في ذكر البعث وصوره
محمود الزيباوي
يحتوي
النص القرآني على مجموعة من القصص الخاصة بإحياء الموتى وبعثهم، منها قصتان تردان
في آيتين طويلتين من سورة البقرة. تتحدث الأولى عن إحياء أحد الأنبياء بعد مئة عام
على موته وبعث حماره أمام عينيه، وتتحدَّث الثانية عن إحياء أربعة طيور أمام النبي
إبرهيم.
ارميا يشهد إحياء حماره، جامع التواريخ، تبريز،
1314،
في مكتبة جامعة ادنبرغ
تقول الآية الأولى: "أو كالذي مر على
قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مئة عام ثم
بعثه قال كم لبثت قال لبثت يومًا أو بعض يوم قال بل لبثت مئة عام فانظر إلى طعامك
وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم
نكسوها لحمًا فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير" (البقرة:
259).
لا يسمِّي النصُّ هذا النبي الذي أحياه
الله بعدما لبث ميتًا طوال قرن من الزمن، ولا يسمِّي القرية الخاوية من عروشها. في
جامع البيان في تأويل القرآن، يشير أبو جعفر الطبري إلى اختلاف أهل التأويل
في تحديد هويَّة هذا النبي، وهو عزير في رأي البعض، وأرميا في رأي البعض الآخر،
"ولا حاجة بنا إلى معرفة اسمه، إذ لم يكن المقصود بالآية تعريف الخلق باسم قائل
ذلك، وإنما المقصود بها تعريف المنكرين بقدرة الله على إحيائه خلقه بعد مماتهم،
وإعادتهم بعد فنائهم، وأنه الذي بيده الحياة والموت". كذلك، تختلف الروايات في
التعريف بالقرية الخاوية، فهي طورًا بيت المقدس، وطورًا القرية التي نزل بها
الطاعون، فخرج منها الألوف خوفًا من الموت (البقرة:
243)،
والصواب من القول في ذلك كالقول في اسم النبي الذي مرَّ بهذه القرية.
ينقل الطبري في تفسيره هذه الآية،
مجموعة كبيرة من القصص، منها القصير، ومنها الطويل. في بعضها، يمرُّ عزير ببيت
المقدس بعدما خرَّبه بخت نصّر، أي نبوخذ نصر، الملك البابلي الذي سبى أورشليم
وشتَّت بني إسرائيل. كان الموقع في السابق "عامرًا بأهله وسكانه"، ويجده عزير
"خاويًا على عروشه، قد باد أهله، وشتَّتهم القتل والسباء، فلم يبق منهم بذلك المكان
أحدٌ، وخربت منازلهم ودورهم، فلم يبق إلا الأثر". يتساءل الزائر: "على أيِّ وَجه
يُحيي هذه الله بعد خرابها فيعمُرها". ويريه ربُّه "كيفية إحيائه ذلك بما ضربه له
في نفسه، وفيما كان في أدواته وفي طعامه"، ثمَّ يحيي حماره حتى يراه ببصره، وذلك
ليعلم "أنَّ الله على كل شيء قدير".
تماثل قصص أرميا هذه الرواية، وتتميَّز
بتفاصيلها الكثيرة. تقول إحدى هذه القصص إنَّ النبي عاد إلى بيت المقدس بعدما ولَّى
عنها بخت نصر "راجعًا إلى بابل بمن معه من سبايا بني إسرائيل"، ودخل راكبًا على
حماره ومعه عصير عنب وسلَّة تين، ولمَّا رأى ما حلَّ بالبيت من خراب، دخله شكٌّ،
وقال: "أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها"، "فأماته الله مئة عام، وأمات حماره معه،
ثمَّ بعثه وسأله: "كم لبثت؟"، فأجابه: "لبثت يومًا أو بعض يوم"، فقال له الله: "بل
لبثتَ مئة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه"، أي لم يتغيَّر. ثم أقام حماره،
فأحيا عروقه وعظامه، وكساه باللحم، وأجرى فيه الروح، فراح ينهق. ونظر أرميا إلى
عصيره وتينه، فإذا هو على هيئته حين وضعه لم يتغير، ولما عاين من قدرة الله ما
عاين، قال: "إنَّ الله على كل شيء قدير".
تبارى الرواة في وصف إحياء الحمار
الميت، وقال أحدهم: "بعث الله ريحًا، فجاءت بعظام الحمار من كل سهل وجبل ذهبت به
الطير والسباع، فاجتمعت، فركَّب بعضها في بعض وهو ينظر، فصار حمارًا من عظام ليس له
لحمٌ ولا دمٌ. ثم إن الله كسا العظام لحمًا ودمًا، فقام حمارًا من لحم ودم وليس فيه
روح. ثم أقبل مَلَكٌ يمشي حتى أخذ بمنخر الحمار، فنفخ فيه فنهق الحمار". وقال راوٍ
آخر إن الله أحيا أرميا، فنظر إلى دابته، "فإذا حماره قد بَلى وابيضَّت عظامه في
المكان الذي ربطه فيه، فنودي: يا عظام اجتمعي، فإن الله منزلٌ عليك روحًا، فسعى كل
عظم إلى صاحبه، فوصل العظام، ثم العصب، ثم العروق، ثم اللحم، ثم الجلد، ثم الشعر ثم
اللحم".
عزير يشهد إحياء حماره، عجائب المخلوقات، القرن السادس عشر، متحف والترز، بالتيمور
أربعة من الطير
تأتي القصة الثانية في الآية التالية،
ونصُّها: "وإذ قال إبراهيم ربُّ أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن
ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا ثم
ادعهن يأتينك سعيًا واعلم أن الله عزيز حكيم" (البقرة:
260).
لا يذكر النص موقع هذه القصة، ولا
يحدِّد السبب الذي دفع إبرهيم إلى طلب هذه الرؤية الإلهية. نقرأ في تفسير الطبري:
"اختلف أهل التأويل في سبب مسألة إبرهيم ربَّه أن يريه كيف يحيي الموتى. فقال
بعضهم: كانت مسألته ذلك ربَّه، أنه رأى دابة قد تقسَّمتها السباع والطير، فسأل ربه
أن يريه كيفية إحيائه إياها، مع تفرُّق لحومها في بطون طير الهواء وسباع الأرض ليرى
ذلك عيانًا، فيزداد يقينًا برؤيته ذلك عيانًا إلى علمه به خبرًا، فأراه الله ذلك
مثلاً بما أخبر أنه أمره به"، "وقال آخرون: بل كان سبب مسألته ربَّه ذلك، المناظرةُ
والمحاجَّة التي جرت بينه وبين نمرود في ذلك". ونمرود هو في التراث الإسلامي ملك
بابل الجبار الذي تحدَّى الله وتجادل مع إبرهيم في سورتي البقرة والأنبياء.
ينقل إمام المفسرين والمؤرخين في حديثه
طائفة من القصص والأخبار تتقاطع وتتشابه إلى حد كبير. تقول إحدى الروايات إنَّ خليل
الله إبرهيم "أتى على دابة توزعتها الدواب والسباع"، وتقول رواية أخرى إنه "على
دابة ميت قد بَلي وتقسَّمته الرياح والسباع". وجاء في رواية ثالثة أنه رأى في طريقه
"جيفة حمار عليها السباع والطير قد تمزَّعت لحمها وبقي عظامها، فلما ذهبت السباع،
وطارت الطير على الجبال والآكام، وقف وتعجب، ثم قال: ربُّ قد علمتُ لتجمعنَّها من
بطون هذه السباع والطير، ربُّ أرني كيف تحيي الموتى". تربط قصص أخرى هذه الواقعة
بالمواجهة مع نمرود، وتكمل الرواية التي وردت في سورة الأنبياء. تحدَّى الملك
الجبار نبي الله، وسأله: "أرأيت إلهك هذا الذي تعبد وتدعو إلى عبادته، وتذكر من
قدرته التي تعظِّمه بها على غيره، ما هو؟"، فأجابه: "ربي الذي يحيي ويميت"، فقال
نمرود: "أنا أحيي وأميت". ردَّ إبرهيم: "كيف تحيي وتميت؟"، وسأل ربَّه: "ربُّ أرني
كيف تحيي الموتى"، وذلك ليطمئنَّ قلبه.
هنا وهناك، تتقارب الروايات وتؤكد أن
إبرهيم سأل ربه أن يريه كيف يحيي الموتى "ليرى عيانًا ما كان عنده من علم ذلك
خبرًا". ينقل الطبري في هذا الصدد رواية أخرى تقول إن إبرهيم رأى حوتًا "بعضه في
البر وبعضه في البحر"، "تعاوره دواب البر ودواب البحر وطير الهواء"، فألقى الشيطان
في نفسه وقال له: "متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء؟". "سأل إبرهيم حينئذ ربه أن
يريه كيف يحيي الموتى، ليعاين ذلك عياناً، فلا يقدر بعد ذلك الشيطان أن يلقي في
قلبه مثل الذي ألقي فيه عند رؤيته ما رأى من ذلك". فسأله ربُّه: "أولم تصدق يا
إبراهيم بأني على ذلك قادر؟" قال: "بلى يا رب. لكن سألتك أن تريني ذلك ليطمئن قلبي،
فلا يقدر الشيطان أن يلقي في قلبي مثل الذي فعل عند رؤيتي هذا الحوت".
لا تحدِّد الآية القرآنية أنواع الطيور
الأربعة التي أخذها إبرهيم، وهي في التفسير: الديك، الطاووس، الغراب، والحمام.
تختلف الروايات في وصف ما فعله النبي بهذه الطيور الأربعة. قيل إن الله أمر خليله
بتقطيعها وجعلها "في أرباع الدنيا، رُبعًا ههنا، ورُبعًا ههنا". وقيل إنه قال له:
"أنتفهن بريشهن ولحومهن تمزيقًا، ثم اخلط لحومهن بريشهن". وقيل إنه طلب منه "أن
يخلط الدماء بالدماء، والريش بالريش"، وأن يجعل "على كل جبل منهن جزءًا". أطاع
النبي الأمر، وخلط بين لحوم الطيور وريشها ودمائها، ثم قسَّمهن أربعة أجزاء، وجعل
كل جزء منها على جبل، "ثم دعاهن فأتينه سعيًا على أرجلهن". ومعنى هذا المثل: "كما
بعث هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة، كذلك يبعث الله الناسَ يوم القيامة من
أرباع الأرض ونواحيها". وقيل: "هكذا يجمع الله العباد، ويحيي الموتى للبعث من مشارق
الأرض ومغاربها، وشامِها ويَمنها".
إبرهيم وسط الطيور الأربعة، عجائب المخلوقات، القرن السادس عشر، متحف
والترز، بالتيمور
ثلاث منمنمات
تجد قصة أرميا وحماره ترجمتها
التشكيلية في نسخة مزوَّقة من كتاب جامع التواريخ لرشيد الدين فضل الله
الهمذاني، أُنجزت عام
1314
في تبريز، وهي محفوظة في مكتبة جامعة ادنبرغ. يغلب على هذه المنمنمة الطابع الآسيوي
الذي يتجلَّى بنوع خاص في رسم الشجرة التي تحتل وسط التأليف. يظهر أرميا منتصبًا
أمام سلَّتين مملوءتين طعامًا، شاخصًا في اتجاه حماره الذي ينبعث من الموت أمام
عينيه. تتغيَّر الصورة في نسخة من عجائب المخلوقات لشمس الدين الطوسي تعود
إلى القرن السادس عشر، من مجموعة "متحف والترز" في بالتيمور. في هذه المنمنمة، يظهر
عزير بهالة نارية تحوط بهامته، رافعًا يديه في اتجاه حماره، بينما يظهر ملاك في
وضعية مشابهة في الطرف الآخر من الصورة، وهو الملاك الذي أخذ بمنخر الحمار، "فنفخ
فيه، فنهق الحمار"، كما جاء في الرواية التي نقلها الطبري.
في هذا المخطوط التركي النفيس، نقع على
منمنمة أخرى تصور قصة النبي إبرهيم والطيور الأربعة. يحتل خليل الله وسط الصورة،
ويبدو وهو يرفع يده إلى ثغره في حركة تعبِّر عن التعجب، ناظرًا في اتجاه جيفة سوداء
ممدَّدة على الأرض. يظهر الديك، والطاووس، والغراب، والحمام من حوله، موزَّعة على
أربع هضاب متوازية. جاء في تفسير الطبري أن إبرهيم أخذَ الأطيار الأربعة، ثم قطَّع
كل طير بأربعة أجزاء، ثم عمد إلى أربعة أجبال، فجعل على كل جبل ربعًا من كل طائر،
فكان على كل جبل ربع من الطاووس، وربع من الديك، وربع من الغراب وربع من الحمام، ثم
دعاها فقال:"تعالين بإذن الله كما كنتُن"، "فوثب كل ربع منها إلى صاحبه حتى اجتمعن،
فكان كل طائر كما كان قبل أن يقطعه. ثم أقبلن إليه سعيًا، كما قال الله".
*** *** ***
ملحق النهار