مأساة ممِّي آلان
محمد باقي محمد
الليلة الأولى:
أنَّ الراوي قال:
فلما نأى ذلك اليوم البعيد – الذي قاد فيه العسكر "ممِّي آلان" إلى "السفر برلك" –
عن الذاكرة الواهنة لأمٍٍّ أضناها الفراق، جفاها النوم، وهجرتها الطمأنينة، وعلى
قلبها والعينين ران تأرُّق عنيد، فخرجت إلى صحن الدار تناجي طيف وحيدها الغائب:
أيتها الذرى الذاهبة - بعيدًا - في السماء، أيْنهُ!؟
لا
تهزي أكتافك المُتدثرة بالخضرة، لتقولي لي - من ثمَّ - بأنَّك لا تعرفين! فلقد
خالسَني يومًا، وانحدر نحو أقدامك على صهوة جواده الكميت!
أيتها الشعاب والغيران الغائصة في ضباب الصباح، بالله عليك دلِّيني، أين أخفيتِ
"ممّ"، ولا تنكري على أمٍٍّ مُلوَّعة سندها الوحيد وفلذة كبدها!
أيتها اللغة التي تفيء إلى الصمت، ألستِ شاهدة على أنك كنت قد أعرته أجنحتك الشفيفه
لحظة أن رحل، فإذا تغافلتِ عن توسُّطك في ما بيننا آنئذ، فلا تذهبي إلى أنك ما كنت
الكلمات الغميسة بالأسى، حين قال... ولكنني سأعود يا أماه!
وأنت أيها "السفر برلك"! أما أزف أوان أوبته!؟ لكم أنت كتوم أيها "السفر برلك" كليل
داج! لكم أنت مُؤلم مثلما خراج - في الجوف - ينـزُّ!
آه
أيها "السفر برلك"! هي الشـيخوخة تخلخل العمر، مُبعثرة سنواته المُثقلة بلوعة
الانتظار، وتبحث عن يدٍ حانية تفيض بين أصابعها الروح!
مقدِّمات الليلة الأولى:
وقال الراوي:
وكانت الأم تجهل بأنَّ "ممّوها" قد عاد، غبَّ أن دخل الليل نصفه الأكثر صمتًا،
وأسبلت المساكن جفونها!
أمَّا لِمَ لمْ يسعَ (ممّ) إلى أمِّه أولاً!؟
وما
الذي دفعه لأن يتسلل إلى الدار من الباب الخلفي، ويندسَّ في فراش زوجته؟!
هل
كانت الزوجة تعرف بأنَّ حماتها جالسة في صحن الدار، تناجي صورة ابنها الغائب!؟
أم
أنَّ "ممّ" كان يدفع الأقدار حتى ترتسمَ بالطريقة التي اتفُّق وقوعها بها!؟
فإنَّ الراوي لم يكن يملك إجابات شافية لهذه الأسئلة، لذلك فإنَّه تجاهلها، وعاد
يسهب في الكلام عمَّا يعرفه، مردفًا:
وكان به شوق عارم لرؤية والدته وزوجته، لكنه آثر أن يؤجِّل لقاء أمه إشفاقًا على
عمرها، فهل كان "ممّ" يعرف أنه بذلك يحرف ليلته الأولى - هذه - عن مسارها، لتتَّخذَ
سمتها باتجاه أن تكون ليلته الأخيرة!؟
تفاصيل الليلة الأولى:
أمَّا الزوجة، فتقول في معرض ما وقع من تفاصيل في الليلة الأخيرة:
ما
إن دخل "ممّ" عليَّ، حتى شعرت بأن ليلاً غامرًا - ظلَّ يضغظ بثقله المُبهظ على
الأعماق لسنوات سبع - ينـزاح عنها، وأنَّ غصنًا - كنتُ قد توهَّمتُ بأنَّه يبسَ -
شرع يُزهر فيها!
الليالي الطويلات المُتقلِّبة بين قطبي القلق المُمضِّ والحنين، تراجعت إلى حجمها
وزمنها الموضوعيِّيْن!
والجسد الذي ثار على الفوات والخسران آناء الليل وأطراف النهار هدأ واستكنّ!
والأشواق التي بثثتها له مع خفقات الأجنحة والرسائل، اجتمعت إلى بعضها جذلى، حتى
لكأنها كانت - حقًا - السبب في عودته!
شيئًا فشيئًا، كانت المُفاجأة المذهلة تلج سياقها، ومعها كانت الألسنة التي رمتني
بالسوء في غيابه، والمحاولات التي رامت زعزعة علاقتي به ترتدُّ إلى أصحابها
مدحورةً!
قمتُ!
إلى
أين!؟ قال، فقلت:
أزفُّ البشرى إلى أمِّك!
لكنّه قال:
هي
امرأة طاعنة في السنِّ، فدعي البشرى إلى أن يستيقظ الصباح!
زهرة دانية للقطوف كنت، وكان "ممّ" نحلة تطوف بفوافيَّ! وكصحراء قاحلةٍ تفاجأتْ
بالمطر أنشأتُ أرتشف الهتون الزاخر الأعطاف بما اختزنه من توق دافق!
كان
يكرُّ، فأجاريه بشغف شهويٍّ وأفرُّ، ثمَّ يناله التعب، فيتراجع مُفسحًا لي المجال
لأداور وأناور وأكرُّ!
وكانت ليلة سكرى بالأشواق وعبيق القبل، حتى إذا أخذ الإرهاق منه كلَّ مأخذ، انقلب
على ظهره، وراح في نوم عميق!
إضافات على الليلة الأخيرة:
بينما أضاف "ممّ" نفسه ما يمكن أن يعدَّه الراوي إضافات تضيء ما قبل الليلة
الأخيرة، وليس ما بعدها، إذْ قال:
كانت السنوات تمرُّ ثقيلة، بطيئة، ومُضنية، كنتُ خلالها رهين إحساس مرمض بأنَّني
عود أصابه اليباس، أمَّا عدوي الأكبر - إذا استثنيت الذاكرة - فكان يتلخَّص في كلمة
واحدة هي "الزمن"!
صيف
أحمق، يليه شتاء أرعن، وخريف أعجف، يليه ربيع لا يشبه الربيع في شيء! فلا تسلني عن
البلدان الكثيرة التي قادتني قدماي إليها! ولا تسلني عن قطعات "الانكشـاريـة"
المختلفة التي قاتلت معها في "البوسنة" و"اليونان" و"كريت" و"قونيـة"!
يا
الله! كم مرةٍ اكتسى الموت فيها شحمًا ولحمًا، وواجهني، ولكنني لا أعرف كيف أفلتُّ
منه! وكم فجرٍ مُكحَّل بالغبشة تفكَّرت بأنَّه الفجر الأخير الذي أشهده! وكم شاقني
توق لا يُحدُّ إلى أمي وزوجتي! وكم هزَّني القلق عليهما في غيابي، فيما الذاكرة
تنشقُّ عن إدراك حادٍ، بأنْ لا أحد لهما يعتمدان عليه من بعدي، فيتضاعف قلقي، وتروح
الأسئلة تقضُّ مضجعي متمحورةً في متى، وكيف!؟
كلُّ شيء كان يناديني! حجارة الوادي الصماء التي ألفتني لكثرة ما اعتليتها، قزعات
الغيوم التي كانت تظلِّل كوخنا كلَّ حين، الثلج الناصع البياض الذي كان يجلِّل
هامات الجبال من حولنا، حقلي الصغير، وقطيعي، وقبضة محراثي القديم، أنسام الروابي
الوانية، وكنت قد يئستُ من العودة!
ولكن الفرج أعقب اليأس على غير موعد، فرحتُ أسابق النَفَس إلى أهلي! أنْ أفوق العين
في رؤيتها، أو أستعير من الطير جناحيه، وأحمِّل الريح البشرى، تلك كانت - لحظتها -
أمنيتي الأولى والأخيرة، إلى أن وصلت، فأية فرحة!
خاتمة الليلة الأخيرة:
ثمَّ أنَّ الفجر أخذ يتوَّغل في جسد الليل البهيم، وما من مُجيب إلا الصدى، ما دفع
بالعجوز إلى أحضان إحباط ضاغط، كان البرد قد فعل فعله في الجسد المُهدَّم، فاستدارت
نحو الباب لتدخل، لكنها تفاجأت بما رابَها!
أيتها الآلهة صبِّي غضبك على هذا الكون المُدنَّس!
فمن
هذا النائم في فراش "ممّ"!؟
رباه! أية امرأة تستطيع أن تخون رجلاً كمثله!؟
وقال الراوي؛ ثمَّ أنها انتضَّت خنجرًا، كان "ممّ" قد تركه بحوزتها، وتقدمت من
الفراش تقدُّم مرجل يغلي بحقد دفين. كان شعر الزوجة يغطي وجهه، فلم تتمكَّن العجوز
من معرفة ابنها! كلُّ شيء من حولها كان ينضح برائحة الخيانة، يغوص في مستنقع
القذارة، ويدفع إلى أعتاب الهذيان، بله الجنون! عاليًا رفعت الخنجر، مُستمدَّة من
سنوات الانتظار والقلق قوة لا تعرف من أين واتتها، وهوت به على صدر الرجل مرَّة،
لكن الأتون المتقدَّ في أحشائها لم ينطفىء، ولم يسمح لأذنيها الموشكتين على الصمم
بالتقاط حمحمة حصانه، فهوت بالخنجر ثانية وثالثة، مدفوعة بغضب أهوج يسوط الأعصاب
ويفتِّتها، ثم التفتتْ نحو المرأة الشابة، ورفعت الخنجر بكرب، بيد أنَّ الصهيل
المتألم تمكن - أخيرًا - من اختراق أذنيها، فتوقفت اليد في منتصف المسافة، وخفت إلى
الباب بتعثُّر.
ربَّاه! لو أنَّ هذا العالم الداعر ينفجر!
لو
أنَّ هذا الزمن الموبوء يتشظى!
لو
أنَّ هذه اليمين المُخضبَّة بالدم تُشلُّ!
ترنَّحت الأرض، ومادت، وغامت الدنيا في عينيها، فتهاوت على ركبتيها جاثية!
آه
أيها العالم! أيُّ خواء يملؤك!؟ وأي جدوى!؟ أيُّ رجاء يُنتظر بعد!؟
كان
جواد "ممّ" يرفع قائمتيه الأماميتيْن مُحمحمًا بغضب، كمن يعتزم أن يتسلق حبال
الهواء، ويضرب بسنابكه الأرض، يحفرها مُحاولاً التخلص من لجامه، ومن كلِّ موضع في
جسده كان العرق ينزُّ، بينما كان صهيله يشقُّ عنان السماء!
وا
ا ا ا ممّو و و و ه ه ه!
سقط
الخنجر على الأرض، وانتشرت صرخة العجوز التي تهاوت جاثية على ركبتيها في الجهات
الأربع.
***
*** ***