الأضـحـيـة
حسان
يونس
التضحية
مفهوم ملتبس لدى البشر وخاصة مع قدرة الزمن على إفراغ كافة القضايا من معانيها بل
وإلباسها معانٍ مغايرة، فمن المفترض أن يذهب معنى التضحية إلى تقديم ما هو غالٍ،
وكلما ازدادت أهمية الشيء المُقَدَّم كان للتضحية دلالة أعمق في إظهار تحرُّر
المضحِّي من ارتباطه بما يقدمه لصالح ارتباطه بما يقدِّم لأجله، وهذا المعنى حسب
مفهوم علوم الطاقة الحيوية[1]
ينصرف إلى هدم روابط الإنسان وتعلُّقاته بالعناصر العابرة الطارئة على وجوده من
خلال التضحية بها وتأكيد تعلُّقه بالمعنى الكلي للوجود فقط، وهو "الله" حسب المفهوم
الديني من خلال التضحية لأجله بكل ما سبق. وربما تمثل قصة تضحية النبي إبراهيم
بابنه إسماعيل أكثر تجليات التضحية عمقًا حين يُطلب إلى شيخ بلغ أرذل العمر أن
يضحِّي بابنه الذي جاءه بعد انتظار طال أمده. في تلك القصة، وبعيدًا عن كونها
واقعًا أم أسطورة، هناك نموذج لتحرير الإنسان من ارتباطاته النسبية في أكثر حالاتها
عمقًا لصالح ارتباطه المطلق الأوحد الذي ضاع لدى كُثُر في غمرة وضبابية الارتباطات
الكثيرة العابرة. فهناك دائمًا تنازع سلطات في عالم الإنسان الداخلي بين الارتباطات
النسبية العابرة والارتباط المطلق الأوحد، والتضحية هي نموذج لحسم هذا التنازع
لصالح الارتباط المطلق الأوحد، لذا فالأضحية حسب مفهوم علوم الكارما[2]
هي مفهوم واسع متشعب يطال كل ما يتعلق به الإنسان ويشتهيه ولا يتوقف عند مسألة
الأضاحي البشرية أو الحيوانية. وبما أن الإنسان هو كائن نسبي فهو خاضع لأن يكون
أضحية لصالح المطلق، والحياة تفرض في حالات التعلُّق الشديد والوله هذا النوع من
التضحية حيث يسقط الأشخاص الذين يتم التعلق بهم بشدة في حوادث غامضة، ويبدو هذا
الأمر أكثر وضوحًا في حالة النجوم والمشاهير الذين يستقطبون انفعالات حلقات واسعة
من البشر.
لكن
هذا المفهوم للأضحية الذي تقول به علوم الطاقة الحيوية، وتقول به أيضًا المفاهيم
الدينية لكن بكلمات أخرى، جرت قراءته بشكل مختلف من قبل سيغموند فرويد[3]
الذي رأى أن الأضحية هي محاولة تكفير عن حدث مروع تم ارتكابه من قبل كافة الجماعات
البشرية في الزمان السحيق من خلال استعادة مسرحية تذكيرية لهذا الحدث، حيث كانت تلك
الجماعات تعيش وفق هيكلية قطيع يتحكم بموارده ذكر مسيطر ويحقِّق ذلك القطيع
استمراره من خلال هذا الذكر الذي كان وحده مخولاً بالتمتع بالموارد وبممارسة الجنس
وإنجاب السلالة القادمة. وبطبيعة الحال جرت محاولة لكسر هذا الاحتكار وحدثت الجريمة
الأولى. وغير بعيد عن قراءة سيغموند فرويد هذه تقول العقائد الدينية كافة سواء كانت
سماوية أو غير سماوية بحدوث جريمة أولى ارتكبها إنسان (قابيل الفلاح حسب النص
السماوي يقابله تموزي أو دموزي الفلاح أيضًا حسب نص أسطورة عشتارت بحق هابيل الراعي
حسب النص السماوي يقابله
أنكي-أمدو الراعي أيضًا حسب
نص
الأسطورة)[4]
محروم من القبول الإلهي بحق إنسان اصطفاه الله وقرَّبه إليه. علمًا أن النص السماوي
استبدل موضوع التنازع الذي أنتج الجريمة الأولى، والذي هو المرأة والحق في الإخصاب
وإنجاب السلالات اللاحقة حسب الأسطورة وحسب فرويد، بالقبول الإلهي وهذا يرجع إلى
التحول عبر العصور بين الديانة المؤنثة والديانة المذكرة[5].
هذا
المفهوم الفرويدي، الديني، الأسطوري، وبعيدًا عن الاختلاف في المصطلحات، بقي ساريًا
في الحضارات القديمة ذات النظم الأبوية الأحادية حيث كان يعتقد المصريون أن الفرعون
هو المخول بإعادة إحياء السلالة المصرية واستمرارها، طبعًا ليس من خلال ممارسة
حصرية للجنس مع كافة النساء كما طرح فرويد الأمر في العائلات القطيعية الأولى، لكن
وفق مفهوم أكثر تطورًا من خلال قدرة روح الفرعون الحصرية على العودة وإخصاب الأرض
وإنجاب الأجيال اللاحقة من البشر المؤمنين بعودته عندما يكون كل شيء قد استحوذ عليه
الرماد. وهذه الفكرة لا تزال حاضرة في كافة الرؤى الدينية حول أحداث نهاية العالم
حيث يؤمن اليهود أن "مسيحهم" سيعود وأنه سيمارس ذكورته في إحياء السلالة المؤمنة به
لتحكم العالم كما كان يفترض أن يفعل الفرعون المصري. وكذلك يؤمن بذلك المسيحيون
عمومًا، وخاصة المسيحيون الإنجيليون "المولودون ثانية" عبر الإيمان بالمسيح ومنهم
جورج بوش الابن والمحافظون الجدد[6].
وكذلك الأمر بالنسبة للمسلمين من خلال إيمانهم بعودة المهدي وقيادة المؤمنين به إلى
البقاء دون سائر البشر، وهو فعل إخصاب بمعنى من المعاني.
بالعودة إلى الجريمة المروعة التي ذكرها فرويد، والتي ذكرتها كافة الأساطير
الدينية، وبالعودة إلى محاولات التكفير عنها من خلال استعادتها مسرحيًا عبر الأضحية
البشرية ومن ثم الأضحية الحيوانية لاحقًا: هذه الجريمة لا تزال حاضرة وفاعلة ليس
كتأثير نفسي أسطوري ولكن كحدث متكرر، فقتل ذكر القطيع أو الأب المؤسس في الجماعات
الأبوية بقي حدثًا مفصليًا يُبنى عليه ما بعده. وغالبًا ما كان قتل القادة والزعماء
والشخصيات الملهمة التي أخصبت روح الجماعة ودفعتها للبقاء، يستمر ويتتابع خلال عصور
طويلة لاحقة بالكثير من الدماء والمجازر والقتل المتتابع في نوع من التضحية غير
المقصودة لغسل دمائهم. وذلك الأمر نشهده في قضية صلب المسيح أو مقتل الحسين وعمليات
القتل السياسي كاغتيال عثمان بن عفان قديمًا واغتيال رفيق الحريري وبشير الجميل
راهنًا، علمًا أن ذكر القطيع لا يزال حاضرًا في المجتمعات الأبوية عبر الدكتاتور
المتحكِّم بالموارد، كما أن "جريمة اغتيال ذكر القطيع" لا تزال حاضرة في الثورات
على الدكتاتور التي غالبًا ما تكون دموية تفضي إلى دكتاتورية أخرى وحكم عنفي ينتهي
إلى الترحم على الدكتاتور السالف والندم على رحيله فيما يشبه حالات الندم الرمزية
التي تمثلها الأضحية.
بالعودة إلى القدس وإلى منطقة الشرق الأوسط المتحلِّقة حولها وحول تاريخها نجد أن
هذه المنطقة الحبلى بالرسل والأنبياء والصراعات والطاقة سواء الروحانية أو المادية
هي نموذج لتقديم الأضاحي، فكثيرٌ من الشعوب جرت التضحية بهم من أجل هذا المكان
المشبع بالخصب الروحي والمادي الذي يعطي الحق والقدرة على البقاء عندما يزول
الجميع. وهذا المعنى يعيدنا إلى فكرة الذكر المولج بالإبقاء على جماعته حسب ما ذكر
فرويد وحسب ما ذكرت كافة الرؤى الدينية لبداية العالم ونهايته كما ذكرنا أعلاه.
يبقى الالتباس المتعلق بمفهوم الأضحية، فالتضحية هي تحرير للإنسان من ارتباطاته
لصالح الارتباط الأسمى، فحتى قرونٍ عدة مضت كان الهنود الحمر في حضارات المايا
والازتك والانكا يضحُّون بأجمل شبابهم وفتياتهم وأكثرهم إغراءً للمجتمع وانتماءً
للطبقة العليا في عمليات تضحية دموية يتم فيها إلقاء الأضحية من أعلى مسلِّة أو يتم
دفنه حيًا في معابد نائية في أعالي الجبال[7]،
وقد تم إيجاد بعض هذه الأضاحي في تمام حالها كما دفنت محفوظة بالبرودة والعزلة.
وهذا تبسيط لمسألة أن تضحي الجماعة بالغالي إرضاء لارتباطها الأسمى. ما حدث هو أنه
خلال التاريخ القديم وصولاً إلى يومنا هذا تم إفراغ هذا المعنى وتحويره إلى التضحية
بالأعباء وبالأعداء إرضاء للارتباط الأسمى، فكما هو مذكور في التاريخ القديم[8]
أن الإمبراطور الروماني اورليانوس وبعد هزيمته للجيش التدمري على مشارف حمص قدم
للإله جوبيتر الكثير من الأضاحي من أعدائه ناسبًا انتصاره إلى ذلك الإله[9].
والأمر ذاته تم طرحه في الفيلم الشهير "ابوكاليبتو" للمخرج ميل غيبسون، طبعًا
الكتابات التوراتية والتلمودية حافلة بالنصوص التي تتحدث عن تقديم الأعداء كأضاحي
للإله، وفي العصر الحالي أعاد كمال جنبلاط طرح هذا الأمر في إشارته إلى تغذية
الاستخبارات الأمريكية لاندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في السبعينات من القرن
الماضي[10]،
إذ ليس من المستبعد أن تكون تلك الضحايا هي نذر تم تقديمها لآلهة الحرب كي تحقق
للامبراطوريات خطواتها الكبرى، فإذا كان إنسان فرد يستطيع تقديم ذبيحة من نوع ما كي
يستجيب الله لمشاريعه أفلا تستطيع امبراطورية كونية كالولايات المتحدة تقديم عدة
آلاف من الضحايا للآلهة كي تستجيب تلك الآلهة للمشاريع الامبراطورية، خاصة إذا كان
الرؤساء الأمريكيون كجورج بوش الابن ورونالد ريغان مسكونين بالفكر الأسطوري الذي
دفع الملوك والشعوب القديمة إلى تقديم الضحايا الدموية إلى آلهتها كي تستجيب
لنداءاتها.
*** *** ***
سلسلة
الكارما،
ن.لازاريف، منشورات علاء الدين.
النبوءة
والسياسة: لماذا تضحي امريكا بمصالحها،
كريس هالسل.
لغز
عشتار،
فراس السواح، دار علاء الدين، ط8،
ص
289.
تدمر،
المؤرخ عدنان البني.