أحمد عرابي... في ميدان التحرير بالقاهرة!
حبيب عيسى
(1)
الكتابة، والكلام في هذا اليوم الطويل الممتد من "ثلاثاء الغضب" (25 يناير، كانون
الثاني 2011) إلى ثلاثين الحرية يونيه–حزيران 2013، هذا اليوم الطويل ملك لشباب مصر
الأحرار في ميدان التحرير، وفي ميادين المدن والبلدات والدساكر في الجمهورية
العربية المتحدة، الكلمة كانت ومازالت لكم أيها الأبطال، ولا صوت يعلو على أصواتكم
التي أعادت للربيع العربي ألقه. لقد قلنا منذ البداية إن هذا الربيع إما أن يكون
عربيًا وإما لن يكون ربيعًا على الإطلاق، وبالتالي إما أن ينتصر بين المحيط والخليج
وإما أن ينهزم بين المحيط والخليج.
لقد
استغل الغربان التعثر الذي عانى منه الربيع العربي للنعيق وتخوين الشعب العربي الذي
أعلن الثورة على الطغاة بالقول إن هذا الربيع العربي لم يكن سوى مؤامرة كونية، لكن
مؤامرة على من؟ وهل كان الطغاة الذين يتحكَّمون بمصير هذه الأمة العربية منذ عقود
إلا نتاج مؤامرة كونية؟ فكيف يمكن أن تكون الثورة عليهم مؤامرة؟
(2)
لقد
كان التهجم على الربيع العربي يعتمد على أن البدائل للطغاة الذين سقطوا لا علاقة
لهم لا بالربيع ولا بالعربي، وهذا صحيح إلى حد كبير، لكن لم يدرك أولئك أن "الربيع
العربي" ليس انقلابًا عسكريًا، وليس نتاج حركة ثورية منظمة، وبالتالي لا بد من
مرحلة انتقالية تعقب إسقاط طغاة أمعنوا في تخريب النسيج الاجتماعي، يستعيد فيها
الشعب عافيته، وهذا ما يفعله الشعب العربي في مصر هذه الأيام.
ولعل المشهد في ميادين التحرير العربية هذه الأيام يعود بنا إلى ذلك المشهد
التاريخي:
الزمان: يوم 9 سبتمبر–أيلول، 1881.
المكان: ميدان قصر عابدين، القاهرة.
الفريق الأول: الخديوي توفيق بملابسه الحريرية إلى جانبه السير أوكلاند كولفن
المراقب الإنكليزي الذي يهمس في أذن الخديوي: لا تخف يا جناب الخديوي إنهم لا
يجرؤون...، لا تخف وإلا فإنك ضائع ياسيدي. وخلفه أستون باشا الضابط الأمريكي ورئيس
هيئة أركان حرب الجيش المصري وخمسة من الضباط، واثنان من الضباط الأجانب الأوربيين
ومستر كوكس قنصل بريطانيا في الإسكندرية والجنرال جولد سميث.
الفريق الثاني: في ساحة القصر، الضباط: أحمد عرابي وأحمد بك عبد الغفار وعبد العال
بك حلمي واسماعيل بك صبري وإبراهيم بك فوزي وفودة أفندي حسن وعلي فهمي قائد حرس
الخديوي الذي انضم مع الحرس للثوار وقد اصطفت ألوية الجيش والحرس خلفهم والمدافع
مصوبة إلى القصر وجماهير الشعب تحيط بالجنود تهتف بحماس منقطع النظير: الشعب يريد
إسقاط الطاغية. ويخطب بهم الثائر الوحيد من خارج المؤسسة العسكرية: المناضل عبد
الله النديم.
(3)
المواجهة: يدخل الخديوي إلى القصر من باب خلفي للسراي اسمه "باب باريس" فيصدر
اليوزباشي محمد أفندي السيد أمرًا للبروجية بضرب نوبة "سونكي ديك"، فيسرع العساكر
إلى تركيب السونك في رؤوس بنادقهم ويحيطوا بالخديوي. يصعق الخديوي كيف أن هؤلاء
الجنود الفلاحين لا يخافون، فيتوجه صاغرًا بطلب إلى البكباشي فودة أفندي حسن: أأمر
العساكر أن ينفرجوا عنا يا بكباشي. فيأمرهم البكباشي فودة. ويتوجه الخديوي ومن معه
إلى ساحة القصر حيث ينصحه كلفن بالتوجه فورًا لمقابلة عرابي ورفاقه الثوار. فيتقدم
الخديوي ومن معه باتجاه عرابي والجيش والشعب. كولفن: هذه ساعتك. الخديوي "هامسًا":
نحن بين أربع نيران. كولفن: كن شجاعًا. الخديوي: إنهم يقتلونا. يقترب الخديوي
ورفاقه من عرابي.
(4)
يلتفت عرابي إلى الضباط خلفه تمامًا، ويصيح آمرًا: اغمدوا سيوفكم وعودوا إلى
الوراء. لكن الضباط الذين تغلي الدماء في عروقهم يرفضون تنفيذ الأمر. يدور الحوار
التالي بين عرابي والخديوي:
الخديوي: ما أسباب حضورك بالجيش إلى هنا...؟
عرابي: جئنا لنعرض عليك طلبات الجيش والأمة كلها، وهي طلبات عادلة.
الخديوي: وما هي هذه الطلبات؟
عرابي: إسقاط الوزارة المستبدة وتشكيل مجلس نواب على النسق الأوربي وإبلاغ الجيش
إلى العدد المعين في الفرمانات السلطانية والتصديق على القوانين العسكرية التي
أمرتم بوضعها.
الخديوي: كل هذه الطلبات لا حق لكم فيها، وأنا ورثت ملك هذه البلاد عن آبائي
وأجدادي، وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا.
عرابي: لقد خلقنا الله أحرارًا ولم نخلق تراثًا ولا عقارًا... فوالله الذي لا إله
إلا هو إننا سوف لا نورث ولا نستعبد بعد اليوم...
كولفن للخديوي: أرى أن نعود إلى القصر يا مولاي للتشاور...
عاد
الخديوي مع الرهط الذي يرافقه لتدبير المكيدة والغدر بالثورة والتخلص من عرابي
ورفاقه الثوار، بينما عرابي يرفض رأي الجيش والشعب بالتخلص من الخديوي.
(5)
الآن التاريخ يعيد نفسه، عرابي، بالضبط، هو شعب مصر العربي الأبي المحتشد في ميادين
مصر الآن، والخديوي ومن معه هو بالضبط حسني مبارك ومن كان معه، ومحمد مرسي ومن جاء
معه. وإذا كان عرابي قد قاوم رأي ضباطه بالتخلص فورًا من الخديوي لأسباب إنسانية،
فإن الخديوي لم يتردد في التآمر على الثورة، ونفي عرابي ورفاقه إلى سيلان. وهذا
بالضبط الدرس الذي تعلمه شعب مصر، فهذا الشعب الذي يعيِّرونه أن لا قيادة له، لن
يُلدغ من الحجر ذاته مرتين، ولعل مصدر قوته أنه يقود نفسه بنفسه، فأولئك الشباب
العربي الشجعان، هم الذين سيعرفون كيف يفرزون قياداتهم من بين صفوفهم، وغدًا يوم
عربي آخر...
*** *** ***