المستقبل السوري واحد
مازن
درويش
السادة القائمون على مؤسسة "برونو كرايسكي" المحترمون:
السيدات والسادة الحضور:
بداية أود أن أشكر لكم حضوركم اليوم، وعلى تشريفي بهذه الجائزة التي تحمل اسم الرجل
الأمثولة "برونو كرايسكي"، والتي سبقني إليها أشخاص من أمثال "نيلسون مانديلا"
و"بينازير بوتو" و"لولادي سلفيا".
وعلى الرغم من أنه لا توجد فرحة لسجين أكبر من إحساسه من أنَّ العالم الخارجي ما
يزال يذكره، إلا أنه أمام الخراب ونزيف الدم الذي يجتاح بلدي يصبح الإحساس بالفرح
رفاهية أخجل أن أشعر بها.
أيها السادة: أود أن أعترف أمامكم أنه لطالما كنت أنظر باستغراب تجاه السيد
"كرايسي"، فكيف لمناضل صلب ورجل دولة مثله أن يدفع بأمته نحو الحياد الدائم
والتنازل طوعًا عن نشوة الانتصار ومتعة الفوز... إلى أن أدركت أنه في الحروب لا
يوجد منتصر، فالكل خاسرون. وأنَّ الفضيلة الوحيدة الموجودة في الحرب هي إمكانية
انتهاؤها... فمن بغداد إلى بوداست، ومن لبنان إلى براغ، ومن فيتنام إلى الكوريتين
تعلمت أنَّ أفضل ما في الحرب هو انتهاؤها. ومن ضحايا الحروب إلى ضحايا التمييز
العنصري في جنوب إفريقيا، إلى روندا إلى البوسنة، إلى ضحايا الاستبداد في عالمنا
العربي وفرانكو وبينوشيه والعقداء اليونانيين، تعلمت أنَّ الطريق إلى الديمقراطية
بعيد كل البعد عن درب التطرُّف والإرهاب بمقدار بعده عن طريق الديكتاتوريات
والاستبداد.
أيها السادة: ربما يكون ما آلت إليه الأمور في سوريا اليوم أسوء من أسوء كوابيسنا،
لكن هل لنا أن نتخلى عن الحق في تغيير واقعنا، وعن طموحاتنا المشروعة في الحرية
والكرامة والمواطنة، وعن واجبنا في تقليص اللامساواة، وإدخال المزيد من العدالة إلى
مجتمعاتنا لأنَّ هذه الشعارات استخدمت كأيديولوجيا، وكمطيَّة، من قبل أنظمة
استبدادية مُتسلِّطة ولحركات عُنفية وتكفيرية؟!
وهل علينا اجترار تجاربنا في العالم العربي مرة بعد مرة، ففي كل مرة تزوَّج فيها
الاستبداد والفساد لم ينجبوا سوى التطرُّف والعنف والإرهاب.
نعم نريد الحرية والكرامة والعدالة، ونستحقها. لكنها حتمًا ليست هي حرية الموت تحت
التعذيب أو ذبحًا، ليست هي حرية الموت بقذيفة طائرة أو بسيارة مفخخة... إنها حرية
الحياة القائمة على أساس المشاركة والائتلاف بين عالمية قيم حقوق الإنسان وخصوصية
الأوضاع والعلاقات الاجتماعية المحلية من أجل إعادة تشكيل مجال إنساني عالمي يجعل
من الحياة تجربة إنسانية أخلاقية ليست ملكًا لهؤلاء بأكثر مما هي ملكًا لأولئك.
أيها السادة: أشخاص كثر أتمنى لو أنه يتسع الوقت والمجال لأخاطبهم اليوم من خلال
منبركم هذا، وبأسمائهم. إلا أنه لكونهم أكثر بكثير من مساحة الوقت، وأكبر من قدرة
الكلمات أو أن أخص زملائي الذين رافقوني في الطريق إلى المعتقل، وإلى هؤلاء الذين
حالفني الحظ أنهم لم يعتقلوا... أشعر بالفخر لأني تشرفت بالعمل معكم وبملامسة
أحلامكم وأوجاعكم.
أصدقائي الذين في كل مرة يذهلوني بوفائهم وبتمسكهم بكل ما أمنا به: لا تفقدوا
إيمانكم حتى لو أنَّ هؤلاء الذين لا يملكون حجارة للبناء رموكم بالخطيئة.
عائلتي الرائعة: شكرًا على صبركم ومحبتكم ومساندتكم لي طوال تلك السنوات الشاقة، لا
شيء له معنى من دونكم.
العناصر الذين تولوا مسؤولية "تأديبي" طوال عشرة أشهر، خصوصًا أولئك في أول أيام
العيد الكبير. أشعر بالأسى لأجلنا، وأتمنى لأولادكم حياة سعيدة خالية من الخوف
والتعذيب، وأعيادًا ملؤها الفرح والمحبة يتشاطرونها مع أولادي إنانا وأداد.
أيها السادة: فقدت في دوامة العنف المجنونة الكثير والكثير من الأحبة بين قتيل
ومعتقل ومصاب ومخطوف ومشرد منهم زميلي الطبيب أيهم غزول والصديق حسن أحمد أزهري،
وابن عمي الملازم أول علي درويش، وأخي سامي عاقل، وصديقي خليل معتوق... لهم
ولعائلاتهم جميعًا انحني. خنقت دموعي طوال هذه الفترة لأنها أصغر من أحزانكم،
وأطلقت صوتي لنخرج جميعًا إلى الشمس يدًا بيد نصرخ معًا من جديد:
واحد واحد واحد الشعب السوري واحد.
الدم السوري واحد.
المستقبل السوري واحد.
سجن دمشق المركزي
*** *** ***