نظرة في غاية الأدب

 

إيليا بركات

 

من سفينة العصر... أقذفوا بوشكين ودستوفسكي وتولستوي إلخ...

وقَّع كلٌّ من كروتشينخ وكليبنكوف وبورليوك والأسطورة الشابَّة مايكوفسكي عام1912 بيانًا جاء في مقدِّمته:

نحن وحدنا نمثِّل وجه عصرنا، وكلمات الفن التي نخطُّها هي الصُّور الذي ينفُخ فيه الزَّمن...

وفي زمنٍ أسبق نثر ابن قتيبة:

ولمَّا قضينا مِن مُنى كلَّ حاجةٍ             ومسَّح بالأركانِ من هو ماسِحُ
أخذنا بأطراف الأحاديثِ، بيننا              وسالتْ بأعناقِ المَطيِّ الأباطحُ

مُخرجًا هذه الصورة الأخَّاذة من واحة الشِّعر وربما الأدب، وعلَّته أنها تخلو من المعنى متجاهلًا أو جاهلًا القَصص الفنِّي البديع الذي رسَمهُ "كثير عزَّة" بها.

أن يحمل كلُّ بيت من الشِّعر معنى من المعاني، تلك كانت ولاتزال من مُسلَّمات بعض المُتشددين من نقَّاد العرب فيما يروه أدبًا هادفًا... ذا "مضمون".

لم تكن الرِّواية بمعناها المخطوط المُعاصر تُعرف في حيِّ ابن قتيبة حينها وإلا فماهو حجم المقطع الذي تستوجب قواعد النطَّاسيين أن يحمل "مضمونه" الذَّاتي؛ أهي الرِّواية بكُليَّتها؟ هل هو كل جزء منفرد منها؟

أم أن ناقد "الهجير" سيمزِّق منِّها الصَّفحات التي لا تحمل فكرًا مُستقلاً خاصًّا بها. وهل تنجو القصيدة الحديثة - بعد أن تجاوزت وحدة البيت لتتبنَّى وحدة النَّص - ببُنيتها وموسيقاها وشاعريَّتها وقوامها "المُوحِّد" من مقصِّ هذا الرقيب. هل كان ابن قتيبة لينثُر قول السَّيَّاب:

لا تتركوني يا سُكارى...
للموت جوعًا، بعد موتي ميتة الأحياء عارا
لا تقلقوا... فعمايَ ليس مهابةً لي أو وقارا
لازلتُ أعرف كيف أُرعشُ ضِحكتي خللِ الرداء
إبَّان خلعي "للدراء..."
وكيف أرقص بارتخاء...
وأمسُّ أغطيةَ السَّرير... وأشرئبُّ إلى الوراء
لازلتُ أعرفُ كلَّ ذاكَ، فجرِّبوني يا سُكارى...
من ضاجع العربيَّة السَّمراء لا يلقى خسارة.

وينفي عن هذا البديع صفة الشِّعر لعدم توفُّر [المعنى] ضمن وحدة [المبنى].

نحمد الله أن أمثاله لا يملكون وحْدَهم اليوم قوائم استحقاق اللقب ذو السلطة الشعبية الواسعة. إذًا لافتقدنا قامة أدبية لا تُعوّض كبدر شاكر السَّيَّاب شاعرًا بعد أن فقدناه شابًّا. ولكنَّا حذفنا من ديواننا قصيدةً لم يُقدِّم تاريخ العرب المعروف باعتقادي ما يُدانيها بالقيمة الفنيَّة كقصيدته المسرحيَّة العظيمة "المومس العمياء".

وفي عودة إلى مسرح تجلَّت فيه فلسفات كامو وسارتر وجيرودو... أكثر من بريق يونيسكو، وغموض بنتر، لامعقوليَّة تارديو ومخيِّلة آرثر آداموف، ومن عبقريَّة وجنون جان جينييه؛ نجد أن عصر الخشبة الفرنسيَّة الذَّهبي لم يخلو من (أبناء قُتيبة) أوربيون. حمَّلوا الفكر على ظُهور جِمال الفنِّ، وحملوا وِزرَ ضياع الجَمَال في صحراء فكرهم اليباب.

شخصيَّة لا معنى لها بالمرَّة... شيء من غمغمة بايقاعات.

بهذه العبارة قدَّم توماس ستيرنز إليوت لقصيدته، قصيدة القرن العشرين الأشهر "الأرض اليباب"، تلك الملحمة التي دفعت مسوَّدتها - قبل النشر - شيخ نقَّاد العصر الشاعر الكبير "عزرا باوند" إلى القول:

لقد كتب إليوت قصيدة حريٌّ بمن بقي منَّا بعدها أن يُغلق حانوت الشِّعر.

أولا تترك "الأرض الخراب" حقًّا بعد نهايتها الأوبانيشادية المدوِّية في نفس قارئها "المُرائي" أي معنى؟!!

وإلى القارئ البليد كتب صموئيل بيكيت تقديمًا لدراسة نقديَّة عن العظيم "جيمس جويس":

هاكم سيِّداتي وسادتي، صفحات وصفحات من التعبير المُباشر، فإن لم تفهموها فذلك لأنَّكم أحط من أن تعوها، فأنتم لا ترضون إلا إذا فُصل لكم الشَّكل مع المضمون، فصلًا تامًا حتَّى تستطيعوا فهم أحدهما دون أن تتجشَّموا عناء فهم الآخر، وهذه العمليَّة السَّريعة عمليَّة استخلاص زبدة المعنى وابتلاعها لا تتأتى إلَّا بما يمكن أن أسمِّيه سيلان لعُابكم العقلي... سيلانًا مُستمرًّا غزيرًا.

بيكيت ذاته، من اختار - بخلاف الجميع - الكتابة بلغة أجنبيَّة "الفرنسيَّة" ومن ثمَّ العودة إلى الترجمة هربًا من غواية لُغته "الإنجليزيَّة" الأُم... غواية التضحية بالمعنى طمعًا بالأسلوب. لكنَّه يعود حين لا يعود جودو ليعلن أن ما يهمَّه من مقولة القديس أغسطين: "لا تيأس فقد كُتب الخلاص لأحد اللصَّين، لا تغترّ فقد كُتب الهلاك لأحد اللصين" هو الشكل:

إنَّ شكل الأفكار يهمُّني... حتَّى ولو لم أكن أُومن بها. لهذه العبارة شكل رائع، والشَّكل هو المهم.

وبين تناقضات بيكيت وانتظار المعنى الذي لن يأتي أو أنَّه لن يظهر لنا جميعًا كبطلٍ جماهيري ملوِّحًا للجميع في نهاية العرض.

مهلًا أصدقائي...

ما هو المعنى ومن سيحدد بالضَّبط "المعيار" الفكريَّ لغاية الأدب والفنِّ عمومًا، من سيضع هذا المعيار، وما منهجه في اختياره؟ قال أحدهم: "ذوقي قانون".

ما هذه الثنائيَّة المُضلِلة "بين عبادة الفرد وعبادة الجماعة" كما يقول د. لويس عوض؟ لِمَ يتوجَّبُ علينا الخيار ما بين رطانة خطابةٍ وإنشاءِ وعظ خِلوٍ من الجَمال من جهة، وبين صفيرَ مُتسكِّعٍ لا يلوي على شيء في المقلب الآخر؟! أيُّ شركٍ هذا !!

أليست كلُّ الدروب التي سلكها العقل الجمعي عبر قرون الإبداع والنقد: التجريب والبحث والتَّأمُّل والاستنتاج... القياس والمحاكمة والاستنباط... الفلسفة والمنطق والجنون... الرضى والقبول والكبرياء والرفض... الإيمان والتسليم والشَّك؛ أليست كافية لاتخاذ قرار واضح أو رؤيا موحَّدة فيما يخُصُّ الفنَّ؟ أمْ ما زال علينا الانتظار؟

نحن ننتظر معنانا الذَّاتي. كلٌّ منَّا ينتظر جودو الخاص به.

كلٌّ في سِجنهِ يفكِّر بالمفتاح كلٌّ يؤكِّد سجنًا

بحسب إليوت صاحب القصيدة الشخصيَّة.

الخلاص الإليوتي، الأنجلو سكسوني، المسيحيُّ، الفرديُّ...

الفردي...! ماذا عن بقيَّة الجمهور؟!

هل تقبَّل رفاق النضال الأُمَمي للسَّيَّاب عُروبة مومسه العمياء وفاجعة اغتصابها الأجنبي؟! هل سينتشي قومجيٌ كُردي بفرحٍ غير مَنْطوق لفيض المحبَّة في رسائل إخوان الصَّفا؟! أم أنَّ الأثرياء سيترنَّمون بقصائد "تينشين" و"سيرغيِ يسنين" و"فرغون" بعد خساراتهم حول موائد لاس فيجاس؟!

أيُّ معنى سيتَّفق عليه قرَّاءُ الأدب في كلِّ الأزمان!

أيُّ معنى سيستوي تحت ظلِّه المقدَّس القوميُّ والوطنيُّ والشيوعي... الليبرالي والأرثوذكسي... المُلحد واليهودي... الأطفال والشُّبَّان والعجائز... النِّساء والرِّجال والمُخنَّثون... الفلَّاحون والطُّغاة... الحاخامات والقساوسة والشُّيوخ... الصيَّادون وسماسرة العقار... القادة والقوَّادون... المُحجَّبات المُبصرات والعاهرات البصيرات. ثمَّ ماذا عن الإسلاميين!! هل علينا أن نُلقي بهم جميعًا في عرض اليمِّ... مع تولستوي وصحبه!

الآن نعلم أنَّ آنَّا كرنينا وبنت القبطان والمُقامر والإخوة ... قد أجادو السِّباحة عبر الزَّمن بينما غرقت دعاية الأيديلوجيَّة الشِّعريَّة مع طاقم "الفوتوريزم" في بحرِ معاني المُتأدِّبين البرَّاق.

الآن نعلم أنَّ تولستوي ما زال على قائمة القِراءة لكلِّ مُتحضِّر في هذا العالم بعد عقودٍ طويلةٍ من انتحار الشَّاب فلاديمير المأساوي في باريس عام 1930.

الآن نعلم أنَّ إطلاق اسم فلاديمير مايكوفسكي على ساحة في موسكو ومحطَّة قطارات في بطرس برغ - بعد تراجع حظوة شاعر البلاط... بلاط البلاشفة عند القيصر الماركسي - لن يُغطِّي تردد صدى... صدى دويِّ... دويِّ إطلاق رصاصة في رأسه الموهوب.

دويٌ تردد عبر الدَّوائر الأدبيَّة لعالمنا المُتربِّص.

ونعلم أن أسماء دستوفسكي وبوشكين وغوركي... حفرت عميقًا في والوجدان البشريِّ بينما يضع كاتب هذا المقال المرجع الذي اسعفتهُ به الذَّاكرة مفتوحًا أمامه ليتهجَّا أسماء ثلاثة من الشُّعراء الموقعين على بيان 1912 المعنون "صفعة في وجه الذَّوق العام".

وفي وجه صفعة المتأدِّبين من أتباع مذهب الفنِّ الهادف تلك... لا أجد ردًّا أجمل من صرخات الشَّاعر الفرنسي "تيوفيل غوتييه" الصَّرخات الهستيريَّة النبيلة السَّاحرة والتي تستحق أن تُنقش في دستور الفنِّ الحقيقي الخالص، الفنِّ الذي لا يهتمُّ إلَّا لما هو فنٌّ، والتي أقتطفُ منها:

إننا لم نولد لهذه الحياة... ولا للغنائم والمعارك... لقد ولدنا للإلهام...
للأنغام المُستحبَّة... للصلوات...
... إنني أتنازل بسرور عن حقوقي كفرنسي وكمواطن لأرى لوحة حقيقيَّة لرافئيل
أو امرأة جميلة...
... لا أيها البُله المعتوهون المُنتفحون... ليس الكتاب حِساء ولا الرِّواية حِذاء...
أُقسمُ بجميع مُقدَّسات الماضي والمُستقبل... وبجميع الباباوات... لا ألف مرَّة لا...
... إنني من أولئك الذين يرون أنَّ النَّافلة هي الضَّرورة...
... وإنني أُحب الأشياء والنَّاس بنسبةٍ مُعاكسةٍ للخدماتِ التي يُقدِّمونها

*** *** ***

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني