قراءة النص الديني عند المفكر الراحل محمد أركون
عبدالمجيد خليقي
تتميز
المنهجية (القراءة) الأركونية في الدراسات الإسلامية بسمات عدة: أولاها انطلاقها من
مكتسبات الحداثة الغربية، ومحاولتها ثانيًا تقوية الوظيفة النقدية للعلوم
الاجتماعية من خلال تطبيقها على التراث الإسلامي. وهذه القراءة تختلف عن القراءات
السائدة في الشرق والغرب، قديمًا وحديثًا لأنها تتسلح بالنقد، وتنقب في طبقات
التراث لاستخراج مكبوته ولا مفكَّره، كما إنها تتوجه كذلك إلى الحداثة الغربية
لتبرز مناقبها ومثالبها موظفة أداة أو آلية دعاها أركون "بالإسلاميات التطبيقية" من
جهة و"الإسلاميات القانونية" من جهة أخرى.
فالأولى تروم دراسة التراث وفق منهجية حفرية تطال المكتوب والمُقال والمُعاش، كما
تتوجه إلى الإسلاميات الكلاسيكية لنقدها وإبراز محدوديتها.
أما
الإسلاميات القانونية، فهي أداة تنصبُّ بالنقد أساسًا على العقل التشريعي، لأنه
دعامة العقل الإسلامي في صيرورته إلى الآن. كما تنتقد كذلك المنظومة الحقوقية
الأوروبية الحديثة، عبر عقد مقارنة بينهما، بغاية إبراز كل الانحرافات الأسطورية
المنطقية التي تعرَّض لها العقل هنا وهناك.
ويبدو من الصعب الحديث عن القراءة الأركونية من دون الانخراط في تحليل موضوعها وهو
العقل، لأن العقل عند أركون يختلط فيه الموضوع بالمنهج. ومن هنا صعوبة ضبط المشروع
الأركوني في كل جوانبه. فالموضوع يكشف عن نفسه من خلال المنهج، كما أن نضج هذا
الأخير وتبلوره يعود إلى الموضوع. وهكذا، وبناء على هذا المطلب، لا مندوحة لنا من
التعرض إلى المتن أثناء تعرُّضنا للجانب المنهجي في المنظومة الفكرية الأركونية.
لقد
أفلحت القراءة الأركونية في فتح ورشات عديدة، جعلت المتلقي يتحمس لها ويعمل على
الانخراط فيها، سيما وأن فتح إضبارة الماضي الإسلامي ينطلق من هموم الحاضر،
والمتمثل في السؤال المركزي الذي أرَّق ويؤرِّق أركون: كيف نقرأ الإسلام اليوم؟ هل
الإسلام شيء والمسلمون شيء آخر؟ وكيف يجب على المسلم اليوم أن يتكيَّف مع معطيات
الحداثة الغربية؟
ولاحظ أركون أن الإسلام الأقنومي هو السائد الآن باعتباره كيانًا جوهرانيًا لا
يتغير ولا يتبدل على مسار التاريخ. لذا لا بد من القطع معه. وهذه إحدى تجليات
القراءة الأركونية للتراث. فالقطيعة عملية طالت المجتمع العربي الإسلامي منذ ظهوره،
وهي ذات أوجه متعددة أهمها قطيعتان اثنتان: الأولى قطيعة مع الماضي السكولائي بعد
انهيار الحضارة الإسلامية في القرن الثالث عشر الميلادي. والثانية قطيعة حصلت بين
أوروبا والعالم الإسلامي منذ القرن السادس عشر الميلادي. وداخل القطيعة الأولى توجد
قطائع أخرى فرعية كالقطيعة الاجتماعية والقطيعة الاقتصادية، والقطيعة اللغوية
والنفسية... أما بالنسبة إلى القطيعة الثانية مع الغرب، فتعد الثورة الفرنسية أم
القطائع، لأنها قطيعة تاريخية، أفلحت في فصل الدين عن السياسة، معتبرة إياه شأنًا
شخصيًا.
لكن
أركون يضيف قطيعة أخرى يعتبرها أساسية في فهم بنية الفكر الإسلامي، أسماها القطيعة
الإبستيمية، وهي قطيعة كبرى ينتظم فيها كل الفكر الإسلامي الوسيط منذ انحطاطه إلى
اليوم. إذ من تجليات الإبستيمي الإسلامي، الخلط بين الأسطوري (الخيالي) والتاريخي،
واستدماج بنية الأصل في معتقد المسلم، وكذا القول بحقيقة واحدة ثابتة سرمدية. هذا
علاوة على تقديس اللغة العربية وتفوُّقها على كل اللغات الأخرى.
ولفهم تشكُّل وصيرورة بنية هذا الفكر، وظَّف أركون مصطلح "الزمان الطويل"، بهدف
الكشف عن اللامفكَّر فيه.
فالإبستيمي والزمان الطويل واللامفكَّر فيه والقطيعة ورأس المال الرمزي والمخيال
الاجتماعي هي جزء من الترسانة المفاهيمية التي قرأ بها أركون عقول الفِرَق
الإسلامية على أنها بالرغم من اختلافها الظاهري تعود إلى عقل واحد مجبول بفكرة
التأصيل والذي ما زال شغالاً إلى وقتنا هذا.
فاللامفكَّر فيه مستنبط من المفكر فيه. وأركون عندما يعود إلى التراث قصد التفكير
فيه، يدرك أن هناك أشياء لم يفكر فيها في الماضي، وبفعل عامل الزمن تحولت إلى أشياء
أصبح مستحيلاً التفكير فيها، كمسألة تاريخية النص القرآني وتشكُّله ومسألة الوحي،
ومسألة خلق القرآن، ثم مسألة الشخص المواطن، ومسألة العلمنة وحقوق المرأة، ومسألة
المعتقد. فكيف، إذًا، يمكن التعامل مع هذه القضايا في ضوء متطلبات الحداثة؟
الانتهاك
هنا
تنجلي أداة منهجية أخرى أسماها أركون بالانتهاك. فهذا المفهوم يعني حسبه اختراق
المفاهيم والمصطلحات واللغة التي باتت تشكل سياجًا محرَّمًا على كل مجدد. وهذا
الانتهاك يجب ألا يؤول إلى الإلغاء. وتعقبه أداة أخرى تتمثل في الزحزحة التي تفيد
خلخلة البنيات المتكلسة والبداهات المتحجرة، وتطال العقل والإيمان والفرد، بهدف
تجاوزها. وهذه هي الأداة الثالثة في هذا الثالوث المنهجي. فالانتهاك والزحزحة
والتجاوز هي مفاهيم إجرائية يوظِّفها أركون بهدف الانخراط في إسلام حداثي. إلا أن
هذا الثالوث المنهجي لا يطبقه أركون بكيفية آلية على كل المفاهيم التراثية بل يراعي
في هذه العملية مسألة الخصوصية. فالإيمان مثلاً، يؤكد أركون، ينبغي أن يتعرض
للزحزحة من دون التجاوز. لأن الإيمان حسبه ضروري في ظل نظام العولمة. وهذه نقطة لا
يمكن تجاهلها.
وهذه الأدوات الإجرائية التي تعتمدها القراءة الأركونية تستند إلى مساهمات العلوم
الإنسانية الكونية الحديثة كالألسنيات والأنثروبولوجيا والسيميائيات وعلم النفس
الاجتماعي والأنثروبولوجيا التاريخية وعلم الأديان المقارَن. هذا علاوة على علم
الأعصاب والفينومينولوجيا والنقد الأدبي ونظرية التواصل وفلسفة التفكيك. ويبدو لي
أن القصد من هذا التعدد المنهجي عند أركون هو التقليل من هامش الخطأ، والعمل على
تجاوز الاستخدام الإيديولوجي للتراث ماضيًا وحاضرًا، غير مستثن الخطاب الاستشراقي
باعتباره خطابًا باردًا إزاء الإسلام، كما إن الحقيقة حسبه تساهم في بنائها أطراف
عدة، ومن هنا نسبيتها.
وهكذا تقوم هذه القراءة الأركونية للتراث على مجموعة من الأدوات وتنصبُّ على
التراث، كما تنصبُّ على الفكر الغربي، دليلها هو الحداثة.
الفصل
فالنقد الأركوني يبني معطياته أولاً على ضرورة الفصل بين الظاهرة القرآنية والظاهرة
الدينية. فالأولى يقصد بها القرآن كحدث شفهي يتعين دراسته وفق قراءة تزامنية أولاً
قبل وصله بنا ثانيًا. والثانية ضاربة بجذورها في التاريخ وملتبسة بالسياسة
والإيديولوجيا. ودور الباحث هو الوعي بضرورة التمييز بين الظاهرتين حتى تسهل مقاربة
ظاهرة الوحي وفق منهج أنثروبولوجي مثلث الأضلع هو الوحي، التاريخ والحقيقة. وهذا
يتطلب زحزحته عن موقعه والدعوة إلى تشكيل لاهوت إسلامي تحريري يكون للإنسان دور
فعَّال فيه، ويقطع مع اللاهوت التقليدي الذي لا مكان فيه للإنسان. وهذه العملية لا
تقتصر على ظاهرة الوحي الإسلامي فقط، بل تطال كذلك الظاهرة الدينية عامة التي
عرفتها مجتمعات الكتاب. وهنا تكمن جدة القراءة الأركونية التي من مقاصدها تأهيل
المجتمعات الإسلامية لاستيعاب مكاسب الحداثة بدل اتخاذ موقف سلبي منها، منبهًا إلى
ضرورة عزل الأنظمة اللاهوتية التي شكلها حماة المقدس والتي كان لها دور سلبي في
التعامل مع الوحي عبر تحنيطه وقطعه عن مجاله التداولي الثقافي.
من
هنا تصدت القراءة الأركونية لكل الأنظمة التفسيرية التقليدية قديمة كانت أم حديثة،
فأبرزت تهافتها ومحدوديتها، ذلك أنها لم تكن لتتمكن من التمييز بين المعنى وآثار
المعنى كما هو الشأن مع الطبري وأمثاله الذي كان يغيب عنه مفهوم تاريخية الوحي،
وسقط من حيث لا يدري في تسخير الآيات القرآنية، حيث لجأ إلى عملية النسخ لتبرير
نظام الإرث آنذاك. وهذا ما نبه إليه أحد المستشرقين المعاصرين "باورس" وأكده أركون
في ما بعد، رغم المآخذ الأركونية على هذه الدراسة الاستشراقية والمتمثل في مصادمتها
الوحي الإيماني الإسلامي الذي ما زال غير مؤهل لتقبُّل مثل هذه الأفكار التي تدخل
في دائرة المستحيل التفكير فيه.
يثمِّن أركون هذه المحاولة الاستشراقية وينفصل عنها في الوقت نفسه، داعيًا إلى بديل
منهجي يراعي حساسية المسلم من جهة من دون أن يفرط في ثوابت الصرامة العلمية من جهة
ثانية.
كما
تتجه هذه القراءة الأركونية كذلك إلى الأنظمة التفسيرية الحديثة بدءًا من مدرسة
المنار إلى المدرسة الإيديولوجية المعاصرة مرورًا بالمدرسة البيانية بهدف نقدها
وإبراز محدوديتها وخلفيتها الإيديولوجية، لأنها جميعها تفتقر إلى المنظور
الأنثروبولوجي، وتتجاهل السياق الثقافي للنص التأسيسي، مما جعلها قراءة إيديولوجية
تلغي البعد التاريخي في فهم النص الديني، معتقدة أن المعنى ثابت ونهائي يتعيَّن
التوصل إليه فقط. وبذلك فهي تدخل في وفاق مع أفق انتظار المتلقي، من دون أن تتمكن
من إشراكه (المتلقي) في عملية بناء المعنى عبر استشكال ظاهرة الوحي، فباتت هذه
القراءة الإيديولوجية باختلاف أطيافها وألوانها غير ناجحة ومفعمة بالشكوك.
نقاش
ومما يضفي على القراءة الأركونية جدة وحداثة، دخولها كذلك في نقاش حاد تارة مباشر
وأخرى ضمني مع أنواع القراءات الحداثية الأخرى سواء كانت هيرمينوطيقية (نصر حامد
أبو زيد) أو مقاصدية (الطالبي) أو تاريخية (فضل الرحمان)، فالقراءة الأركونية تحاول
أن تقتطع لنفسها حيزًا يميزها عن القراءات الحداثية الأخرى، عبر اختزالها الإشكالية
المطروحة ذات الصلة بنقد العقل الإسلامي. فبؤرة البحث الأركوني ومجمل مشروعه ينصبُّ
على هذا العقل الإسلامي وكيفية تشكُّله. فهذا العقل يخترق كل المتن الأركوني ولا
ينحصر فقط في مؤلف واحد كما يرى بعض الدارسين المعاصرين.
فإشكالية أركون المركزية التي ينبني عليها مجمل مشروعه هي العقل الإسلامي في كل
مظاهره ومستوياته، لا فقط مستوى العقل النظري وإنما كذلك المعيشي والشفوي والرمزي
وكل ما يشكِّل محصلة الإنسان المسلم سواء على مستوى النظر أو العمل.
ويعود أركون إلى علم أصول الفقه للشافعي ليرى فيه بداية تأسيسية لهذا العقل
الإسلامي الذي ما زال شغالاً إلى اليوم. فهو عقل تشريعي تأصيلي يستند إلى تقنيات
الاستدلال لاستنباط القواعد التشريعية والقانونية من القرآن والسنة، مغلقًا الباب
أمام كل اجتهاد أو تنظير. فكانت بذلك بداية تشكل الأرثوذكسية الإسلامية التي ما
زالت آثارها سارية إلى اليوم في العالم الإسلامي المعاصر. لذا وجب نقد هذا العقل
الفقهي الذي يندرج مع غيره من العقول الأخرى المنافسة له في نظام فكري (إبستيمي)
واحد. والأداة المؤهلة لهذا النقد تجد ترجمتها في "الإسلاميات القانونية" التي تروح
تشريح العقل الحقوقي (القانوني) في إهابه الإسلامي أولاً والغربي ثانيًا بهدف إبراز
مثالبه ومحدوديته في الإسلام. وكذا العمل على إبراز الطابع الإنساني للعقل القانوني
وانتشاله من كل انحراف وضلال. أما "الإسلاميات التطبيقية" فهي تنصبُّ على باقي جهات
هذا العقل الإسلامي فتقوم بخلخلتها وإزاحتها عن موضعها الأصلي حتى يتسنى تجاوزها
(نقدها).
الاستدلالي
وإذا كان مشروع نقد العقل الإسلامي عند أركون يتبدَّى من خلال نقد العقل الإسلامي
في تجلياته المتعددة، فإنه يعرِّج على العقل التأسيسي لينظر فيه، معتبرًا إياه
عقلاً غير منطقي ولا استدلالي، بل هو عقل العجيب والمدهش يلعب الخيال دورًا مركزيًا
في بنائه، منتقدًا الإسقاطات اللاحقة على هذا العقل حيث أضحى عقلاً فلسفيًا نابذًا
لكل رمز ومجاز، في حين أن القرآن مفعم كله بالتعابير الرمزية وبالأشكال المجازية،
وبالتالي فهو عقل أقرب إلى القوة العاقلة منه إلى العقل كملكة للاستدلال.
ويلاحظ البعض أن هناك هوَّة في النقد الأركوني بين العقلين: العقل المتعالي أو
المقدَّس، وبين تجلياته
Les
Théophanies:
المدونة الرسمية المغلقة، ولماذا انصبَّ نقد أركون على العقل الكتابي من دون
الشفوي.
والمتتبع للمتن الأركوني يصعب عليه الانسياق وراء هذا الطرح. فالمنهجية الحفرية
الأركونية هي منهجية يتبدى دورها في الانتهاك والخلخلة والتجاوز. وإذا كان الوحي هو
أمر إلهي لا مراء فيه، وإذا كان الخطاب الشفوي حسب التحليل اللساني يختلف حتمًا عن
الخطاب المكتوب نظرًا للتوظيف الذي يطاله أثناء عملية الانتقال، فإن وراء جمع
المدونة الرسمية المغلفة على الأقل عاملاً سياسيًا/ايديولوجيًا، تحكم في عملية
الجمع، وألغى مدونات أخرى كانت موجودة ومعاصرة للمدونة الرسمية، فحق بذلك البحث في
هذه المعضلة، ويرى أركون أن هناك مواقع معرفية يجب التعرض لها بالفحص والنقد، تعد
بمثابة مقدمات اختبارية لنقد العقل الديني، سواء كان إسلاميًا أو غير إسلامي. وهذه
المقدمات ليست سوى ما اسماه اركون بالمثلثات الأنثروبولجية التي من دونها يستحيل
نقد العقل الإسلامي.
ورغم ان القراءة الأركونية توجه نقدها صوب الماضي، فانه لا يسلم من نقدها كذلك
الخطاب الإسلامي المعاصر باعتباره خطابًا جماعيًا متعدد الأوجه ومعبرًا عنه في كل
اللغات الإسلامية. إذ إن أركون لا يتوانى في ادخال هذا الخطاب في نظام الفكر
التقليدي نفسه، فهو امتداد للعقل الاسلامي الدوغمائي يستظل بالماضي التيولوجي
ويتماهى معه، مدعيًا احتكار المعنى ومقيلاً الفكر الحر من مهامه النقدية. إنه في
آخر المطاف عقل استسلامي تحركه هواجس ظرفية وأغراض سياسية، ويعد نكوصًا في نظر
أركون عن مرحلة "النهضة" العربية في القرن التاسع عشر الميلادي. وإذا كان هذا ينطبق
على العقل الأصولي، فإن العقل النضالي القومي هو كذلك له أقانيمه ومرجعياته، في
ضوئها يحاكم غيره. لذا لزم مقاومة هذين العقلين والدعوة إلى بناء عقل متحرر من كل
الأوهام والعقد، وذلك عبر قراءة نقدية ذات صلة بالمناهج الاجتماعية الكونية
المعاصرة، وهذا العقل التطلعي ليس شيئًا آخر غير العقل الاستطلاعي الذي يعد مفتاح
اقفال دهاليز الفكر الأركوني.
العقل الاستطلاعي
فهذا العقل الاستطلاعي هو عقل حداثي، يتخذ الحداثة أداة وغاية وفي ضوئها يقرأ
التراث العربي الاسلامي وكذا التراث الغربي، موظفًا "انثروبولوجيا الحداثة" ليدعل
العقل الغربي في الميزان، وحتى يبرز أن الحداثة ليست إبداعًا غربيًا كما يرى الغرب،
وإنما هي حدث ضارب الجذور في التاريخ. فالحداثة ليست معاصرة زمنية أو تزامنية، حسب
أركون، وإنما هي موقف وتوتر روحي يطال كل الأزمان والعصور. من هنا حديثه عن الحداثة
العربية الإسلامية في العصر الوسيط، واعتباره القرآن في لحظته التدشينية حداثة
وتجديدًا أو لحظة قوية من لحظات الحداثة. وهذه النظرة الأركونية للحداثة التي تجعل
من هذه الأخيرة كما فعل يتسم بالتجدد والتجديد، يبدو أنها تطمس السمة النوعية
للحداثة باعتبارها قطيعة نوعية (جذرية) مع ما هو تقليدي.
وقد
ترتب عن هذا اللبس في مفهوم الحداثة لدى أركون نتائج منطقية تأدى إليها أركون منها
وجود نزعة إنسانية مبكرة في الفكر الإسلامي الوسيط من روادها الجاحظ ومسكويه وابن
رشد.. الذين تمكنوا بعبقريتهم من صهر الثقافات الأجنبية في بوتقة البيئة الإسلامية.
ومن هنا اتسام الموقف الإنسي بالجرأة واختراق المحظور، ودعوته إلى ردم الهوة بين
المعقول والمنقول. إلا أن هذه النزعة الإنسانية - حسب أركون - ستتوقف في الإسلام
أبان انحطاطه، وستختفي، لأن الموقف العقلي الذي كان يساندها قد اختفى هو الآخر
كذلك، إذ لا وجود لنزعة إنسية في غياب نزعة عقلانية تدعمها. وهذا الغياب القسري
لهذه النزعة الإنسانية في الإسلام سيفتح الباب على مصراعيه أمام ظهور نزعة إنسانية
في الغرب في العصور الحديثة واعية بذاتها.
كما
أن من نتائج القول بحداثة غير محصورة في الغرب، ميل أركون للدفاع عن وجود علمانية
في الإسلام تمتد جذورها إلى حقبة المدينة (تجربة المدينة)، حيث يلتبس الديني
بالسياسي. ويحلل المثلث الأنثروبولوجي (العقل - المجتمع - السلطة/السيادة العليا)
كما صاغه أركون، هذه العلاقة بكيفية واضحة، مبرزًا كيف أن الإسلام منذ بداياته
الأولى كان يفصل بين ما هو روحي وما هو زمني، وأن الخليفة - لا الامام - كان يجمع
بين يديه السلطتين الدينية والزمنية معًا، وأنه لفهم هذه العلاقة جيدًا - يؤكد
أركون - يجب ادخال العامل التاريخي في الحسبان، والعمل على توضيح الفرق بين الإمام
والخليفة والسلطان، وكيف أن مسألة الخلافة أو السلطة في الإسلام كانت دائمًا تحل
بالوسائل الدموية لا بالطرق المشروعة، لذا يجب تجاوز الفهم العامي لعلاقة الدين
بالسياسة باعتبارهما اطاران مختلفان، والدعوة إلى تحليل تاريخي يقول بوجود علمنة في
الإسلام من دون القفز على الدين.
ومحصلة هذه المشاكل المتولدة عن الفهم الأركوني للحداثة يعالجها مشروع نقد العقل
الإسلامي باعتباره مشروعًا استقرائيًا استكشافيًا حفريًا مستنطقًا للمسكوت عنه
ومزيلاً لأنواع التلبيس والحجاب الذي يعمل من أجله العقل المنبثق وهذا العقل
المنبثق أو الاستكشافي لا يتوانى عن ممارسة نقد مزدوج للذات الإسلامية أولاً، ثم
للذات الغربية ثانيًا. ويضطلع بمهام متعددة وقواعد صارمة. فهو عقل شفاف يشي بما
يحمل، كما أنه يحرص على الشمولية في المعالجة، معتمدًا على التعدد والتنوع المنهجي،
واضعًا نصب عينيه المتلقي المشروع، الذي يجب أن يوجه إليه الخطاب، سواء في الشرق أو
الغرب. ناهيك باعتماده على نظرية التنازع بين التأويلات، وأن النص حمال أوجه من
الحقيقة يتعين الكشف عنها من دون تحنيط المعنى. بل العمل على الكشف عن صيرورته وهو
ما يسميه أركون مستعيرًا عبارة كريستيفا "بالتوليد الهدام للمعنى".
فهذا العقل الاستكشافي، رغم أنه نشأ في قلب العولمة إلا أنه ما فتئ يوجه سهام نقده
للعقل العولمي أو بلغته هو - حسب عبارة دريدا - للعقل التلفزي التكنولوجي العلمي
الذي أفرزته العولمة.
فمن
مهام هذا العقل الاستطلاعي إذًا، أن ينتقد النزعة الانسانية التجريدية باعتبارها
نزعة شكلية، لا تخدم الإنسان بقدر ما تزيد من استعباده، ويدعو مقابلها إلى نزعة
إنسانية كلية ذات منزع عالمي لا تؤمن بالحدود، وتفتح جسورًا بين الشرق والغرب
والشمال والجنوب، مهمتها هي وضع حد للعنف السائد في المجتمعات المعاصرة، بالرغم من
نزعته الأنثروبولوجية. إلا أن هذا التصور الأركوني للنزعة الإنسانية يصعب تحقيقه
على أرضية الواقع. فهو أقرب إلى المثال أو الماهية المطلقة منه إلى التحقق العيني.
الأصولية المعاصرة
ويحمل أركون الأصولية المعاصرة أو الإسلام الحركي مسؤولية العنف المهيمن في الساحة
الإسلامية المعاصرة، تبعًا للقراءات الحرفية للنص الديني التي ينهجها، داعيًا إلى
قراءة أكثر انفتاحًا قراءة تأخذ بعين الاعتبار النص والواقع وتستلهم معطيات العلوم
الاجتماعية وعلم الأديان المقارن والأنثروبولجيا الدينية وتعمل على ادخالها إلى
المدارس حتى يتأتى التحرر من هذه القراءات الانغلاقية التي لا تؤمن إلا بالاقصاء.
من هنا دعوة أحد المفكرين العرب المعاصرين البارزين إلى دمقرطة تفسير القرآن لتجديد
معانيه، حتى لا يبقى عرضة للقراءات "البرية" كما يقول أركون نفسه.
وهكذا يتجلى المشروع الأركوني في ثرائه وتعدد مستوياته، يناضل على عدة جبهات
وفاتحًا عدة ورشات يطمح أن ينخرط فيها مفكرون عرب آخرون لهم الهم نفسه، المتمثل في
إعادة بناء مفهوم جديد للمواطن والمواطنة (أو المواطنية)، يجد أرضيته الخصبة في
الحداثة، وينهل من منبع العقلانية المعاصرة الذي يعد فكر أركون جزءًا منها. وهذه
الذات، أو المواطن، التي يحلم أركون باعادة بنائها لا تقوم لها قائمة إلا إذا تم
اخضاع المعتقد الديني لمبضع النقد. فالإيمان التقليدي لم يعد مجديًا اليوم أمام
تحديات الحداثة، ولا بد من معالجته في ضوء محك التجربة مع الزمن، أي لا بد من
استشكاله، وآنذاك يمكن الحديث عن ذات فاعلة إيجابية لها القدرة على التصدي للمشكلات
التي تعترضها وإيجاد حلول لها بمعزل عن كل قوى خارجية عنها، فاتحة الباب أمام ضرورة
التخلص من دين المعنى عبر اقصاء كل الحواجز وتكسير كل السياجات المغلقة التي ظلت
تحاصر العقل الإسلامي منذ بروزه إلى الآن. وهذه إحدى المهام التي نيطت بالعقل
الاستطلاعي باعتباره مركبًا ثقافيًا وأداة منهجية مفتوحة على كل الاحتمالات. فهو
عقل متسكع، بلغة أركون، لا يؤمن بالحدود ويعيد النظر في نفسه باستمرار فهو عقل
تعددي يقتحم كل المجالات، إن كان يسجل عليه أنه صرف اهتمامه عن التجربة الصوفية
خاصة أن "الإسلاميات التطبيقية" هي أداة تبحث في كل العقول الفرعية التي أنتجتها
الحضارة العربية الإسلامية، مما لم تعد معه مسألة السكوت عن العقل العرفاني أمرًا
مبررًا.
وإذا كان العقل الاستطلاعي يبدو لأول وهلة عقلاً جماهيريًا يعانق هموم الشعوب
الإسلامية والغربية، فإن واقع الحال يشدد على نخبويته وعلى استحالة تواصله مع مختلف
طبقات القراء. فهو، إذًا، بحاجة إلى ايجاد متلق مشروع له من الكفاية والجرأة ما
يجعله يستوعب المشاريع العلمية الأصيلة ويعمل على نشرها وتعليمها.
وهذا العقل الاستطلاعي يمارس مهامه النقدية عبر أداتين متلاحمتين: إحداهما عملية
تطبيقية تتمثل في "الإسلاميات التطبيقية" التي تعانق تجليات العقل الإسلامي. فهي
ممارسة علمية متعددة الميادين والاختصاصات، أما الأداة الثانية فهي نظرية تنصب على
العقل الإسلامي ذاته باعتباره أصلاً وتشريعًا. وقد أطلق عليها أركون اسم
"الإسلاميات القانونية" التي تروم نقد وتفكيك العقل التشريعي الإنساني المنسوب
تعسفًا إلى المتعالي، وذلك عبر منهج مقارن بين الإسلام والغرب يتوخى ربطه
بالتاريخية. ويبدو لي أن مصطلح "إسلاميات قانونية" لم يظهر له أثر في مؤلفات أركون
الأولى، وأنه وليد عمله الأخير، النزعة الإنسانية والإسلام، وإن كان يشير
إلى أن فكرة ضرورة نقد العقل القانوني في السياق الإسلامي كانت تراوده منذ كتب
النسخة الأولى لتقديمه مفهوم نقد العقل الاسلامي، معنى هذا أن أركون ما فتئ يراجع
مشروعه الفكري باستمرار وكذلك أدواته. فهو يناضل بلا كلل من أجل أن يكتمل مشروعه
النقدي. إلا أنه يبدو أنه مشروع لم يكتمل، وأن أركون ما انفك يفاجئنا بالجديد.
وفي
المحصلة النهائية، فإن القراءة (القراءات) الأركونية مهما قيل في حقها مدحًا أو
ذمًا، فإنها تمكنت من أن تستل الأقلام وتفتح الإضبارات وتقدح المواجهات، وتسجل
التحفظات، وتثير الحماسات وتوقع في الاحراجات. وهذه الدينامية التي تحفل بها
العقلانية الأركونية لا تتوافر إلا في المشاريع الفكرية الأصيلة كالمشروع الأركوني.
لذا اختلفت النعوت التي تطلق عليها. فهناك من يعتبرها عقلانية رافضة أو تنتمي إلى
تيار الرفض المطلق أو النقد السلبي. وهناك من يعتبرها عقلانية كلامية كالجابري.
والأمر لا ينحصر هنا، بل يتعداه إلى تحديد الموقف الأركوني. فهناك من يشدد على أن
الفكر الأركوني فكر حداثي بامتياز. وهناك من لا يتوانى في نعت هذه الحداثة
الأركونية بالإسلامية (أسلمة الحداثة) فهي حداثة إسلامية عصرية، أو من يربطها
بالأصولية.
والمتأمل في هذه الخرائطية التأويلية للعقلانية الأركونية لا يسعه إلا أن يندهش
لهذه المحمولات - المتعارضة مع بعضها - للعقلانية الأركونية، والتي تبين عن عواصة
فهم هذه العقلانية وغناها وتعدد روافدها. إلا أن ما ينبغي أن نشدد عليه هنا هو أن
هذه العقلانية الأركونية لا يمكننا بحال من الأحوال تصنيفها في خانة لا العقلانيات
الماضوية، ولا الإسلاموية ولا حتى الرافضة بالمعنى السلبي للكلمة، وإنما هي عقلانية
تمتح من منهل الحداثة، ولا تني تنقد كل ما يعترض طريقها. فهي إذًا كما قال البعض
عقلانية نقدية، بل نذهب إلى حد اعتبارها عقلانية استشكالية تجعل همها هو استشكال كل
القضايا التي تعالجها وجعلها محط تساؤل مستمر.
*** *** ***
المستقبل،
الجمعة 17 أيلول 2010، العدد 3773، ثقافة وفنون، صفحة 20