السيرة الذاتية...
من الحدث العادي إلى التحفة الأدبية
منيرة أبي زيد
في
سيرة جان-جاك روسو الذاتية اعترافات، استخدم الكاتب كل التقنيات
الروائية لإعادة إحياء ذكرياته.
هو لا يكتفي بتناول الماضي، إنما يعيد خلقه
من جديد.
يتعرف هذا الكاتب على نفسه بشكل أفضل من خلال كتابة السيرة
الذاتية. وقد
ظهر ذلك في المقتطف التالي حيث يتناول الكاتب السيدة بازيل،
وهي تاجرة شابة عمل لديها. وقد ظلت صورتها ماثلة في خياله أثَّرت فيه
بعد
أربعين سنة. أجَّجت تلك السيدة
الجميلة المشاعر في قلب الكاتب، فعبَّر عن
افتتانه بها
على الطريقة التالية:
في
أحد الأيام، وبعد أن سئمَت من
المحادثات المزعجة مع الوكيل، صعدت إلى غرفتها، فأسرعتُ بإنهاء عملي
في
خلفية الدكان وتبعتها. كانت غرفتها مشقوقة؛ دخلت من دون أن يراني
أحد. كانت
تطرِّز قرب الشباك، وكان أمامها جانب من الغرفة يواجه الباب. لم تكن
تستطيع
أن تراني وأنا أدخل، ولا أن تسمعني بسبب الضجيج الصادر عن العربات
في
الشارع. لطالما كانت تتأنق: في ذلك اليوم كانت حلَّتها فاتنة، وكان
رأسها
منحنيًا قليلاً فبرز بياض رقبتها؛ كان شعرها المرفوع بأناقة مزينًا
بالزهور. كان لدي متسع من الوقت لأتأمل السحر الذي كان يخيِّم على كل
وجهها، وقد أثارني ذلك.
تُطرح من خلال هذا المقتطف إشكالية عرض خصوصيات
حياة الكاتب على القراء. وبالفعل، يجرؤ بعض الكتاب على سرد تفاصيل
حياتهم
العاطفية والجنسية، أما البعض
الآخر فيفضِّل ألا يتطرق إلى تلك المواضيع
بشكل واضح
وصريح.
أما في مذكرات فيما وراء الموت فيسرد الكاتب شاتوبريان أفراحه
في فصل
الخريف:
كل ما
ازداد الفصل كآبةً ازداد ارتباطه بنفسي: إنه زمن الصقيع
الذي يعرقل المواصلات فيعزل سكان الجبال: ينتابني شعور جميل حين
أصبح
نائيًا عن الناس. تكتسب مشاهد الخريف طابعًا معنويًا: تلك الأوراق
التي
تتساقط على غرار سنواتنا، ذلك النور الذي يخفت كذكائنا، ذلك الحب
الذي يبرد
مثل عشقنا، تلك الأنهر التي تتجمد كحياتنا، كلها لها ارتباط خفي
بمصائرنا.
هكذا، يعبِّر الكاتب بشكل رائع عن تفاعله بالطبيعة في فصل الخريف
وكأنها باتت مرآة نفسه. هكذا، يشعر الكاتب وكأن كل ما يراه في مشهد
الخريف
يحاكي نفسه.
الطفل المسخ
في رواية جان-بول سارتر الكلمات، يسرد الكاتب قصة طفولته حتى
عمر
الحادية عشرة. تتجزأ الرواية إلى
قسمين «الكتابة» و«القراءة». بالفعل، كان
لتعلُّم
الكتابة والقراءة أهمية كبيرة في طفولة سارتر. يتناول الكاتب في
الجزء الأول عائلته. فبعد موت والده، يعيش مع والدته في منزل والديها
ويكون
لجدِّه تأثير كبير عليه. يحكي
الكاتب قصة علاقته بالقراءة التي نشأت في
طفولته، إذ
إنه كان يغوص في عالم الأدب، ويلجأ إلى الخيال:
أنا
كلب: أتثاءب، أذرف دموعًا وأشعر بها تسيل. أنا شجرة، تتمسَّك الرياح
بأغصاني
وتهزها بإبهام.
يتمازج الكاتب مع الحيوانات والطبيعة، فيصبح كائنًا
كونيًا. هكذا، روى جان-بول سارتر قصة تبلور خياله الأدبي في طفولته،
هذا
الخيال الذي سمح له أن يصبح
كاتبًا حين بات راشدًا. بالفعل، إنها طفولة
الكاتب
الغنية بالصور والأوهام والحكايات التي شكلت نقطة انطلاق الكتابة.
في القسم الثاني، يسرد الروائي بداياته في الكتابة. وهكذا، باتت مخيلة
جان-بول سارتر غنية بالصور الأدبية، فراح ينتج بدوره صورًا وأصبح
كاتبًا:
سحرني
كائن مدوَّخ، هو غير مرئي: كي أراه علي أن أصفه. أنهي بحيوية
المغامرة التي أسردها، أصحب شخصياتي إلى مكان آخر من الأرض، بشكل
عام تحت
الماء أو تحت الأرض، أجعلهم يواجهون المخاطر: غُوَّاص أو علماء
جيولوجيا
مُبتكرون، يجدون أثرًا للكائن، يتبعونه، وفجأةً يلتقون به. إن ما
يتجلى في
كتاباتي - أخطبوط بعيون من نار، قشريات من عشرين طون، عنكبوت ضخم
يتكلم
-
هو أنا، ذلك المسخ الطفلي، إنه سأمي من الحياة، خوفي من الموت،
تفاهتي
وانحرافي.
يصف الكاتب كيف تلد هذه الصور من خياله الخصب. أولاً، تبرز
الفكرة وهي غير مرئية تتطور تدريجيًا ويصبح لها شكل ولون. وهكذا،
تتهاوى
الحدود بين الواقع والخيال فيصحب
الكاتب شخصياته إلى أمكنة يعيشون فيها
المغامرات
الخطرة. وأخيرًا، يعترف الكاتب أن لكل هذه الصور معنى وجوديًا،
هو يتفاعل معها وكأنها مرآة حاله. إنها تعبير عن سأمه من الحياة وخوفه
من
الموت. بالفعل، إن المواجهة مع
المخاطر التي يسردها في حكاياته هي تعبير عن
المواجهة
الوجودية مع الموت. يحكي الكاتب في هذا السياق عن تفاهته
وانحرافه
ويصف نفسه على أنه مسخ طفلي. بالفعل، تتعدد أنماط العلاقات التي
تربط الكاتب بتلك الأنا الخيالية الماثلة في الماضي البعيد. فهو يتماهى
معها تارةً، ويشعر أنه يختلف
عنها طورًا. بالفعل، يشجب الكاتب ذلك الطفل
الذي ما زال
يسكن ذاكرته:
كان
الراشدون يتحكمون بحقيقتي، بطبعي وباسمي؛
تعلمت أن أرى نفسي من خلال وجهة نظرهم؛ كنت طفلاً، ذلك المسخ الذي
يصنعونه
بحسرة [....] ثمَّة حقيقة شفافة أفسدت كل شيء: كنت محتالاً. كيف
نلعب دورنا في
المهزلة من دون أن ندرك ذلك؟
ينعت الكاتب نفسه بالمسخ وبالمحتال وكأنه لا
يشعر أنه
يشبه نفسه حين كان طفلاً على الإطلاق. إنها العلاقة بين الطفل
والراشدين التي حطمت صورته عن نفسه حين كان ولدًا صغيرًا. يشعر الكاتب
أنه
كان وحشًا يصنعه الراشدون في
طفولته لأن التربية كانت تشكل ضغطًا نفسيًا
كبيرًا عليه.
يجسِّد الراشدون من وجهة نظره القوانين والمُثل الاجتماعية
التي يكتشفها
الولد ويكتسبها تدريجيًا.
وهكذا، لطالما برز موضوع العلاقة بين الطفل والراشدين في السيرة
الذاتية،
وقد ظهر ذلك بالفعل في مذكرات
شابة حسنة السلوك لسيمون دوبوفوار. تسرد
تلك الكاتبة
في عملها الأدبي أول عشرين سنة من حياتها. تبدأ السيرة الذاتية
بطفولة سيمون التي تروي أنها كانت متعطشة للمعرفة وتطرح العديد من
الأسئلة. كانت حادة الذكاء ومختلفة عن أصدقائها في الصف بكونها غير
مطواعة. كانت ترفض سلطة الراشدين، كما أنها كانت تثور ضد الظلم. كانت
تحب الطبيعة
والقراءة، وكانت تعاني في شبابها من نوبات قلق خلال الليل، إذ إنها
تفكر
بالموت والوحدة. وهكذا، تسمح لنا
السيرة الذاتية بمعرفة طبيعة العلاقة بين
الولد
والراشدين.
حوار من الماضي
في رواية طفولة، تعرض ناتالي ساروت حوارًا بينها وبين قرينها
الذي يحاول
دفعها إلى تذكُّر ماضيها
والتعبير عنه. تمزقت طفولة الكاتبة بسبب طلاق
والديها
وتنقلها بين روسيا وفرنسا. تحاول ساروت أن تكون صادقة في هذه
الرواية، وهي تتساءل حول والدتها التي حرمتها من العاطفة والحنان، وقد
تركتها مع والدها حين كانت في التاسعة من العمر. في نهاية الرواية تسرد
الكاتبة استئنافها لعلاقتها
بوالدتها. إن لهذا العمل الأدبي قيمة كبيرة على
مستوى علم
النفس، إذ إنه يسمح للقارئ بالتعرف إلى دينامكية الذاكرة
وعلاقتها
بالحالة النفسية. تخضع هذه الديناميكية لمنطق يسمح لنا بمعرفة
خفايا النفس
البشرية. بالفعل، تسرد الكاتبة سيرتها الذاتية مستندة إلى صور
تنبعث من الذاكرة التي تتفاعل مع الماضي بشكل غير موضوعي. فقد تكون قصص
الماضي التي تسكن خيال الكاتبة
مشوهة أو منقوصة أو مجزأة. فالنسيان يلعب
دورًا هامًا
على هذا المستوى، مما يؤدي إلى ظهور صور الماضي في المخيلة
بشكل غير منظَّم. وغالبًا ما تتسلسل الذكريات تبعًا لمنطقٍ ما يضفي
معنى على
السيرة الذاتية. يبرز تأثير
النسيان على السيرة الذاتية في المقتطف التالي
من طفولة
لناتالي ساروت:
لم
أعد أذكر أين حصل ذلك... لا أرى سوى شكل وجه
والدي المُبهم المُغطى بالضباب وهو جالس إلى جانبي. يبدو أنه يدير
وجهه،
يقول لي بشكل من الأشكال من دون أن ينظر إلي إن والدتي تقترح أن
تستعيدني.
ينتج العجز عن التذكر عن الألم المرتبط بالذكريات. تتناول الكاتبة
موضوع
إمكانية فصلها عن والدها وذلك
يربكها عاطفيًا، فيظهر وجه والدها «المُبهم
المغطى
بالضباب». يطغى الضباب، الذي يرمز إلى الإبهام والغموض، على صورة
الوالد الذي لا ينظر إلى ابنته. وهكذا، تأثرت الذكريات بخوف الطفلة من
الابتعاد عن أبيها. هل سردت لنا
الكاتبة الحقيقة؟ أو أظهرت لنا صورة تتأرجح
بين واقع
وخيال يسكنه الماضي الأليم؟ سردت الكاتبة حالتها النفسية أو ما
تذكره حول تلك الحالة النفسية. قد يكون التمزق الذي ما زال يسكنها حتى
لحظة
كتابة الرواية قد أنتج صورة
الضباب. هل رأت فعلاً ساروت وجه والدها مغطى
بالضباب؟ أم
أن ذلك الضباب وذلك النسيان ناتجان عن خوفها من الافتراق عن
والدها في طفولتها؟
تبرز في هذا المقتطف العلاقة بين الطفلة وزوجة والدها فيرا:
كل
الأطفال
ينادون «أمي»، كذلك تتقن ليلي قول تلك الكلمة الآن، حين تتكلم فيرا عني
تقول دائمًا ابنتي... والناس يتفاجؤون أحيانًا... لديك فتاة بهذا
العمر؟
وبالفعل، لا تكبرني زوجة والدي سوى بخمس عشرة سنة... ثم، وعلى الرغم من
هيئتها الشابة، يزعجني أن أناديها باسم فيرا، كما يفعل والدي، وكأنني
شخص
راشد، فاقترحت عليها في أحد الأيام... لم أعد أذكر كيف على الإطلاق...
بأن
أناديها أمي. قالت لي «جيد جدًا، إنما يجب أن تطلبي الإذن من أمك».
حلَّت تلك المرأة محل الأم، ويبدو أن الطفلة هي التي تطالب بذلك وكأنها
تبحث
عن بديل لوالدتها. إنما لا تريد
زوجة الوالد أن تلعب دور الأم، يبرز ذلك
في المقتطف
التالي:
«هذا
ليس بيتك»... يصعب تصديق ذلك، إنما هذا ما قالته
لي فيرا في أحد الأيام، حين سألتها إن كنّا سنعود قريبًا إلى البيت،
فقالت
لي: «هذا ليس بيتك».
يجيب قرين الكاتبة الذي تتحاور معه في الرواية:
وبالفعل قالت زوجة الوالد الشريرة ذلك لسندرلا. جعلك ذلك تترددين.
وهكذا، يدور الحوار بين الكاتبة وقرينها بهدف استرجاع ذكريات الماضي
واكتشاف أعماق نفسية تلك الكاتب.
في عمل جورج بيريك الأدبي واو أو ذكريات الطفولة، تتمازج السيرة
الذاتية
بالخيال، تبدأ الرواية على الشكل
التالي:
ليس
لدي ذكريات من الطفولة. يمكنني سرد قصة حياتي حتى بلوغي عمر الثانية
عشرة ببضعة أسطر: توفي والدي
حين كنت في الرابعة من العمر، أما والدتي فماتت حين كنت في السادسة من
عمري؛ أمضيت فترة الحرب في مختلف المدارس الداخلية التابعة لفيلار- دي
- لانس. عام 1945، تبناني أخت والدي وزوجها. لطالما طمأنني غياب القصة:
كان
جفاء أسلوبها الموضوعي، وضوحها الجلي وبراءتها يحمونني، إنما ممَّا
كانوا
يحمونني، من قصتي المعيشة بالضبط، من قصتي الحقيقية، من قصتي أنا
التي،
وكما يمكننا أن نفترض، ليست ذات أسلوب بارد، وليست موضوعية، وهي غير
واضحة
ظاهريًا، كما أنها ليست بريئة ظاهريًا.
»ليس لدي أية ذكريات من الطفولة». كنت أطرح هذا التأكيد بيقين، بتحدٍ
تقريبًا. يجب ألا يطرح أحد علي سؤالاً
بهذا الخصوص. فهذا الموضوع غير مُدرج في برنامجي. أنا معفى منه.
يروي
الكاتب السيرة الذاتية
والمقتطفات الخيالية بصيغة المتكلم، فينشأ بينهما
ترابط يتبلور
حتى الخاتمة الفظيعة. الحكايتان متينتان يتفاعل معهما القارئ
بقوة وهما على غرار مسرحيات راسين الكلاسيكية تبلغان ذروتهما في
الصفحات
والكلمات الأخيرة. تلك الرواية
الرائعة هي إعادة إنتاج مبتكر للسيرة
الذاتية
تستند إلى الخيال للتعبير عمَّا عجزت الحقيقة البشرية عن التعبير
عنه. في القصة الخيالية واو، يسرد الكاتب حكاية غاسبار وينكلر
الذي يواجه
ماضيًا ظنَّ أنه نسيه في جزيرة
«واو»، قرب أرض النار. إنه وصف سلالي مجرد من
المشاعر إنما
يتمتع بالسخرية، يسرد الكاتب في هذا الجزء من الرواية قصة
مجتمع خيالي. أما السيرة الذاتية فهي مزيج مبعثر من الذكريات يفتقر إلى
التناسق. وتنتهي هذه السيرة بتبرير كتابة القصة الخيالية واو،
إذ يربطها
الكاتب بالصدمة النفسية التي
عاشها في المعتقلات النازية حيث توفيت والدته.
هكذا، يتحوَّل الكاتب من خلال السيرة الذاتية من إنسان عادي إلى شخصية
أبدية. باتت الكتابة في هذا
السياق وسيلة لتحدي مرور الزمن. وبالفعل، بفضل
سيرهم
الذاتية، ظل جان-بول سارتر وجان-جاك روسو وناتالي ساروت وغيرهم
ماثلين في
ذاكرتنا الجماعية، فباتت طفولتهم وهواجسهم ومشاكلهم راسخة في
خيالنا. وهكذا، كل من كتب قصته حوَّل نفسه إلى تحفة فنية سرمدية. وقد
تناول
جان-بول سارتر ذلك في سيرته
الذاتية الكلمات:
أنا
كنت مرئيًا، من موتي
حتى ولادتي، من قبل أطفال المستقبل الذين لا أتخيلهم ولا أكف عن إرسال
رسائل لا أفهمها إليهم. كنت أرتجف، متجمدًا في موتي، وهو المعنى
الحقيقي
لكل حركاتي، فأنا ما عدت أمتلك نفسي، كنت أحاول أن أعبر الصفحة من جديد
بالاتجاه المعاكس وأن أجد نفسي من جهة القرَّاء، كنت أرفع رأسي، وأطلب
النجدة من النور.
ومن ثم يتسأل الكاتب كيف سيقرأ الناس عمله الأدبي عام
2013،
وكأنه يحلم بالمستقبل، مستقبلٍ ما بعد موته. وها أن حلم جان-بول
سارتر يتحقق،
إذ إننا اليوم في عام 2014 ما زلنا نقرأ سيرته الذاتية ونتعرف إلى
طفولته وذكرياته التي سردها بشكل رائع.
*** *** ***
السفير الثقافي