كيف يتحول "النموذج الثقافي" إلى سلطة؟
محمد
علاء الدين عبد المولى
قد
يفيد أن نحاول وضع يدنا على المعنى المراد من
كلمة "نموذج" قبل أن نبحث في سلطته في الفكر العربيّ. وأول ما يتبادر
للذهن أن من الوجاهة المعرفية النظر إلى معنى النموذج من خلال اندراج
هذه الكلمة في سياق العبارة نفسها "سلطة النموذج في الفكر العربيِّ"
حتى لا ننداح في تشقيق معانٍ ودلالاتٍ قد يحتاجُ التَّوسُّع فيها إلى
عدد كبير من الصفحات. لذلك فإنَّ وجهة النظر هنا ستقارب معنى النَّموذج
من داخل علاقة المفردة بما يجاورها من قبل ومن بعد من المفردات، لاسيما
وأنَّ العبارة تعطي من تلقاء ذاتها فضاء ممكنًا لترسيم المعنى وفهمه
على نحو محدَّد.
لهذا السبب نغضُّ الطرف في هذه المناقشة، عن وظائف النموذج في حقول
بحثيَّة مختلفة مثل نظرية التعلم بالنمذجة
learning by modeling
أو نظرية التعلم الاجتماعي
social learning theory
أو النمذجة الفيزيائية والرياضية... الخ. لأن النموذج في هذه الوظائف
يحمل معاني ليس من شأننا الغوص فيها وليست في حسباننا. خاصة أن للنموذج
هنا أدوارًا على النقيض مما نرمي إليه من تفكيك سلطة النموذج في نقاشنا
هذا. علمًا أن البحث والتفكير النقدي لا حدود لهما، فحين يرى المرء أن
التعليم مثلاً عن طريق النمذجة قد تحول إلى مجرد تقليد واجترار ولا
إبداع فيه، فسوف يوجه النقد أدواته إلى تلك الطريقة من التعلم.
كما قد يفيد التذكير بأن كلمة نموذج تستخدم أحيانًا بصورة أدبية غير
اصطلاحية على وجه الدقة العلمية، فيقال مثلاً النموذج الشعري العباسي،
أو نموذج الشعر الحديث، أو نموذج كافكا القصصي أو نموذج عبد الرحمن
منيف الروائي... وهكذا. في مثل هذه الحالات أيضًا لا يهمنا الأمر إلا
حين يتخذ الأديب من تلك (النماذج) متَّكًا يسهل تقليده والاعتماد عليه
دون انشغال بإبداع الجديد المختلف.
مشكلة البحث هنا تتلخص في أننا نعاني في ميدان الفكر والمعرفة من
عطالةٍ شبه كاملة، تراكمت عبر مراحل تاريخنا وتراثنا. بحيث صار للفكر
العربيِّ (نموذج)، يقع تحت سلطته، ودلالةُ السُّلطة هنا تعطي معنى
التَّسلُّط والاستبداد والقمع، بطبيعة الحال. سواء أكانت سلطة سياسية
أم فكرية أم رمزية... الخ. وحتى لو كانت السلطة متساهلةً أو متسامحةً
فما ذلك إلا لتأكيد سلطويتها في نهاية المطاف، بدليل أنها هي من يزعم
امتلاك التسامح متى تشاء، وترفضه متى تشاء. وبذلك امتلأ الفكرُ
العربيُّ بحشدٍ منَ الأزمات (الموضوعيَّة أو المصطنعة) والانسدادات.
هذا ما تفصح عنه حركية هذا الفكر في مدوَّناته وآليَّات عمله
والسِّجالات التي انتشرت هنا وهناك، مما لم يعد بحاجة إلى ذكاءِ
لاكتشافه وللبرهنة عليه. ومن جهة أخرى فإن أبرز وجوه أزمات هذا الفكر
وقوعُه - بوعيٍ منه أو بلا وعي – ضحيَّةَ النَّموذج، ولأنَّ الفكر
فاعليَّةٌ عقليَّة ونشاطٌ معرفي وعمليات إدراك وتحليل وتركيب واستدلال
واستنتاج وخلق مفاهيم... أيْ أنَّه (ومع أنه يتجسَّد ويتجلَّى في
النهاية عبر أشخاص ووقائع) ليس شخصًا ولا واقعًا متعيَّنًا، لذلك فإنَّ
النموذج الذي سيحتكم إليه الفكرُ سيكونُ من جنسِهِ، أيْ فكرًا ولكنه
فكرٌ وقدْ تحوَّل إلى نموذج يُحتذى ويُطلب. ولكن الفكر هو من شغلِ
العقلِ البشري في النهاية، صحيحٌ أنَّه ليسَ سلوكًا ماديًا، ولكنْ
بالضّرورة هو نتاجُ بشرٍ يعيشون في لحظة تاريخية ما، أو لحظاتٍ
تاريخيةٍ متجاورةٍ، متسلسلةٍ أو متقطِّعة. إذًا ما السّرُّ وراء تحوّلِ
هذا النّتاج البشريّ المشغول على يد البشر في التّاريخ إلى نموذجٍ ذي
سلطة تتمتع بقوّة التّأثير والهيمنة؟ إنّ كلّ فكرة ينتجها عقل، كلّ
مفهوم يصل إليه إنسانٌ في لحظةٍ من التّاريخ، كلّ تأويل وتفسير ونتيجة،
لا يمكن لكل ذلك، أن يكتسب صفة النّموذج المسيطر المتسلط إلا إذا وُضعَ
قسرًا في سياقٍ غيرِ تاريخيّ مفارقِ لشرط اللّحظة التي نشأ فيها. عندها
سينأى الفكر عن ديار البشر، ليسكن في أعلى علّيّين ويصبح متعاليًا،
مغادرا انتماءَهُ للتاريخيّ خائنًا بُعده البشريّ، متحولاُ إلى نموذج.
وبطبيعة الحال فإنّ كلّ ما هو فوق تاريخيّ متفلّت من الحدود البشريّة
قافز فوق احتمالات الواقع وتقلّباته؛ سيكون نموذجًا مقدّسًا. وعندها
تكتمل للفكر أدوات السّلطة: لقد تنمذجَ الفكرُ وتقدّسَ فلماذا لا
يتسلّط؟ لكن على ماذا يمارسُ سلطتَه؟ إنّه يمارسُ سلطتَه من بابِ
المقدّس، في مجالِ الفكرِ أيضًا. أيْ ينبغي أن يجدَ الحقلَ المناسبَ
ليمارس فيه صلاحيّاته. وهي صلاحيّات مطلقة، وإلاّ فلا معنى لقداستهِ
ولا لسلطتِه. بل إنه بمجرّد أن أصبح النّموذج ذا منشأ ما فوق تاريخيّ
فقد اكتسب صفة الإطلاق. وما هو مطلقٌ لن يسمحَ بالاختلاف معه، ولا
بالشكّ فيه، وسيقاوم ولادةَ أيّ وعيٍ فكريّ يلبَي تطوّر الواقع وحِراكَ
التّاريخ، لأنّ ذلك يتناقضُ مع تعاليه على البشر وتاريخهم ووعيهم
بواقعهم.
يمارس النموذج الثقافي سلطته بآلياتٍ مضمرة غالبًا، يعيد صياغة الوعي
(الزائف) بشكل سحريّ لا يقاوم. مسخّرًا ما فيه من مرتكزات القوة
الرمزية. ولأنه (سلطة) فلا بد له من ممارسة العنف، ولكنْ العنف الرمزي
الذي اشتغل على تحليله وبلورته عالم الاجتماع بيير بورديو
Pierre Bourdieu
لا سيما أن بورديو من موقعه كعالم اجتماع، ركز كثيرا على كيفية تعيّن
هذا العنف في حقل الثقافة الاجتماعية والتربية، بمثابتهما تربة خصيبة
مستدامة لبروز كيفيّاتٍ مختلفة من العنف. ويمكن الاستئناس هنا بكتابه
الشهير (العنف الرمزي) الذي يعرض في مواضع كثيرة منه، طريقة استعمال
النموذج الثقافي للتعسف، بل يصفه بالتعسف الثقافي!
"في تشكيلة اجتماعية معينة، لا يكون النشاط التربوي الشرعي أي المجهّز
بالشرعية الغالبة، شيئا مختلفا عن الفرض التعسفي للنموذج التعسفي
الثقافي الغالب وذلك بوصفه نشاطًا مجهولاً من حيث حقيقته الموضوعية، أي
نشاطًا تربويًا مهيمنًا وفرضا للتعسف الثقافي الغالب".
والحقيقة أن كتابه ذاك موجز نظريّ باهرٌ لنظرية فرض النموذج بعد تحويله
إلى قوّةٍ ثقافية تفرض بالتعسف. وعلى مدار الكتاب يستعمل هذه المفهومات
والاصطلاحات لبناء قوام فكري فلسفي للعنف الرمزي وميادينه التربوية
والاجتماعية. ومما هو لافتٌ بعمق أنه يرى ثمة مسؤولية للمجتمع نفسه في
تغليب نموذج ثقافي ما وهيمنته. من خلال قيام فعاليات هذا المجتمع بـ
(تفويض) المؤسسات بفرض نموذج غالب على الجماعات، يقول – وهذا ما سنراه
مؤكدا عليه في كتاب آخر كما سنرى بعد قليل – :
"لا تتمتّع أية مرجعية (عميل أو مؤسسة)، تقوم بنشاط ثقافي، بالسلطة
الثقافية إلا بصفتها مفوضة من قبل الجماعات أو الطبقات التي توكل إليها
فرض نموذجها الثقافي التعسفي وفق نمط من الفرض يحدده هذا النموذج، أي
بصفتها تمتلكُ بالتفويضِ حقَّ ممارسةِ العنف الرمزي".
إذًا هو عنف يتحقق بوسائل مختلفة من حيث هو يشغّلُ إمكانيات النموذج
المسيطر بمثابته علاماتٍ وقيمًا تدّعي امتلاك الحقائق الثابتة. فكأنه
الدولة الشمولية، لكن بطريقة ثقافية رمزية، وهذا لا يقلّ خطورة عن
العنف المادي والسياسي الذي تجد الدولة المستبدة نفسها فاقدة لنفسها من
غير ممارسته على طول الوقت. بل هي تعتمد على العنف الرمزي لتكريس عنفها
المادي، في علاقة متبادلة ومستمرة. لا يمكن تعميم فكر الدولة الشمولية
الاستبدادية دون مرتكزات نظرية منمذجة تشرعن لها وجودها.
إن العنف الرمزي الذي يقوم عليه النموذج الثقافي، يسعى إلى خلق
(المعنى) المحدد المسبق الصنع. المعنى الذي تجد فيه دولة الاستبداد
متنفسا لها وسندًا. فلا معنى خارج متطلبات هذا النموذج، هو وحده يمتلك
المعنى، ويتحكّم في إنتاجه، وهو وحده يحق له إشاعته وتوطيده في المجتمع
والمؤسسات والأفكار. وهو المعنى الذي ينتجُ أشخاصا بلا معنى! بالضبط
كما تفعل الدولة الشمولية حين تترك أفراد الجماعة المحكومة أفرادا بلا
(ذواتٍ)، وتدفعهم من خلال استراتيجية النفي والعزلة داخل أنفسهم إلى
اضطرار قبول أي معنى تحت وطأة القهر والاستلاب. ولا تفعل الدولة ذلك
بالعنف المادي - الفيزيائي فقط، بل على ما أشرنا إليه قبل قليل من
نموذج ثقافي يتسلل في الأذهان بقوة العنف الرمزيّ السحريّ المسيطر.
يقول بيير بورديو:
"السلطة الرمزية هي سلطة لا مرئية ولا يمكن أن تمارس إلا بتواطؤ أولئك
الذين يأبون الاعتراف بأنهم خاضعون لها بل ويمارسونها"
"إن السلطة الرمزية، من حيث هي قدرة على تكوين المعطى عن طريق العبارات
اللفظية، ومن حيث هي قدرة على الإبانة والإقناع، وإقرار رؤية عن العالم
أو تحويلها، ومن ثمة قدرة على تحويل التأثير في العالم، وبالتالي تحويل
العالم ذاته، قدرة شبه سحرية تمكن من بلوغ ما يعادل ما تمكن منه القوة
(الطبيعية أو الاقتصادية) بفضل قدرتها على التعبئة"
يوازي بورديو كما أسلفنا بين سلطة العنف الرمزي وسلطة العنف المادي،
فالدولة تتعالى على حيثيات الواقع ومقتضيات التاريخ، بفضل ما يهيئه لها
النموذج الثقافي المهيمن من قدرات على امتلاك حِجاجٍ بالإكراه والقوة!
وبهذا فهي لا تخلق فقط أفرادا مستعدين للانصياع قسرًا، بل هم ينتظرون
منها الحضور الكلي ليعلنوا انصياعهم لأن ذلك يوفّر لهم حماية نفسية
كجموع مستلبة، متماهية مع من يستبد بها متلذذة بعسل العبودية...
من أكثر الفعاليات تأثيرا في مثل هذه الحالة من استلاب الجموع وخدرها،
واستعدادها للانصياع، يحضر الدين بكامل نشاطاته وإرثه وقوته وسلطته.
ربما كان الباحث الإسلامي د. محمد عمارة أفضل مثال يمكن استحضاره في
حديثٍ عن امتثال كامل ولا غبار عليه للنموذج الثقافي الإسلامي. فبعد أن
يعرّف (النموذج) بأنه: "هو التصور والمثال، الذي يتحول إلى معيار فارق
ومميز – في النسق الفكري – لمنظومة فكرية أو عقدية أو حضارية أو ثقافية
عن غيرها من المنظومات المتميزة في "النموذج" و"التصور" و"المثال"
يذهب ليوضح كيف أن نموذجه الثقافي المثالي الذي كان الرحم الأساس الذي
ولدت منه كل الأفكار والمفاهيم، إنما هو "الإسلام – كمنظومة عقدية
تكوّن من حولها نسق فكري –"وأنه
الأقدر على "صياغة النموذج الثقافي وصبغه بصبغته أكثر من المنظومات
العقدية والفكرية الأخرى"
نرى أن أي انحياز مطلق لأي نموذج ثقافي والتبشير به على أنه صالح لكل
ظرف ومجتمع، إنما هو شكل واضح من الانغلاق وانسداد الأفق المعرفي. وفي
هذا فعلٌ قصديّ لتحويل أي نموذج – حتى لو كنا نتحدث عن نموذج حداثة –
إلى سلطةٍ تمنع التفكير والتغيير. مما يقف على طرف نقيض مع قوانين
التاريخ وجدله وانقلاباته المستمرة. نحن لا نضمر موقفا إلغائيا من أي
نموذج ثقافي، ومن حق الجماعات البشرية تمثّل نموذج ما تستعين به على
حياتها وتوليد أفكارها وبناء علاقاتها، لكن يجدر بهذه الجماعات
الانتباه إلى أن حركة الحقائق المتغيرة أقوى بما لا يقاس من أي ثبات
وركود. ولا يمكن لهذه الجماعات حتى أن تغني مخيالها الجماعي والجمالي
والديني... إلا بترك النموذج الثقافي الذي تتمثّله، ينفلت نفسه من
قيوده هو ليكسرها ويجترح نمطا آخر يواكب قوانين الزمن التي تطيح بفكرة
ثبات الحقائق وجمودها. يمكننا هنا الوقوف كثيرا عند ما يمكن وصفه
بمانشيت مركزي لنقد الحقيقة، مع ما يرى الفكر الفلسفي الغربي – معبّرا
عنه هنا بمقولة باسكال
Blaise Pascal
– أن "الحقيقة ما قبل جبال البيرينيه
Pyrenees
تعد خطأ فيما بعدها" فكيف نسلّم بثبات حقيقة ما إذا كانت تجتاز جبالا
وجبالا وحدودا لا حصر لها؟ لا شكّ عندها أن ادعاء ثبات الحقيقة هو نوع
من الاستعلاء والعصاب المرضيّ. يفيدنا غوستاف لوبون
Gustave Le Bon
أكثر فأكثر هنا حين قدم أجمل تعبير عن عدم ثبات الحقائق وعن سرعة
تغيرها، حين شبّه الحقائق بأنها مثل صور فوتوغرافية يلتقطها المصور
بشكل متتالٍ، وهو ما يدعى في فن التصوير الحديث بالتقاط الصور في وضع
التتابع
Burst
mode
حيث لا يمكن أن تبقى الصورة هي هي نفسها حتى ولو كان زمنها ثوانيَ
متلاحقة. يقول لوبون في كتابه الشهير (حياة الحقائق): "وتدل الصورة
التي تلتقط، هكذا، على وجه واحد من حركات الحقيقة المطلقة الزائلة
معًا، فهي مطلقة طرفةَ عين، غيرُ صادقة بعد هذه الطرفة، فيجب أن تستبدل
بها صورة أخرى ذات قيمة مطلقة زائلة معًا أيضًا، شأن الصور المتحركة"
إن الحقيقة (المطلقة – الزائلة) معًا في طرفة عين، هي نفسها الحقيقة ما
قبل جبال البيرينيه خطأ ما بعدها. مع اعتبار الخطأ هنا دلالة على أن
هناك حقيقة أخرى مختلفة. واعتمادا على هاتين الفكرتين نصل إلى قناعة
قوية بأنه لا فرصة تاريخية أبدا لثبات أي حقيقة على أنها نموذج ما.
نقول (لا فرصة تاريخية) مما يعني أن من يؤمنون بثبات النموذج إنما هم
يفكرون خارج التاريخ، ويشيعون ثقافة لا تاريخية من خلال تحويل حقائقهم
إلى سلطة.
ثمّةَ وجهٌ آخر لسلطة النّموذج، فطبيعةُ النّموذج تتيح له أنْ يتحوّل
إلى (أسطورةٍ) من نوع ثانٍ، تتملّكُ عقولَ البشرِ وتوحي لهم بدلالات
استيهاميّةٍ ذاتِ طابعٍ ميثولوجيّ حول ظاهرة مقدّسة ما. وبهذا المعنى
فالنّبيّ نموذجٌ مؤسطَرٌ، والإمامُ نموذج مؤسطرٌ، وتفاسير النصوص
المقدسة وشروحها نموذج مؤسطرٌ. والأمثلة عديدة في هذا المضمار. (أصحاب
المقامات والأوّلياء والشعراء والقديسون...الخ) وهي نماذج منحتها
الأسطورة قوّة الرّمز ودشَنتْ لها رؤيا ميثولوجيّة تمعن في إحداث شرخٍ
بين وعيِ الإنسان وواقعه التّاريخيّ، حيث يتحوّل هذا الوعي إلى متلقّ
لما تلهمه هذه القوّة الرّمزيّة ذات الطبيعة الكلّيّانية...
يحتاجُ النّموذج ليتحوَّلَ إلى سلطةٍ مهيمنةٍ إلى قوّة رمزيّة وأن
يكونَ (أصلاً) يفرضُ على اللاحق ان يتبعه بحذافيره ويمشي على هداه
مقلّدًا إيّاه. تتبدى خطورته حين نضع ذلك على محكّ معضلة الحداثة
وتجلياتها في خطابنا الفكري والأدبي والسياسي. فهي حداثة مستعصية على
التكوّن والنموّ نموّا طبيعيا بحكم وطأة تلك السلطة على العقل
والتداول. فالحداثة تتناقض جذريا مع أي نموذج يأخذ صفة السلطة، لأنها
هي في أسها الفلسفي مضادة للنموذج الثابت. ولا تحيل الحداثة في حركتها
إلى ثبوت معيارٍ ما بعينه، أو نسقٍ ثقافيّ يترسّخ في الذهنية
الاجتماعية مما ينعكس على أي نشاط ينطلق من هذه الذهنية. ومسألة
الانفكاك عن السلطات الثقافية المنمذجة باتت أمرا من ركائز الحداثة،
ذلك لأن الحداثة قائمة على النقد والنقض، على الهدم والتجاوز، لا سيما
إذا وضعنا هذا الكلام الفلسفي في سياق الحالة الأوربية التي لم تتضح
فيها علامات الحداثة إلا حين تم نقض ونقد وهدم تلك الإيحاءات المعيارية
للماضي. وهي إيحاءات معيارية ما زالت تتحكم بنا – نحن العرب - في
خطابنا بكل أشكاله ومستوياته. وإذا قيل على أي (أساس) سوف (تبني)
الحداثة بعد أن قامت بفعل الهدم؟ يجيبنا الألماني يورغن هابرماس
Jürgen Habermas
بأن هذا الأساس هو "الواقع الذي يضطر الحداثةَ، ونظرا لافتقار النماذج،
أن تجد توازنها انطلاقا من الانشقاقات التي أحدثتها هي نفسها"
أي أن الحداثة وهي في هدمها لسلطة النموذج والمعيار، تغدو واقفة أمام
ضرورة الخلق والابتكار وجها لوجه من غير نموذج مسبق! بل تتشكل نماذجها
من داخلها، من بنيتها المشيّدة على جدل الهدم والبناء، حتى إن روح
الحداثة تتجلى في أنها قادرة، وهذا لا مهرب منه، على أن تنقد ذاتها
وتهدمها باستمرار كلما وجدت أن خطابها قد تحول إلى نموذج يتسلّط. فكيف
إذا عرضنا ها الكلام على حالتنا العربية العاجزة عن تأسيس أي خطاب
متكامل متّسقٍ متناسق عن الحداثة؟
هذا لا يعني أن نموذج الحداثة في أوربا وعبر تحولاتها ومراحلها
وأزمنتها المختلفة، كان هو الحل السحري، وأنه منزّه! فهذا مجافٍ لمفهوم
الحداثة نفسه. بل إن الحداثة بعد أن أنجزت دورتها التاريخية الكبرى،
وبعد أن صارت (عادةً) أوربية، تمخّض عنها أمراض جعلتها تستدعي العقل
النقدي مرة ثانية وبإلحاح من أجل الاعتراض عليها. وهذا مما بات يعرف
بما بعد الحداثة التي ما هي إلا نقد مستمر وسجال فعال مع الحداثة، إنها
تمارس الكونترول على ذاتها من ذاتها. ففي عصرنا الراهن نصادف أداءً
متسارعًا وبتدهورٍ يوميّ لعددٍ من التقاليد والمظاهر التي باتت تتحكم
بحياة الكائن الحديث نفسه. وقد ساعدت التكنولوجيا المتفوقة في كل ساعة
على تثبيت عدد من الحالات المهيمنة على وقائع الإنسان وتفاصيله أينما
تحرك. قد تفسر (الموضة) ومتطلباتها مثل هذه الحالات، خاصة حين ندرك أن
العقل الأوربي غير مستريح لما يجري باسم الحداثة وما بعدها. فهذا
الفيلسوف زيجمونت باومان
Zygmunt Bauman
يقف بالمرصاد للمآل الذي وجدت الحداثة نفسها فيه، موجها إليها ضربات
انتقادية في الصميم. فبعد أن حققت الحداثة مبناها الصلب، راحت تتشظى
وتسيل عبر مظاهر مائعة يومية، فانتقلت بذلك من (حداثة صلبة) إلى (حداثة
سائلة). ونجد تطابقا بين مفهومه هذا ومفهوم (ما بعد الحداثة). وهي
الحداثة نفسها وقد تفككت وتبعثرت، وفقدت نموذجها، لتتجلى عبر نماذج
تتخلّق من رحم التدمير والتشظي، وسوف نرى في هذا السياق أن ابتكار
النماذج صار له أدوات مختلفة تناسب ثورة العصر الالكترونية والتقنية.
فوجدنا أنفسنا أمام أبطال مشاهير نجوم في كل مجال تغزوه الميديا
Social Media
على مدار الوقت. لتوهم الإنسان الحديث بأنه عثر على ضالته في هذه
النماذج ليسير وراءها ويعتبرها خريطة طريق. يقول في كتابه (الحداثة
السائلة):
"المهم أن النموذج هو ما يتصدر المشهد، ويقبل عليه الناس في الغالب
الأعمّ. والمشاهير الذين لهم رأس مال كافٍ من السلطة يجعل ما يقولون
يستحق الاهتمام حتى قبل أن يتفوهوا به" ويتابع: "إن سلطة الشخص الذي
يشارك الناس قصة حياته، ربما تلفت انتباه المشاهدين إلى النموذج"
يعطينا باومان فضاء جديدا في نقد (سلطة النموذج) و(المعيار) من خلال
فضحه لأمراض الحداثة المصاحبة لها في أزمتها. لكن نحن في حالتنا
العربية بحاجة إلى تراكم هائل جدا حتى نصل إلى المعاناة من (أمراض
الحداثة وما بعدها). فلا يكفي أن نرى في حياتنا أزمات ومشاكل لنحكم على
حداثتنا بأنها مأزومة! بل العكس صحيح، أي إننا في أزمة كبرى لانعدام
الحداثة حتى في أزمتها! وقد يكون مرض التقليد واستعارة حداثة المجتمع
وموديلاته وأنماطه اليومية، جزءا من أزمة انعدام الحداثة لدينا. لأن
هذه الموديلات تسبب المزيد من التشقق الداخلي في الروح، وتصيب الكائن
بدوارٍ لا يعرف أين يقف. بصورة أوضح لنا أن نقول: استعباد النموذج لنا
حرمنا من التمتّع بأمراض الحداثة الحقيقية القائمة على سياقات متبادلة
بين الهدم والبناء.
في مثل هذه الحالة، نجد أنفسنا وكأننا نتحرك ونعوم (فوق) التاريخ لا
(فيه)! نحمل في منطقنا تصورًا ثابتًا حول كل شيء، متخذين من هذا الثبات
محورًا ندور حوله، ونتوهّم أننا ندور في حركة وتقدم. فالنّموذج يطرح
نفسَه على أنَّهُ نموذجٌ دائريٌّ منغلقٌ مستعصٍ على الانفتاح، يتأبّى
على المساءلة ويحتقر السؤال، الأسئلة بالنّسبةِ له صيغت وطُرحت وأجيبَ
عنها هكذا دفعةً واحدةً ومرّة واحدةً وإلى الأبد. إنّه إيديولوجيا
مطمئنّةٌ راضيةٌ مَرضِيّةٌ مكتفيةٌ بذاتِها لا ينالُها مللٌ ولا
يصيبُها قلق، لأنّها مُحصّنةٌ داخلَ منظومتِها المَحْمِيّة منَ
التأثّرِ بأيّ عاملٍ من عواملِ البشرِ وصفاتِهم، حيث هي تتحرّكُ في
مسارٍ لا يلتقي مع طبيعتهم، مع أنّها تُعطي لذاتها كامل الأحقّيّة
والشّرعية في التّدخّلِ في طبيعتهم، ساعية إلى صياغتِها من فوق...
معَ سلطةِ النّموذج ستسودُ مفرداتُ العصيان والانشقاق والمروق والزندقة
والإلحاد والكفر، في توصيف أي وعي خارج عن سلطة النّموذج. لأنّ هذا
النّموذج يتطلّب موافقة، موالاةً, رضا، قناعةً يقينًا، إيمانًا،
توافقًا، خضوعًا... وهذه هي المفردات المطلوبُ توفّرُها لتدعمَ شرطَ
العلاقة مع النّموذج المتسلّط المطلق. ومع ازدياد المارقين والزنادقة
والملاحدة (بالمعنى المعطى من خارج التّاريخ، أي من طرف السّلطة)
سيزداد النّموذج استبدادًا وتحكّما للدّفاع عن نفسِه ضدّ أيّ تحوّلات
ممكنة. ولكنّ التّاريخ مهما انتابته الغفلة والكسل والاتكال والتسليم
والخضوع، فإنه ذو مسار تراكميّ بالضّرورة، إيجابا وسلبًا، ولا بد أن
يخلق التّراكم وعيًا آخرَ، يعصى وينشقّ، يزحزحُ أركانَ النّموذج،
ضائقًا به وباحتمالاته النهائية المكتملة. هذا الوعيُ الآخرُ سيقوم
برفضِ النّموذج عبر مجموعةِ أدواتٍ تستطيعُ القيامَ بفعل الحفر
والتنقيب في بنية هذا النّموذج، واصلاً إلى شهوةِ تفكيكه وتهشيمِ
مواقعه حتّى يستلّ منه اعترافًا بالضّعفِ والتّسليم، وإعادة ترتيب
اللّعبة ليأخذَ النّموذج موقعه المفضي إلى تركِ فسحة للتاريخ ليمارسَ
هو الآخر صلاحيّاته المُرجَأَةَ.
في الأزمنة الحديثة انفجرَ السّؤال المعرفيّ عربيّا بتأثيراتٍ ووسائل
وأشكال شتّى، وبدأت العلاقة بين النّموذج المطلق (السّيّد)، والوعي
البشري (العبد)، بالتصدع، متمظهرة في حالات صراعٍ وتجاذب فكريّ ومشاريع
ثقافيّة متنوعة تهدف كلها إلى مساءلةِ التّراث العربيّ الفكريّ منه
والسّياسيّ والدينيّ والفلسفيّ، وكان الهدف الأكبر من وراء كل ذلك
بلورة طريقة أو صيغة لينخرط المجتمع العربيّ والثّقافة العربيّة في
الدخول في العصر الحديث وتحقيق نهضة أو حداثة أو ثورة... كيف يدخلُ
المجتمع في عصر حديث وكيف يحقّقُ نهضتَه وثورته، وهو وريث النّماذج
المتسلّطة؟ إنّ المتتبّع المدقّق في معوّقاتِ هذا الفكر الدّاعي
للنّهضة والثّورة والحداثةِ سيجد أنه جُوبهَ بأنماطٍ من سلطات نماذج
فكرية في التّراث لا عدّ لها، حيث وجد هذا الفكر نفسه في مجابهةٍ معها
ما زالت قائمةً بصورةٍ أو بأخرى، وسيجد المدقّق المحايد الموضوعيّ، أنّ
من أبرز هذه النّماذج المهيمنة المتسلّطة المتغلغلةِ في البنيات
العميقة للإنسان العربيّ هو نموذج النصّ المقدس وقد انقلب إلى نسق
ثقافيّ متعال مفارقٍ للتّاريخ ملحقٍ بما فوق، مع أنه كان يأتي كنصّوص
وشذرات متفرّقةٍ ليواكبَ ما يجري تحت وليس فوق، أي أنّه كان تعبيرًا عن
حاجات بشرٍ على أرضِ الواقع، بتقلّباتِ مصالحهم وتغيّرِ أمكنتهم
ووقائعهِم، شارحًا مفسّرا موجّها منظمًا. فكيف أصبح نموذجًا ذا سلطة
مطلقة ومغلقة؟ إنّ هذا النّموذج أصبح ثقافةً فاعلةً في غير مواضعها
متغلغلاً في حقولٍ ليسَ له علاقةٌ بها، وحُكِّم في وقائع ليست من طبيعة
اختصاصِه، وارتبط هذا النّموذج بأشخاصٍ من أرض الواقع هم أيضا ولكنهم
اكتسبوا صفة القداسة لاحتمائهم بضرورات الانسياق وراء النّموذج المقدّس
الأوّل، وأصبح ما يقولونه مقدّسًا كتحصيل حاصل، كما خلّف هذا النّموذج
المقدّس حركاتٍ وتيارات تحترف اغتيال العقل والبشر والحجر، مطمئنة إلى
أنّ ظهرها مسنودٌ بنموذج لا أبهى ولا أقدس. هذا النّموذج من وجهة
النّظر المطروحة هنا يشكّل العائق الأوّل للفكر العربيّ شئنا أم أبينا.
لأنه كفّ عن أن يكون نصّا دينيّا للتعبّد وتلبية حاجات الرّوح
والإيمان، الأمر الذي لا يعترض عليه أحد، ولكن يجب الاعتراض بشدّة لا
هوادة فيها على الكيفيّة الّتي تحوّل فيها هذا النّصّ إلى منتج للثقافة
والمعرفة، يصوغ التاريخ والمستقبلَ ويحدّد معالم الحاضر بدءًا من حدوده
هو، ويجبُ الاعتراض بقوّة على تمفصلِ هذا النصّ في حياة الإنسانِ
ووعيِه.
يصيب الفكر منظومته بشروخٍ استراتيجيةٍ حين لا يرفض الرّبط بين دساتير
جمهوريّاتٍ حديثةٍ، وتعتبر، في لحظة تقنّعِها بالحداثةِ والعلمانيّة،
أنّ الدّينَ هو مصدر التشريع، يكذبُ الفكر العربي ويمعنُ في الكذب حين
لا يرفض ذلك رفضا مطلقًا لا لبس فيه ولا شبهة، لأنّه أمامَ حالةٍ
نموذجيّة ساطعة، لمحاولةٍ هزليّة كوميدية سوداءَ للمواءمةِ بين مفهوم
حديث بحت ومحض، "علمانيّة"، وبين نسق غير تاريخيّ يقف على النّقيض
تمامًا من مفهوم العلمانيّة، المفهوم الذي جاء ليخلّصَ الفكر من
مرجعيّته الدينيّة. ويعيدَ النموذج الديني إلى مكانه الطبيعيّ، عازلا
إياه عن عرش العالم.
لا تريدُ وجهةُ نظرنا أنْ تتعاملَ مع موضوعها الذي تتأمل فيه، من قبيل
المجاملة ومراعاة المشاعر، ففي الفكر والمعرفة لا مراعاة للمشاعر
بالطريقة المائعة التي يقتنع بها مثقفون عرب كثيرون، لأنّ الفكرَ الذي
يريد أن يتصدّى لإنجاز مشروعِه الحديثِ والعقلانيّ والتنويري
والنهضويّ، عليه أن يبادر إلى الانقلاب المعرفيّ نهائيًا على سلطة
النّموذج الثّقافيّ الديني المقدس، وخاصة أنّ هذا النّموذج خلّف حوله
عبر التّاريخ، نظريّاتٍ تسخَرُ من البشر وإرادتهم محوّلاً إياهم إلى
عبادٍ بل عبيدٍ وقطعانِ غنم لها راعٍ، وأراد أن يقنعهم بمتعة العبوديّة
ولذة الخضوع عبر تثبيت الإيمان داخلهم بأنّ الله له مندوبون من طبيعته
على الأرض، تكونُ طاعتهم من طاعته، والعبوديّة لهم تسليمًا بمشيئته.
إنّ هذا النّموذج الثّقافيّ فرّخ نماذجَ فكريّة وثقافيّة موازية له في
شتّى المجالات من السّياسة حتى الاقتصاد والإبداع والنّقد والسياسة.
وأصبح انتقادُ هذه النّماذج من قبلِ وعيٍ مختلفٍ معها، عملاً منْ رِجسِ
الشّيطانِ يجبُ اجتنابُه واجتثاثُه، لأنّهُ يشكل خطرًا لا على النّموذج
الثّقافيّ الدينيّ، بل وبالّدرجة الأوّلى خطرًا على من يتقنَّعُ به
ويختفي أو يتخفّى وراء كرسيّه وصولجانِه المقدّسين. والأخطر من هذا أنه
تمّ ترحيل هذا المقدس من النصّ إلى الشخص السياسي الحاكم، فبات نقده
والاعتراض عليه نوعا من المروق على إجماع الجماعة الدينية! فحلّ الشخص
المقدس محلّ النصّ المقدس. وقد لعبت الأنظمة الاستبدادية على هذه
النقطة واستثمرتها بكل ما فيها.
إنّ واقعَ المجتمع العربيّ لم يعد يتحمَّلُ في أيّ حالٍ منَ الأحوال
المزيدَ من الرّموز المقدّسة، فهو مجتمعٌ ممزّق مشروخٌ منقسمٌ على نفسه
بطريقةٍ عشوائيّة غير قابلة لإعادة البناء بمنطقٍ سليمٍ، لأنّ
انقساماتِه تتمّ نتيجةَ استبداد قوّة الرّمز والنّموذج المؤسطر الذي
دحرجَ المجتمعَ خارج السّياق الطّبيعيّ للتّطوّر والبناء. وتركَه
ممتثلاً للضّياع والانشطار والقلق، يتحرّك بتثاقل بما يشبهُ حركةَ
كائنٍ مُعاقٍ. فلا مشروعُ نهضة اكتمل، ولا مشروع حداثة أُنجز، ولا
هويّةُ دولةٍ حديثةٍ تبلورتْ، ولا وعيٌ بالعالمِ تشكَّلَ، ولا أحلام
صغيرة أو كبيرة تجسّدت. مجتمع مضعضعٌ مرضوضٌ مشوَّشُ الرّؤيا فاقد
للذّاكرةِ التّاريخيّة، يرمّمُ شروخَه ويعالجُ رضوضَه باللّجوء إلى
أنساقٍ ثقافيّة مطلقةٍ يعتبرها وصفاتٍ سحريّة تحقّقُ له الشّفاء
والإيمان والاستقرار. ويتوهّم عبرَها أنه مجتمعٌ ديمقراطيّ علمانيّ
حديثٌ، في الوقت الذي هو عاجز فيه عن التّفكير الحرّ، يتوسّل حلولَ
مشاكله الكبرى من منظومات ميثولوجيّة معوّقة يعطيها شكلَ الواقع، يحيا
في الماضي، يسبحُ في الرّحمِ السّحيقِ من الزّمن، يخشى الانفصالَ عن
الرّحم ليدرأَ عن نفسه مزيدًا من الضّياع والخذلان والشتات...
لقد طرحت خلال قرنٍ عربي من الزمان، (نماذج) مختلفة ومتتالية كمحاولة
للثورة على سلطات نموذجات سابقة، يمكن إحالتها إلى المرجعيات الفكرية
التي تستند إليها، من فكر إسلامي راديكالي، إلى فكر إسلامي تنويري، إلى
فكر قوميّ، أو ليبراليّ... الخ. يقول د. فهمي جدعان: "ومن الضروري أن
أوضح هنا بأن هذه النماذج جميعا – سواء أتعلّق الأمر بالفضاءات العربية
أم بالفضاءات الغربية – لا تملك تجانسا تامًّا في نطاق كل واحد منها.
فحقيقة الأمر أن كل نموذج منها ينطوي في حدوده على أشكال مختلفة لا على
شكل واحد. ليس ثمة نموذج واحد للإسلام، وإنما ثمة نماذج. وقد زعم بعضهم
أنه ليس ثمة إسلام واحد، وإنما هناك "إسلامات"! والأمر نفسه يقال في
شأن العلمانية، إذ هي لا تحتمل معنى واحدا، وإنما هي ذات معانٍ أو وجوه
عديدة. وكذلك الحال في شأن الليبرالية، إذ ثمة ليبراليات لا ليبرالية
واحدة"
يطرح د. جدعان المشكلةَ هنا وهو في صدد نقد وتفكيك مفهوم (الخلاص) ذي
المرجعية الدينية والميثولوجية، فيتوقف عند النماذج تلك التي دخلتْ
ميدان النقاش والسجال العربي على أنها تمثل ذلك الخلاص وحدها. وكأنها
تتشبّه بمقولة (الفرقة الناجية). يرفض د. جدعان سيادة نموذج بعينه،
ويرفض بصورة قاطعة وهمَ امتلاك أحقية تمثيل الخلاص، معتبرا كل ذلك
موقفا راديكاليا في أساسه. ويحيلنا على ما يُطرح في المشاريع الفكرية
العربية من فرضيات تتجنب الوقوع في أحادية النموذج، فتقول بأن هناك
إسلامات لا إسلاما واحدا، وليبراليات لا ليبرالية واحدة. وقد يفيد
التأكيد هنا على أنه يقصد بـ (إسلامات لا إسلام واحد)؛ ما أنجزه د. عبد
المجيد الشرفي في مشروع أطلق عليه عنوان (الإسلام واحدًا ومتعدّدًا)،
وهو سلسلة كتب يمكن من استعراض عناوينها للوهلة الأولى معرفة المقاصد
الفكرية التي يهدف إليها المشروع المهمّ. من هذه العناوين مثلا: (إسلام
الفقهاء - إسلام الفلاسفة - إسلام المجددين - إسلام المتصوفة - إسلام
المتكلمين - إسلام الساسة - الإسلام العربي - الإسلام الشعبي - إسلام
عصور الانحطاط)
أي إن هناك (نماذج) لإسلامٍ واحد مفترض، متعدد مع التاريخ. والتعددية
هنا تحددها كيفية قراءة وتأويل الإسلام في كل مرحلة، وبحسب المكان
والجماعة البشرية اللذين يقومان بفعل الفهم والقراءة، فيؤثران بالتالي
على إخراج (الواحد) إلى المتعدد. ويمكن قول الشيء نفسه على مفهوم
الليبرالية كما ورد عنده في المقتبس السابق. ففي فصل خاص بالليبرالية
يقول: "بيد أن الذي يحتم الواقع فرض الإقرار به هو أن الليبرالية
ليبراليات، وأنه لا يجوز إطلاق المصطلح من دون تحديد، لأن طبيعة
المضمون الذي نحمله على المصطلح وحدود هذا المضمون توجه الآخذين به
توجيها حاسمًا في هذه الطريق أو تلك، وأت تكون هذه الطرق متباعدة، بل
متنافرة، بعضها رحيم وبعضها غير رحيم. ذلك أن المصطلح "متشابه"، "حمال
للوجوه"، ومن الضروري على كل من يستخدمه أو ينسب نفسه إليه أن يقول على
الفور أي ليبرالية يعني وأي مضمون"
هو إذًا يمتنع عن الخضوع لسلطة أحادية النموذج كيفما كان اسمه ومعناه،
لأن هذا مستحيل معرفيا وتاريخيا. يسلّمنا د. جدعان هنا مفتاحا أساسيا
في فهم (النموذج). وهو أن كل نموذج يحمل في داخله فشله في إثبات أنه
منسجم بالكلية مع بنيته الداخلية، فهو متفرّع حكمًا إلى ما يشبه
الدوائر أو الظلال حول مركزه ذاته. وبهذه الحالة تنتفي إمكانية أن
ينقلب هذا النموذج إلى سلطة! فالسلطة تقتضي قبضة حديدية متكاملة
بالخطاب حتى تتمكن من الهيمنة والبطش. وهي لا تعترف لا بهوامش ولا
بدوائر، ولا تعترف إلا بمركز واحد. وهذا المفتاح ضروريّ لنسف دعاوى
سيادة أي نموذج ثقافي وحيد بعينه في حياتنا. بل ثمة حلّ عقلانيّ عادل
في رؤية جدعان هذه، حلّ جدير أن يرضي حتى أصحاب الوهم النموذجي
السلطوي. حين يدعوهم للتفكير في أن ما يعتقدونه واحدًا، إنما هو متعدد
متنوع، وهذا في حد ذاته غنى وإثمارٌ للنموذج ومددٌ له كي لا يفقد
صلاحيته في الحياة. فكل نموذج يتوهم أنه سلطة، ستكثر طرقُ نهايته، في
حين أنه لو اعترف بتعدديته الداخلية المحتملة، فسوف يتشظّى ويتحرر
بنفسه من نفسه.
من هنا تسود الآن دعوات لإنشاء نموذج ثقافي عربيّ يكون بديلا ممكنًا
وخلاصا مفترضا من الاختناقات التي غرقت فيها حياتنا على كل صعيد. ومن
حسن الحظّ أن مجمل هذه الدعوات تملك مقاربةً معقولةً للمسألة حين تركز
على ضرورة التخلي عن أحادية النموذج في أي مجال. وتعطي مقترحات حيوية
تساعد على تلمّس انفراجات للأزمة في حال تمّ السعي الجادّ إلى الخروج
منها. من ذلك على سبيل المثال ما جاء في كتاب مشترك في فصل كتبه الباحث
سركيس أبو زيد بعنوان (نموذج ثقافي جديد للغد: علم تعدد أخلاق)، ختمه
بقوله:
"النموذج الأحادي يؤدي إلى الإلغاء وهذا ما نراه في مدارس متناقضة من
مذاهب التكفير إلى النموذج الغربي الأحادي وبالتالي هذه المدارس تُلغي
كل ما هو مختلف عنها. العالم العربي بحاجة إلى نموذج يؤكد على هويته
وتراثه وخصوصيته ويكون بالتالي معاصرًا. لا يستلهم الغرب الرأسمالي
فقط كمركزية لمفاهيمه، بل يسعى إلى إبداع نموذج ثقافي يحاكي كل ثقافات
وحضارات العالم ومنفتح بالتالي على الآخر في الداخل والخارج"... "لذلك
النموذجُ الثقافي الجديد تعدّدي بذاته وطبيعته، وهو علمي يستوعب الفكرة
الدينية وما تعنيه من قيم وأخلاق بالإضافة إلى التزامه بمعطيات الحداثة
والتطور على أنواعها"... "النموذج الثقافي الجديد يتجه نحو الغد وهو
يتجاوز النموذج الثقافي الواحد الأحد الذي يؤدي تطبيقه إلى إلغاء الآخر
المختلف مما يؤدي إلى منطق التكفير والإعدام كما يؤسس إلى ديكتاتورية
تفرض منطقها بشكل تعسفي"
في مشهدنا الثّقافيّ المتوتّر والموتور عربيّا وإسلاميًّا، يسودُ وعيٌ
يتبنّى ثقافةَ الإلغاء، ببعديه الرّمزيّ والماديّ، بسببٍ من هيمنة سلطة
ذلك النّموذج، فالجميع يغتالُ الجميعَ، معتمدًا على مبرّراتٍ ثقافيّة
ورمزيّة وإيمانيّة مسحوبةٍ حرفيّا من نصّها المقدس. ولن تزول هذه الحال
مالمْ يضع الفكرُ كلّ شيءٍ، كلَّ مفهوم، كلَّ نصّ مقدّس، كلَّ خليفةٍ
وأميرٍ ورئيس، موضعَ السّؤالِ المعرفيّ المحض، موضعَ الفحصِ المنطقيّ
المجرّد منْ كلّ هوىً وعقيدةٍ، مالمْ يصبحْ كلّ هؤلاء موضوعًا ملتصقًا
بالتّراب لا بالسّماءِ، بعالم الشّهود لا عالمِ الغيب. مالم يصبحْ كلّ
شيءٍ مادّةً لنقدٍ تاريخيّ بدءًا من المجردات المقدسة وانتهاءً
بممثّليها على الأرضِ من أشخاص وثقافاتٍ ونظريّات وقوميّاتٍ وأحزاب.
حتى يكفّ الغيب (كسلطة نموذجية) عن رسمِ سياسات البشرِ، ويكف عن التدخل
في تكوين دولهم ودساتيرهم واقتصادهم، مكتفيًا برمزيّته المعنويّة
والأخلاقيّةِ الرّوحيّة، جالسا في مملكته الخاصة، تاركًا شأن العالم
للعالم، وأنْ يسحبَ الغطاءَ عمّنْ يحتجّ به وبمشيئته في قتلِ الفكرِ
والإنسانِ. عندها سيتمكّن الفكرُ من تحديدِ ماهيّةِ المجتمعِ الحديث،
مجتمعِ العلمانيّة والعقلانيّة والقانون. عندها سيمارس من شاء إيمانه
وعباداته وطقوسه الشّعائرية والرّمزيّة دون أن يكون هذا عائقًا أمام
طبيعة المفهومات التي لا تمتّ بأدنى صلةٍ لا لعبادة ولا لخالقِ العباد.
ممكنٌ عندَ تفكيكِ النّموذج أن تولدَ الأسئلةُ الوجوديّة الحقيقية، أن
يقوم العقل بإنجاز حداثاته المتولّدة بعضها من بعض، متنبّهًا إلى ضرورة
عدمِ الوقوع في فخّ ما تحرَّرَ منه. أي لا يجوز أنْ تصبحَ الحداثةُ هي
الأخرى نموذجًا يحلّ مكان نموذج، لأن ذلك تقزيمٌ لطبيعةِ إنجاز الحداثة
وتحويل لها إلى فعلٍ كيديّ، والتّاريخ لا يُبنى بكيديّاتٍ وأهواءَ
انتقاميّة. ثم إن طبيعة مفهوم الحداثة في معناها الجوهريّ - وعلينا
تكرار هذا دوما والتركيز عليه - قائمةٌ على النّقد المستمرّ لنفسها
وهدم مفهوماتها وإعادة بنائها بما يتوافق ويتناغم مع سيرورة الزّمن
والبشر، ولا يوجد حداثة في العالم إلاّ في الثّقافة العربيّة، تركن إلى
منجزاتها ونتائجها، ذلك لأنّ هذا الفكر تعاطى مع الحداثة كمن يتعاطى مع
النّموذج المقدّس، فانقلبت إلى وصفةٍ سحريّة لعلاج الأمراض الثقافيّة
المزمنة، ولكنها وصفة نهائية ثابتة أي مقدّسة. وهذا في عمقه قراءة
مشحونة بالروح الغيبية المتعالية لمفهوم الحداثة. لقد أراد الفكر
العربيّ أن يتحرّر من سلطة نموذج قائمٍ في تاريخه، لا ليخلقَ بدائله من
قلب مجتمعه وتغيُّرِه وتحوُّلِه، فاستقدم نماذجَ قدّسها هي الأخرى،
وفُرّغت الحداثةُ بهذا من درسها الحقيقيّ وأصبحتْ تزييناتٍ وزخرفاتٍ
على ثوبٍ هو بالأساس يتعارضُ مع طبيعة الحداثة. ذلك لأنّ الذّهن
العربيّ في أعماقه المترسبة لم يتمكّن في مجالات كثيرة من التّحرّر من
تقديس النّموذج، فنقلَ القداسة من نموذج وأسقطها على نموذج آخر، وبقي
يدور في الدّوامة نفسها. إن الفكر عندما يبحث عن مرجعيات نموذجية خارج
التّاريخ سيخونُ مهمته ويشوّش على نفسه. فالغربُ الذي كان الأجدرَ
تاريخيًّا بتحقيق الحداثة، لم يسمحْ لها أن تصبح نموذجًا، بل من غير
المفهوم غربيّا أنْ تكونَ الحداثة نموذجًا، لأنها ليست مرحلةً ينتهي
إليها التّاريخ مستقرّا عليها، فالتّاريخ لا يستقرّ ولا ينتهي. بل على
العكس من ذلك تمامًا، إنّ الحداثةَ حالةٌ مستديمة مستدامةٌ معًا، جاءت
من خلال نقد التّاريخ بما فيه من معرفة وثقافة ولاهوت وإبداع،
وبالتّالي تحتوي الحداثة في داخلها على جميع إمكانيات وظروفِ أن تولد
منها حداثة ستحمل في داخلها هي الأخرى إمكانياتٍ لحداثةٍ تاليةٍ، هذا
لا يتمّ إلا من خلال دوام مساءلتها لذاتها وتفكيكِها ونقدها بل ونقضها.
فأين المجتمعُ العربيّ من ذلك؟ هذا المجتمع الذي تعامل مع الحداثة
متوهّما أنها نهاية التّاريخ فعلاً، قبل أن تتبلور فكرة نهاية التّاريخ
عند فوكوياما.
الحداثة لا تُنهي تاريخًا، هي مضادّة للنّهاياتِ محتفيةٌ بالبدايات
بشكلٍ مستمرّ. ولهذا قام العرب بتحويل الحداثة إلى نمط نهائي أرادوا له
أن يتنمذجَ ويتأبّد، وليتهم استطاعوا حتى أن يكونوا على مستوى هذا
النمط، بل ظلوا عالقين في اللّحظة الحرجة ممّا قبل الحداثة!
(الحداثة النّموذج) تحولت هي الأخرى إلى نمطٍ قائمٍ في الذّهن فقط،
تجلّى في حداثات أدبية ونقدية نظرية، ليس لها على أرض الواقعِ رصيد لا
اجتماعي ولا اقتصادي ولا سياسي. وكانَ يلزمُها نتاجٌ شعريّ يتحرك بمعزل
عن حداثة غائبة عن الواقع أو المجتمع، شعر يضمر وعيًا دينيّا موروثًا
بالعالَم وبالآخر وبالذات فكان شعرا خارج التّاريخ لأنّ وعيه لا
تاريخيّ بالأساس. في هذا السياق نستذكر ما يقال دائما من أن (قصيدة
النثر) هي قصيدة المستقبل! وأنها هي الحلّ لمشكلات الشعر! بمَ يختلف
هذا الطرح عن شعار الإسلام هو الحلّ؟ هذا يلخص الزمن والوعي في صيغة
إسلامٍ، وذاك يلخص الشعر ووعيه بنموذج واحد ملغيا إمكانية تجاوره مع
نماذج شعرية أخرى. وكأنها نهاية تاريخ بمعنى من المعاني هي الأخرى. كما
كان يلزم هذه (الحداثةَ النّموذج) نقاد يضمرون الوحدانيّة والإطلاقيّة
عثروا على ضالّتهم البديلة في مناهج نقديّة أحاديّة استمسك كلّ منهم
بمنهج معتبرا إياه، كاعتبار الكثيرين لنموذج منهج نقدي ما، هو الوحيد
الذي يمكنه فهم الظاهرة الأدبية، فلم يختلف بهذا عن طرح أي مسألة
بصيغةِ راديكالية أصوليّةِ، طريقةً تحتوي الحقائقَ كلَّها، مصمّما أن
قراءته هي أنجح القراءات وأصوبها، وكل ما يخرج عن مسارها قراءة باطلةً
غيرَ صحيحة، أيْ كافرة بتلك الصيغة الأصولية. معتقدا أنه امتلك
النَّسقَ المتكامل والشمولي، وهو نسقٌ غيرُ موجود إلا في قرارةِ الوعي
الدينيّ البحتِ، العائمِ خارجَ الواقعِ وتنوُّعِهِ واحتياجاتِهِ
المتبدّلة. ولا يوجدٌ نسق شموليّ إلا لدى من يخضعُ لسلطةٍ رمزيّة
تتغلغلُ في آليات تفكيره بصورةٍ ماكرةٍ تنتجُ وعيًا زائفًا ماكرًا
بالضّرورة. يقول الشاعر والناقد مصطفى خضر:
"وليستكملِ الشعر حداثته بعيدًا عن الفكر أو قريبًا منه إذ اختزل هذا
الجيل أو ذاك مشروع حداثة عربية إلى محض حداثة شعرية، وليلعبْ هذا
الجيل أو ذاك دور البطل، إن أعجبته اللعبة! ولكن! هل الحداثة هي حداثة
شعر فحسب؟ ومتى يكون الشعر حديثًا إذا تجاهل الفكر، أو إذا كان الشعر
محض لعبة لغوية. ألا يغدو اللعب باللغة لغوًا؟ وهل يؤدي اللغو إلى
إنتاج المفهوم؟ وأي خطاب تقترحه لغة لا تفكر، ولا تنتج ما تفكر فيه،
وتحوله إلى عمل. أليس الخطاب هو النظام الذي ينتجه فعل، فينتج الفعل
أيضًا؟"
يفيدنا كلام مصطفى خضر هذا في ضرورة دفع السؤال النقدي إلى أقصاه حول
معنى الحداثة العربية، وهل لها (معنى) أصلا وهي قد تحولت إلى حداثة
نصوص وحسب؟ لا شك أننا أنتجنا شعرا مهمًّا مثلا، لكن هذا الشعر كان
اجتهادا فنيا ثقافيا جماليا، منفصلا عن واقع ما زال يعيش مرحلة ما قبل
الحداثة. وهذه أزمة كبرى لا نعتقد أن هناك كثيرا مما قاله النقد والفكر
حولها. بل إن هناك هجمة فكرية على تداول وتبنّي مقولات (ما بعد
الحداثة) عربيا، وكأننا أنجزنا حداثتنا وما علينا الآن إلا أن نبحث
ونحفر في مشكلات ما بعد حداثتنا!
نخلص من كل ذلك إلى أن النموذج الثقافي حين يصبح نسقا شموليّا، يتحول
إلى داء عضال لادّعائه احتواءَ ما يستحيل احتواؤه حين يزعم أنّ
"المعرفة" كلها داخله، متماهيًا بذلك مع نمط من الوعي المقدس المهيمن
الممتلك للمعرفة كلها. وبهذا يتيح للسيطرة - التي تتطلب عنفا - أن تكون
هي أداة العلاقة مع الفكر والإبداع. ولا حلّ أمام هذه الحالة، إلا
المزيد من التركيز على هدم النماذج، وتفعيل البدائل من داخل التاريخ،
من داخل احتياجات الواقع المشخّص، من رغبات الإنسان وطموحاته في التغير
واستمرار دورة الحياة بشكلها الطبيعي الحرّ...
نُشرت نسخة أولى من هذه المقالة في عام 2014 بعنوان "الثقافة العربية
وسلطة النموذج"،
وتم تطويرها ونشرها في
مجلة قلمون عام 2020.
*** *** ***
المراجع:
1.
أبو زيد. سركيس، نموذج ثقافي جديد للغد: علم تعدد أخلاق، الكتاب
السنوي: نحو نموذج ثقافي عربي جديد في عالم متحوّل، ط1، (بيروت: مؤسسة
الفكر العربي، 2018)
2.
باومان. زيجمونت: الحداثة السائلة، حجاج أبو جبر (مترجمًا) ط1، (بيروت:
الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2016)
3.
بورديو. بيير، العنف الرمزي، نظير جاهل (مترجمًا)، ط1، (المغرب: المركز
الثقافي العربي، 1994)
4.
بورديو. بيير، الرمز والسلطة، عبد السلام بنعبد العالي (مترجمًا)، ط3،
(المغرب: دار توبقال، 2007)
5.
جدعان. فهمي، في الخلاص النهائي، مقال في وعود النظم الفكرية العربية
المعاصرة، ط 2 (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2012)
6.
خضر. مصطفى، النقد والخطاب، (دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 2001)
7.
عمارة. د. محمد، النموذج الثقافي، ط1، (القاهرة: نهضة مصر للطباعة
والنشر والتوزيع، 1998)
8.
لوبون. غوستاف، حياة الحقائق، عادل زعيتر (مترجمًا) (مصر: منشورات عصير
الكتب،
2019)
9.
هابرماس. يورغن، القول الفلسفي للحداثة، فاطمة الجيوشي (مترجمةً) ط1،
(دمشق: وزارة الثقافة، 1995).