قراءة في كتاب "مبدأ اللاعنف" للفيلسوف الفرنسي جان-ماري مولِّر*
محمد علي عبد الجليل
في
أوج العنف الذي يجتاح العالَم، صدَرَتْ حديثًا (في 30 أيار/مايو 2014)
عن "مركز مناهضة القتل في العالَم"
“Center for Global
Nonkilling”
[CGNK]
(هونولولو، هاواي، الولايات المتحدة الأمريكية) الترجمةُ الإنكليزيةُ
بعنوان: The
Principle of Nonviolence: A Philosophical Path
[مبدأ اللاعنف: مسار فلسفي] (274 صفحة) لِكتابِ الفيلسوف اللاعنفي
الفرنسي جان-ماري مولِّر
Jean-Marie Muller
المُـعَــنْوَن Le
principe de non-violence. Parcours philosophique
[مبدأ اللاعنف. مسار فلسفي] والصادر عام 1995 عن دار ديسكليه دي برور
Desclée de Brouwer
(328 صفحة) والذي سبق أنْ تُرجِمَ إلى البرتغالية والإيطالية وأعيدَ
نشرُه بالفرنسية عام 1999 عن دار مارابو
Marabout
بعنوان Le principe
de non-violence. Une philosophie de la paix
[مبدأ اللاعنف. فلسفة للسلام].
قام بهذه الترجمة الإنكليزية المترجِمان ريبيكا جيمس (Rebecca
James)
ومايك جيمس (Mike
James)
وقدَّمَ لها البروفسور غلين د. ﭙـــيج (Glenn
D. Paige)
مؤسس ورئيس "مركز مناهضة القتل في العالَم" (CGNK،
http://www.nonkilling.org/)
ومؤلف كتاب
Nonkilling Global Political Science
[علم السياسة واللاعنف الكوني] (2007).
يتألف الكتابُ من خمسة عشر فصلًا:
-
في عالَم من النزاعات؛
-
تفكُّـر في العنف؛
-
اللاعنف كفريضة فلسفية؛
-
الإنسان اللاعنفي في مواجهة الموت؛
-
مبادئ العمل اللاعنفي؛
-
العنف والضرورة؛
-
الدولة كعنف مُـــمَــأْسَس؛
-
اللاعنف كفريضة سياسية؛
-
الحل اللاعنفي للنزاعات؛
-
بدائل لاعنفية للحرب؛
-
العنف واللاعنف في التاريخ بحسب إريك ﭬـــايل؛
-
حوار مع إريك ﭬـــايل؛
-
غاندي، فريضة اللاعنف؛
-
غاندي، صانع اللاعنف؛
-
فُــرَصُ ثقافةٍ لاعنفية.
تُـــعَــدُّ هذه الدراسةُ المتكاملة حصيلةَ ثلاثين سنة من البحث
وتقدِّم اللاعنفَ لأول مرة بكل أبعاده: الأخلاقية والثقافية
والاستراتيجية والسياسية. يطمح المؤلِّفُ من خلالِها إلى تأسيس مفهوم
فلسفي للاعنف. كما يُــعَـــبِّــر فيها عن قناعته بأنَّ النقاش
الحقيقي حول اللاعنف لم يحصل بعدُ وبأنه لا يمكن أنْ يُــفتَح إلَّا
بـ"صراع" فلسفي من شأنه أنْ يتيحَ الطعنَ إلى الأبد في إيديولوجيا
"العنف الضروري والشرعي والمشرِّف".
في هذا الكِتاب، يُحلِّـــلُ المؤلِّفُ ما يسمِّيه بـــ"ثقافة اللاعنف"
و"إيديولوجيا اللاعنف" ويقدِّم نقدًا جذريًا لهذه الثقافة وتلك
الإيديولوجيا. ثم يفتحُ آفاقَ فلسفةٍ وثقافةٍ
لاعُـــنْـــفِـــيـــَّـــتَينِ، ساعيًا من خلال هذا الكِتاب إلى
تحديد أسس اللاعنف ومبادئه. إذْ يقوم المبدأ الأساسي للاعنف، بحسب
مولِّـــر، على رفض أية شرعنة للعنف. ويرى أنَّ إيديولوجيا العنف تمحو
الاختلافاتِ وتُـظهِرُ التشابهاتِ. وبالتالي، لكي نعيشَ بسلام مع بعضنا
البعض، ليس الموضوعُ قَبولَ اختلافاتِنا بقدر ما هو رَفْضُ تشابهاتِنا.
تمجِّد الثقافةُ العنفَ وتحيطه بالهيبة (prestige)
ولكنها هيبةٌ تنطوي على الوهم. إذْ إنَّ الأصل الاشتقاقي اللاتيني
للصفة (prestigieux
[ذو هيبة، ساحر]) يشير إلى ما هو وهمي، مضلِّل، خادع. فالعنف يخدع مَن
يستسلم لسحره وهيبته. ومن أهم مظاهر العنف في ثقافتنا هي موافقتنا على
تصنيع الأسلحة بهدف القتل الجماعي لإخوتنا. حتى إنَّ تصنيع الأسلحة لم
يعد يخزينا ولا يصدمنا، بل لم يعد يفاجئنا. لا بل وصلَ بنا الأمرُ إلى
اختلاق كمٍّ هائل من الذرائع لتبريره. إنَّ إيديولوجيا العنف هي البناء
العقلاني الذي يبرر العنفَ ويَـــحُوْلُ دُونَ رؤيتِه على حقيقته
كفِعلٍ لاإنساني مخزٍ. هدفُ إيديولوجيا العنف هي أنْ تُـــقـــلِّـــلَ
من شأن العنف، أنْ تجعلَه أمرًا عاديًا، شائعًا، أيْ أنْ تجعله مطابقًا
للقانون، بدلًا من أنْ تنبذَه، أيْ بدلًا من أنْ تجعلَه خارجَ القانون.
وبالتالي ينبغي التشكيك بمعارفنا ومعتقداتنا والطعن بها من أجل استعادة
وعينا.
لقد تعوَّدنا أنْ نلقيَ أعمالَ العنف التي ندينها على عاتق الحركات
المتطرِّفة. لكنَّ هذه الحركاتِ المتطرِّفةَ التي نرفضُها لم تكنْ
ممكنةً إلَّا من خلال الأرثوذكسيات [المعتقدات التقليدية، المستقيمة،
الراشدة] التي نَــــقْـــــبَــــلُها. فالمتطرِّف ليس سوى مُناصرٍ
لعقيدة دُفِعَتْ إلى أقصى حدودها. أيْ أنَّ هناك صلةً بين هذه العقيدة
وبين مبرِّرات المتطرفين. وبالتالي فإنَّ المعتقداتِ التقليديةَ
(الأرثوذكسيات) التي يستندون إليها ليست بريئةً من الإساءات والجرائم
التي يرتكبونها. فالحركاتُ المتطرُّفةُ التي نرى آثارَها المدمِّرةَ في
كل مكان ما كانت لتوجَدَ لولا وجودُ الأرثوذكسيات التي يستقون منها
حُجَجَهم. صحيحٌ أنَّ المتطرفين يبالغون، ولكنَّ ما يبالغون به
ويضخِّمونه هو في الحقيقة المبادئ التي تقوم عليها هذه الأرثوذكسياتُ
"المستقيمة". فهذه المعتقداتُ هي التي تقدِّم المادةَ الأوليةَ لمبالغة
المتطرفين وتزوِّدُهم بالأعذار التي يستخدمونها لتبرير تجاوزاتِهم.
إنَّ الأرثوذكسياتِ تَحمِل في داخلها بذورَ التطرف، إذْ بتبريرها
"الاستخدامَ المعقول للعنف" تبرِّر أصلًا تعسُّفَ المتطرفين. لأنَّ
العنف ليس معقولًا بالأساس ويمثِّل بحد ذاته تعسُّفًا. يجب إذًا،
لمكافحة عنف المتطرفين، تعقُّبُ هذا العنف وإخراجُه من مَـكْمنِه الذي
يختبئ فيه داخل هذه الأرثوذكسيات. فجذورُ الأصوليات الدينية تنغرس
عميقًا في عقائد الأديان التي تشرِّع العنفَ. ولكي نكسر منطقَ عنفِ
المتطرفين يجب علينا أنْ نبدأَ بإحداث قطيعة في ثقافتنا مع كل ما
يشرِّع العنفَ ويبجِّله معتبرًا إياه فضيلةَ الإنسان القوي. هذه
القطيعةُ ستكون مؤلمةً لأنه يجب أنْ تحصلَ في العمق. من الصعب طبعًا
أنْ نطعنَ في تقاليدَ أورثونا إياها كتراث مقدَّس. فالذين يدافعون عما
يسمونه "العقيدة السليمة" سيندِّدون بأية قطيعة كهذه باعتبارها بدعةً
وهرطقة ولن تفوتهم فرصةُ صبِّ اللعنات على الكافرين الذين يقومون
بالقطيعة.
يؤكد مولِّـر على أنَّ التقاليدَ التي وَرِثْناها مِن معتقداتٍ
وثقافاتٍ تُخصِّصُ مكانةً كبيرةً ومهمةً للعنف بينما لا تعطي عمليًا
أيةَ مكانة للاعنف حتى إنها تجهل أو تتجاهل اسمه. بالمقابل، تحتوي هذه
التقاليد على مرتكزات يمكننا أنْ نؤسِّسَ عليها حكمةَ اللاعنف. كما
تحمل في داخلها "قِـــيَـــمًا" تعطي كلَّ إنسانٍ كرامةً ورفعةً
وشرفًا.
وبالتالي، يجب على كل فرد منا، إذا أراد أنْ يَخرُجَ من منطق العنف
ويَدخُــلَ في دينامية اللاعنف أنْ يواجهَ فريضةً مزدوجة داخلَ
ثقافتِه: فريضة القطيعة (مع إيديولوجيا العنف) وفريضة الوفاء (للقيم
الإنسانية)[1].
انطلاقًا من المنظور الذي تفتحه هذه الفريضةُ المزدوجة (المتعلقة
بالقطيعة والوفاء) ورغبةً في القيام بعمل كشفي مزدوج عبر بعض النصوص
التي تؤسس ثقافتَنا، أراد جان-ماري مولِّــر أنْ يكتبَ هذا الكتاب.
آيكس-أُن-ﭙروﭬـانس، 20 تموز/يوليو 2014.
*** *** ***
* جان-ماري
مولِّر
Jean-Marie Muller
فيلسوف وناشط لاعنفي فرنسي ومؤسس
"الحركة من أجل بديل لاعنفي
MAN"
ومدير الدراسات في "معهد أبحاث حل النزاعات باللاعنف
IRNC".
وُلِدَ في ﭬـــوزول
Vesoul
في سون العليا [أوت-سون]
Haute-Saône
(فرنسا) بتاريخ 21 تشرين الأول/أكتوبر عام 1939. يُــعَــدُّ
أحدَ أشهرِ فلاسفة اللاعنف. حاصل على الجائزة الدولية للمؤسسة
الهندية "جَـــمنَـــلال باجاج"
Jamnalal Bajaj
لعام 2013 لمساهمته الكبيرة في تنمية ثقافة اللاعنف وتعزيز قيم
غاندي خارج الهند. قدَّمَ له هذه الجائزةَ في مومباي رئيسُ
جمهورية الهند بتاريخ 15 تشرين الثاني/نوفمبر 2013.
تُرجِمَتْ أعمالُه إلى عدة لغات ومنها العربية. وقد تُرجِمَ
إلى العربية من مؤلفاته التالية:
1.
استراتيجية العمل اللاعنفي،
بترجمة ماري طوق، منشورات حركة حقوق الناس، 1999؛
2.
قاموس اللاعنف،
بترجمة محمد علي عبد الجليل، منشورات الهيئة اللبنانية للحقوق
المدنية ببيروت ودار معابر للنشر بدمشق، بدعم من الجمعية
الإسبانية نوﭭـــا
NOVA،
2007؛
3.
اللاعنف في التربية،
بترجمة محمد علي عبد الجليل، منشورات معابر، 2009؛
4.
غاندي المتمرد. ملحمة مسيرة الملح،
بترجمة محمد علي عبد الجليل، منشورات معابر، 2011.