|
قصتان قصيرتان
الخبز أكان لزامًا عليَّ أن أتذكر ذلك اليوم؟ ربما كان حلمًا من أحلام طفولتي البعيدة. كنت أرى سقف غرفتنا الكبيرة يبرد في سنوات الحرب، إذ لا شيء يجعل من الغرفة دافئة سوى حرارة ذلك الموقد النفطي. طاولة مستديرة تحتل مكانًا واسعًا في الوسط، والكرسي القديم المتهالك الذي كانت تجلس عليه والدتي وتتقرفص وكأنها تعبى جدًا من عمل شاق. كنت أحلم بهذا كله في بعض الأحيان... بيد أن هذا الحلم لم يكن قريبًا، لم يكن في الليلة الماضية أو في الصباح كما تظنون بل حدث ذلك حين رمى ابني الخبز المتبقي من يوم أمس وطلب خبزًا حارًا يستلذ بأكله. هل هذا سبب من أسباب تذكري؟ ربما. لا حاجة للبحث عن سبب. كان لزامًا عليَّ أن أتذكر ذلك عاجلاً أم آجلاً لأنها لم تكن لحظات عابرة كي أنساها مرة أخرى. كيف لي أن أعيد بذاكرتي كل هذه الأشياء؟ لا يوجد ما هو أسهل من تدوينها. كل الذي قلته حقيقة... في طريق العودة أكلت أمي خبز الحرب، ذلك الخبز الأسود الثقيل. حين رأيت حافة الخبز وقد قضم منها الكثير صرخت: لقد أكلتم قطعة منه في الطريق. كان عليكم أن تقسموها بالتساوي! نظرت أمي إليَّ والرعب يملأ عينيها. كانت شفتاها البيض تتكلمان من دون صوت وكنت وجلاً جدًا من هذا الصمت الذي يخيم على غرفتنا. قلب أمي تملؤه التعاسة والشقاء ومع هذا فإن عيونها تنظر إليَّ بحنان. لم أتذكر كيف وليت هاربًا من البيت، كان الوقت ليلاً حين عدت إلى البيت ولم أتوقع أن أجد أحدًا غير أني فوجئت بوالدتي. نظرت في وجهي وقالت مسرعة: إذا بدأت أقسم الخبز كما يفعل الآخرون فإن قلبي سيتحطم. لا أريد هذا، هذه الكلمات التي كانت تدور في فمي. كل شيء كان على هذه الشاكلة. عند العشاء قسمت أمي الخبز فقطعت من حصتها جزءًا وقدمته لي. لم أستطع بل لم أمتلك الشجاعة الكافية لألمس يدها. ليس هذا تبريرًا، فالكلمات قد قيلت إلا أن خجلي صهرته السنون. اغفري لي يا امي. هل طلبت المغفرة؟ كلا... لقد غفرت لي لكنني لا أغفر لها مسامحتها لي في تلك اللحظة. *** الأم مشيت على طول الطريق الضيقة والهادئة وبين الحيطان العالية لمدينة باكو. البوابات تأخذ مساحة وتعمل فتحة في الحيطان فتنبسط ظلال الحدائق الصيفية للأكواخ القابعة خلفها. كان الجو حارًا فذهبت باتجاه البحر. "ماكفيرات" نادى علي البعض بهذا الاسم. وقفت برهة. كان هذا اسم والدتي. كان يومًا غير اعتيادي لأني سمعت هذا الاسم الذي يعد قديمًا ولم أسمعه منذ فترة طويلة. كان الجو باردًا وهو يفتش قرب حائط أو بوابة لسنوات مضت. كان الجو حارًا... كنت أرى البحر من على شجرة توت طويلة. كان البحر عميقًا وأزرق وهادئًا على غير عادته. عندما كنت أقطف التوت، يملأ يدي لون قرمزي وتنفجر قطرات صغيرة جدًا فوق صدري المكشوف تشبه علامات أصلية. كان التوت حلوًا لكن طعمه حامض. تجلس أمي تحت الشجرة وأنا أقطف التوت الكبير الحجم واقدمه لها بكوز مطلي بالمينا. كان حارًا... أشتعلت النار بالموقد الطيني... فخبزت أمي فطيرًا لنا. كنت أجلس في الشرفة، وفي يدي فطيرة حارة أنقلها من يد إلى يد أخرى. لم أتمكن من تبريدها فحرقت فمي. ضحكت أمي وجاءت مسرعة لترى فمي. كان حارًا. أستطيع أن أرى الرمل المخطط في قاع البحر. فرشت أمي سجادة كبيرة على مقربة من حافة المياه وغسلتها. ثمة موجات صغيرة ترتفع عاليًا وتضرب فقاعات الصابون. كان كل شيء يبدو جميلاً تحت الشمس حتى خطوط تلك السجادة تبدو أكثر بهاء وجمالاً. الماء تحت قدمي يبدو دافئًا وأكثر نعومة. نادتني أمي "هذا يكفي، اخرجي". "امهليني قليلاً" غطست تحت الماء مرة وأخرى ووصلت إلى القاع فجلبت حفنة من رمل وصعدت إلى أعلى الماء. كان لون الرمل بين اللون الرمادي والأسود، يشبه الطين، وكنت أتمنى أن أبقى تحت الماء فترة أطول. لم أر البحر منذ مدة طويلة. توقفنا عن الخروج صيفًا بسبب الحرب. خطى المرض في تلك السنوات خطوات واسعة في جسد أمي. كانت تضطجع بهدوء، إنها تتنفس بصعوبة بالغة. كنت أضع كتبي المدرسية وألقي نظرة عليها، فأرى جفونها الرقيقة ترتجف وصدرها الرفيع نادرًا ما يرتفع. إنك في الستين الآن. لم أستطع أن أتخيلها بهذا العمر "أتذكرك شابة جميلة، أجمل ما رأت عيني في العالم". ترجمة: رياض عبد الواحد *** *** *** ٭ ولد القاص جنكيز عام 1939 في مدينة باكو. تخرج في جامعة موسكو عام 1952 واكمل دراسته العليا في أحد الفروع العلمية. ظهر أول نتاج له عام 1962 بعنوان أختي. في عام 1964 ظهرت له مجموعة قصصية بعنوان انتهت الدقيقة. عام 1965 ظهرت له مجموعة أخرى بعنوان ريح فوق المدينة. |
|
|