الله بوصفه صديقًا
خياليًّا
حوار مع عالم البيولوجيا البريطاني رتشارد
دوكينز
آخر كتاب صدر
لعالم البيولوجيا البريطاني رتشارد دوكينز هو أعظم مشهد على الأرض:
البرهان على النشوء. وهو كتاب مكتوب بلغة جميلة تشرح فكرة النشوء.
ومن كتبه التي أثارت جدلًا ما يزال مستمرًا حتى الآن في الأوساط
الدينية الغربية هو كتاب وهم الإله الذي شنَّ فيه دوكينز حملة
عنيفة على الدين المنظَّم وحقق أفضل المبيعات في العالم. من كتبه
الأخرى كتاب الجينة الأنانية الذي حقَّق أفضل المبيعات في
العالم الناطق بالإنكليزية، وكذلك صانع الساعات الأعمى. هذا
ويُعتبر دوكينز أول عالم بريطاني أعلن إلحاده على الملء في بريطانيا.
وحقق رتشارد
دوكينز شهرة لنفسه عبر الدفاع عن النشوء ومواجهة ما رأى أنها هجمات
محفِّزة دينيًا على العلم.
***
لورا شيهن: أنت
مهتمٌّ بالتربية، وخاصة التربية العلمية. لو كنتَ قادرًا على تعليم
الجميع، ما الذي تريد من الناس أن يؤمنوا به؟
رتشارد دوكينز:
أريد منهم أن يؤمنوا بكل ما
يقودهم إليه الدليل العلمي؛ أريدهم أن ينظروا إلى الدليل ويحكموا عليه
بحسب موثوقيته، وألا يقبلوا الأمور استنادًا إلى وحي داخلي أو إيمان،
وإنما على أساس الدليل العلمي فقط.
لا يستطيع الجميع أن يقيِّموا الدليل؛ لا نستطيع أن نقيِّم الدليل على
الفيزياء الكوانتية. وهكذا فإن الأمر يحتاج إلى أن نقبل كمية معيَّنة
من الأمور على أساس الثقة. عليَّ أن أثق، مثلًا، بما يقوله علماء
الفيزياء، لأنني عالم بيولوجيا. ولكن للعلم نسقَ تقويمٍ، أو مراجعة،
وهكذا فإنني أثق بجماعة الفيزياء لأنهم يقومون بعمل دقيق أنا أعرفه
جيدًا. أرغب بأن يثق الناس بالدليل، لا بالإيمان، أو الوحي، أو التراث،
أو السلطة.
ل. ش.: ما الذي
تريد أن يعرفه الناس عن النشوء؟
ر. د.:
يحتاجون إلى فهم ما يدور النشوء حوله. إن كثيرين منهم لا يفهمون ذلك.
وقد صُدمتُ حين قال لي زعيمان دينيان في هذه البلاد (الولايات المتحدة)
منذ بضعة أسابيع بأنهما: "سيؤمنان بالنشوء حين يشاهدان قردًا بذيل ينجب
إنسانًا".
هذا جهل كبير حيال ما يدور حوله علم النشوء؛ إذا كانا يعتقدان أن هذا
ما يؤمن به علماء النشوء، فلا عجب أنهما يشككان بالنشوء. كيف يمكن في
بلاد متحضِّرة أن يكون هناك بالغون في مواقع القيادة لا يعرفون سوى
القليل جدًا عن المفهوم البيولوجي الأساسي؟
ل. ش.: قلتَ في
محاضرة ألقيتَها مؤخرًا إن الخطة المنظَّمة كانت البديل الوحيد
للمصادفة، بينما يعتقد كثير من الناس أن النشوء كله يتعلق بالمصادفة
العشوائية.
ر. د.:
هذا سخيف. سخيف جدًا. إن التحوُّل عشوائي بمعنى أنه لا يتوقع ما هناك
حاجة إليه. أما الانتخاب الطبيعي فليس عشوائيًا مطلقًا. إنه سيرورة
موجَّهة، ولكنها ليست موجَّهة من قِبل سلطة أعلى، وإنما بواسطة أية
جينات تحيا وأية جينات لا تحيا. هذه سيرورة غير عشوائية. إن الحيوانات
الأفضل في كل ما تفعله كالصيد والطيران وصيد السمك والسباحة والحفر وفي
أي شيء يفعله هذا النوع، وكذلك الأفراد الذين هم أفضل في هذا، هم الذين
يمررون الجينات. ونظرًا لهذه السيرورة غير العشوائية الأسود جيدة في
الصيد، والظباء جيدة في الهرب من الأسود، والأسماك جيدة جدًا في
السباحة.
ل. ش.: هناك أشخاص
أذكياء اطَّلعوا على العلم والنشوء جيدًا، ولكنهم يمكن أن يختاروا
الإيمان بشيء ما ديني مناقض للعلم. ما الذي تقوله عن هذا.
ر. د.:
من الصعب معرفة الجواب. أعتقد أن هذه خيانة للعلم. أعتقد أن لديهم
أجندة دينية والتي، لأسباب يعرفونها هم بشكل أفضل، يرفعونها فوق العلم.
ل. ش.: ما هي
أفكارك عن اليأس الذي يشعر به بعض الناس حين يفكرون بالانتخاب الطبيعي
والتحول العشوائي؟ إن فكرة النشوء والانتخاب الطبيعي تجعل بعض الناس
يشعرون بأن لا معنى لأي شيء بما فيه حيواتهم الفردية والحياة بعامة.
ر. د.:
إذا كان صحيحًا أن هذا يسبِّب اليأس للناس، فإن هذا فظٌّ. إلا أنه ما
يزال حقيقة. لا يدين لنا الكون بالتعزية أو العزاء؛ لا يدين لنا بمشاعر
إنسانية. إذا كان هذا صحيحًا، فإنَّه صحيح، ومن الأفضل أن تتعايشوا
معه.
على أي حال، لا أعتقد أن الأمر يجب أن يسبِّب كآبة للمرء. لا أشعر
بالكآبة. أشعر بالسموِّ. إن كتابي الذي يحمل عنوان حلُّ نسيج قوس
قزح، هو محاولة لرفع العلم إلى مستوى الشعر ولإظهار كيف يمكن أن
يكون المرء (بطريقة مضحكة) روحيًا حيال العلم. ليس بمعنى فائق للطبيعة،
ولكن هناك ألغاز مشجعة بحاجة للحل. إن التأمل في حجم ووزن الكون، وبعمق
الزمن الجيولوجي، وتعقيد الحياة، يمتلك صفة مُلهمة بالنسبة إلي. إن
دراستي لهذه الأمور تجعل حياتي تستحق أن تُعاش.
ل. ش.: أنت تنتقد
الخطة الذكية، قائلًا إن "الجواب الديني" (الذي يشير إلى الله
كمُصَمِّم غير مقنع على المستوى العميق) مفترضين أنك تعني هذا على
المستوي المنطقي والعلمي.
ر. د.:
نعم، لأنه لا يشرح من أين يأتي المصمِّم. إذا كانوا يشدِّدون على
اللااحتمالية الإحصائية للأعضاء البيولوجية ("إن هذه معقدة، كيف حدث
وتطوَّرت؟") حسنًا، إذا كانت معقَّدة هكذا، كيف تم تصميمها إذًا؟ لأن
المصمِّم يجب أن يكون أكثر تعقيدًا.
ل. ش.: إن كثيرًا
من الناس، على ما يبدو، يجدون أن الجواب الديني مقنع على مستوى آخر. ما
المشكلة التي تراها في ذلك المستوى؟
ر. د.:
أي مستوى آخر؟
ل. ش.: على أي
مستوى حيث يقول الناس إن فكرة الله مقنعة جدًا.
ر. د.:
بالطبع إن هذا يحدث. أليس يكون جميلًا الإيمان بصديق خيالي يصغي إلى
أفكارك، وإلى صلواتك، ويريحك، ويعزِّيك، ويمنحك الحياة بعد الموت،
ويستطيع أن ينصحك؟ بالطبع هذا مقنع، إذا استطعتِ الإيمان به. ولكن من
يريد الإيمان بكذبة؟
ل. ش.: هل الإلحاد
امتداد منطقي للإيمان بالنشوء؟
ر. د.:
لا يمكن الربط بين النشوء والإلحاد بصورة نهائية لأن عددًا كبيرًا من
علماء اللاهوت يؤمن بالنشوء. والواقع أن أي عالم لاهوت محترم من
الكنيسة الكاثوليكية أو الأنجليكانية أو أي كنيسة جديرة بالثقة يؤمن
بالتطور. وعلى نحو مشابه، إن عددًا كبيرًا من علماء النشوء هم متدينون.
إن شعوري الشخصي هو أن فهم النشوء قادني إلى الإلحاد.
ل. ش.: كيف تردُّ
على الذين يقولون إن المظهر الأهم في الكائنات البشرية هو السلوك الذي
لن يعزِّزه الانتخاب الطبيعي؟ أنا أفكر بسلوك على غرار تبني الأطفال
الذين ليسوا أعضاء أسرة، وبالعزوبة الطوعيَّة، أو الأشخاص الذي يقررون
إمضاء حياتهم كلِّها في الصلاة؟
ر. د.:
إن تبني الأطفال الذين ليسوا أطفالك أو أطفال أحد أقربائك مسألة
ضرورية. لماذا يقوم البشر، والأنواع الأخرى، بما هو في ظاهره شيء خاطئ
من وجهة نظر جينة أنانية؟ إن طيور الوقواق تعزف على هذا الوتر وتهندس
الأمر بحيث أن أنواعًا أخرى تتبنى وتربِّي فراخها. هذا خطأ يرتكبه
الوالدان المربيَّان، اللذان "أُجبرا" على تبني الوقواق.
إن هذا تماثلًا بريًا مع تبني الأطفال، وفي هذه الحالة ليسوا من نوعك.
بالمناسبة، أكره أن يُعدَّ ما أقوله هنا إيحاء بأن الوالدين اللذين
يقومان بالتبنِّي لا يحبان الأطفال المُتَبَنِّين؛ بالطبع يشعران بالحب
نحوهما. ولكن يمكن أن نفكِّر بالأمر كنوع من الخطأ الجيني، أي أن
البالغين من البشر يمتلكون غرائز أبوية قوية تجعلهم يتوقون إلى طفل.
إذا لم يكن بوسعهم الحصول على طفل خاص بهم، يمكن أن يشبعوا غرائز
الأبوة عبر تبني طفل.
بالطريقة نفسها، لدينا غرائز جنسية؛ نتوق إلى ممارسة الجنس ولا يهم إن
استخدمنا موانع الحمل. وهذا يعني فصل الوظيفة الطبيعية للجنس، والتي هي
التكاثر. ولكن ما نزال نستمتع بالجنس بالطريقة نفسها التي نستمتع بها
بكوننا والدين حتى ولو لم يكن الطفل الذي نعتني به طفلنا.
ل. ش.: قلتَ: "لا
تُسمّوا جهلنا الحالي إلهًا". وقلت إن هذا ما يفعله المدافعون الحاليون
عن التخطيط الذكي. إنهم يحتلُّون مجالًا نجهله ويسمُّونه الإله. هل
تعتقد بأن العلم سيشرح في النهاية كل شيء نتساءل عنه الآن؟
ر. د.:
لا أعرف الجواب. ولكن يثيرني الطرفان بطريقة ما. أحبُّ فكرة فهم كل شيء
وأحب أيضًا فكرة أن العلم لا ينتهي أبدًا، ذلك أنه بحث مفتوح.
ل. ش.: إذا طُلبَ
منك تسمية المصادر العليا للتفاؤل والأمل في وجهة نظر شاملة للعالم،
فما هي برأيك؟
ر. د.:
أعتقد أن هناك شيئًا عظيمًا في الكون، في تأمل درب التبَّانة، وفي تأمل
حقيقة أن هذه واحدة من بين بليون مجرة فحسب، وفي تأمل حقيقة أنه في
بداية القرن الواحد والعشرين، قطعت البشرية طريقًا طويلًا نحو فهم
الكون الذي نعيش فيه وشكل الحياة الذي نشكل جزءًا منه. أجد هذا فكرة
ملهمة حقًا.
وعلى ما يبدو، هناك أشياء أخرى لا علاقة لها بالعلم: كالموسيقا والشعر
والجنس والحب. هذه هي الأشياء التي تصنع الحياة، التي تستحق أن تُعاش
بالنسبة إلي. أضيفي إلى ذلك حقيقة أن هذه الحياة هي الحياة الوحيدة
التي سنحصل عليها. لا تخدعي نفسك بأنك ستعيشين مرة أخرى بعد الموت، لن
يحدث هذا. عيشي حياتك هذه قدر ما تستطيعين. عيشيها بامتلاء.
ل. ش.: انتقدتَ
فكرة الآخرة. ما الذي تراه كمشكلة في مريض سرطان يؤمن بالحياة بعد
الموت؟
ر. د.:
آه، لا مشكلة على الإطلاق. لن أرغب أبدًا بأن أخدع شخصًا يؤمن بهذا أو
أحرِّره من الوهم. أهتم بما هو حقيقي لنفسي، ولكنني لا أريد أن أتجول
وأقول للناس الخائفين من الموت بأن آمالهم غير حقيقيَّة.
لو كان بوسعي تبادل كلمة مع مفجِّر انتحاري أو خاطف طائرة يعتقد أنه
ذاهب إلى الجنة، فإنني سأحبُّ أن أحرِّره من الوهم. لن أقول له: "ألا
ترى أن ما تفعله خطأ؟" بل سأقول: "لا تتخيَّل لثانية واحدة أنك ذاهب
إلى الجنة. لن تذهب. سوف تنتن في التراب".
ل. ش.: كيف سيكون
شعورك لو أن ابنتك صارت متدينة في المستقبل؟
ر. د.:
سيكون هذا قرارها، وهي شخص مستقل في النهاية، وحرة في فعل ما تشاء.
ولكنني أعتقد أنها أذكى من أن تقوم بذلك، ولكن هذا قرارها في النهاية.
ل. ش.: تحدَّثتَ
عن تحريف رجال الدين للكلمات في الماضي. أي كلمات من كلماتك تم
تحريفها؟
ر. د.:
أينما بدأتُ حجة قائلًا شيئًا يبدو كأنه يعكس إيمانًا بأن الله خلق
المادة، كأن أقول مثلًا إن الانفجار الكمبري هو ظهور مفاجئ للمستحاثات
وكأنه ليس لها تاريخ، فإنني أقول هذا كمقدمة لشرح لماذا.
ولكن هؤلاء الأشخاص يقتبسون بشكل انتقائي. وبهذا يبيِّنون غياب الأمانة
لديهم. فهم في الواقع غير مهتمين بالحقيقة، وإنما بالدعاية..
ل. ش.: هل ثمة
عبارة أو عبارتان سمعت أنهما اقتُطعتا مرارًا خارج سياقهما تريد أن
تصحِّحهما؟
ر. د.:
حسنًا، ذكرتُ واحدةً منهما، تتعلَّق بالانفجار الكمبري. هناك عبارة
أخرى شهيرة لدارون يتحدَّث فيها عن العين قائلًا: "أعترف، بكلِّ
حريَّة، أنه من العبث القول بأن الانتخاب الطبيعي قد شكَّل العين، بكل
تجهيزاتها الفريدة". ثم يتابع شرحه للموضوع، ولكنهم لا يقتطفون هذا
أبدًا. إنهم يتوقَّفون هنا فحسب، وهذا يخلو من الأمانة.
أجرت الحوار:
لورا شيهن
الترجمة عن اللغة الإنكليزية:
أسامة إسبر
*** *** ***
شبكة بيليف