الأرضُ فيها وتحت أقدام حامليها،
في الخطابات التي تخجل منها اللغة،
في هذا كلِّه،
يبدأ تاريخٌ آخر ممَّا قبل التاريخ.
*
رأسُ غزالةٍ
سورياليَّة
لو أُتيح لك أن ترى بطّيخةً تهبط في شكل بيضة من يَدَيْ عادل
عبدالصَّمَد لكَيْ تستقرّ عند قدَمَيْ سلمى حايك، لرأيتَ صورةً للعالم
لا تقدرُ أن تعكسَها الكاميراتُ المُعاصرة، خصوصًا في لحظةِ انشقاقِها
عندما تلامسُها القدمُ اليمنى، وتتبعثرُ أحشاؤها الحُمْر، منقَّطةً
ببزرها الأسود، في حضنٍ دافىءٍ لقناة سان مارتان.
حدَثٌ يسألُك: ما الفرقُ بين اللهو والجدِّ، العبثِ والمعنى، الدَّمِ
والماء. وتكون قد استيقظتَ مُرهَقًا من قراءة الدَّمِ البشريِّ البائس
الذي يسيل يوميًّا على وجهِ الكَوْن، ودون انقطاع.
أو ربَّما يسألك: هل خطر لك، يومًا، أن تعالجَ البكاءَ بالضحك؟ وفي
أيَّة حالةٍ شعرتَ أنَّ الضحكَ شكلٌ آخر للبكاء؟
أو لعلَّه سيوشوِشكَ: المَرئيُّ مُلْتَبِسٌ، واللامرئيُّ جرحٌ غائرٌ،
عميقًا، تحت جِلْدَة الكَوْن.
وعندما تتأمَّلُ جسدَ البطيخة كيف يتشقَّق أحمرَ شهيًّا، وكيف تنزلقُ
منه قطعةٌ بين شفتيْ سلمى، يتأكَّد لك أنَّ الحدَثَ في هذا العالم
يفصلُك عنه، فيما يُقيمُ رابطًا وثيقًا بينك وبينه. وتقولُ: إنَّ واقعَ
العالم ليس واقعيًّا.
كانت قناةُ سان مارتان تكاد، فرَحًا، أن تفرَّ من مائها كمثل سمكةٍ
طائرةٍ بلون البطّيخة. وكان رصيفُ القناة يعانق سماءً نصفُها شمسٌ
ونصفُها غيم. وكانت الأشياء كلَّها، حول القناة، تحتفي بهذا الحدَث -
بالرائحة التي تفوحُ من البطّيخة، بالقشرة الخضراءِ المرقَّطة،
وباللُبِّ الأحمر. وأظنُّ أنَّ أندريه بروتون كان حاضرًا، وسمعتُه يصف
البطّيخة قائلاً: إنَّها رأسُ غزالةٍ سورياليَّة.
*** *** ***
الحياة،
الخميس، 29 مايو/ أيار 2014