الألفا والأوميغا

 

سكوت بِك

 

ويبقى السؤال: من أين يأتي الحبُّ؟ ويمكننا أن نردَّه الى سؤال آخر ربما يكون أكثر جذرية وشمولاً: من أين تأتي قوَّة التطوُّر برمَّتها؟ وإلى السؤال الأخير يمكن أن نضيف حيرتنا وارتباكنا إزاء أصول البرَكة، لأنَّ الحبَّ واعٍ، أمَّا البرَكة فليست كذلك. من أين تأتي تلك القوَّة القادرة، الناشئة خارج نطاق وعينا البشري، المعزَّزة والراعية لنمونا الروحي؟

ليس بمقدورنا الإجابة عن هذه الأسئلة بذات الطريقة "العلمية" التي يمكننا أن نجيب بها عن منشأ الحديد أو الطحين أو ديدان الأرض، وليس السبب ببساطة أنها أسئلة غير محسوسة ومدرَكة، بل هو أنها أكثر عمقًا وجذرية من "علمنا" كما هو عليه حاليًا، والأسئلة المذكورة أعلاه لا تشمل جميع الأسئلة التي يعجز العلم أن يجيب عنها: هل نعلم حقًا ماهية الكهرباء على سبيل المثال؟ من أين تأتي الطاقة في البدء؟ من أين أتى الكون؟ ربما يجد علم أجوبتنا يومًا ما حلاً لمعظم الأسئلة الأساسية، وريثما يأتي ذلك الوقت – إن فعَل – بوسعنا فقط أن نراقب وننظِّر ونفترض ونشكَّ.

حتى نفسِّر معجزتي البرَكة والتطوُّر، نعتقد بوجود إله يريد لنا أن ننمو، إله يحبُّنا. ورغم أن هذا الاعتقاد يبدو للكثيرين بسيطًا وسهلاً، طفوليًا وخياليًا، فما الذي نملكه سواه؟ إن تجاهل الحقائق ليس إجابة: لا يمكن أن نحصل على الجواب بعدم طرح السؤال، لم يكن بمقدور أي امرء راقب الوقائع وسأل الأسئلة أن يأتي باعتقاد أفضل أو حتى بأي اعتقاد آخر، وريثما يفعلها أحدهم سيظل علينا أن نختار بين "الاعتقاد البسيط إياه" وبين الفراغ النظري البحت.

إذا أخذنا الأمر على محمل الجدِّ، سنجد أنَّ هذا المفهوم البسيط عن الإله المحبِّ ليس فلسفة سهلة.

إذا افترضنا أنَّ قدرتنا على الحبِّ، ذاك الدافع القوي إلى النموِّ والتطوُّر، هو – بشكل من الأشكال – موحى به إلينا من الإله، علينا أن نسأل: إلى أيَّة نهاية ومآل؟ لماذا يريد لنا الله أن ننمو؟ ونحو أيِّ هدف ننمو؟ أين تقع نقطة المنتهى، هدف التطوُّر الأخير؟ ماذا يريد الله منا؟

ليس في نيَّتي هنا أن أشارك في جدل لاهوتي، وأتمنى أن يسامحني علماء اللاهوت إذا عبرتُ طرق الـ"إذا" والـ"وَ" والـ"لكنْ" في التأملات اللاهوتية، لأن جميعنا ممن يفترض وجود إله محبٍّ ويؤمن بهذا فعلاً، لا بدَّ أن يصل في النتيجة إلى الفكرة المخيفة مهما حاول أن يدور حولها خلسة: يريد لنا الله أن نصير هوَ، نحن ننمو ونتطوَّر باتجاه الألوهة، الله هو غاية التطوُّر ومنتهاه، وهو مصدر قوَّة النموِّ والوجهة النهائية؛ وهذا ما نقصده بالقول إن الله هو الألفا والأوميغا، هو البداية والنهاية.

حين قلت إن الفكرة السابقة مخيفة كنت معتدلاً للغاية: إنها فكرة قديمة جدًا، لكننا – ملايين البشر – لُذنا بالفرار منها برعب محض عبر العصور، والحال أنه لم تخطر ببال العقل البشري في تاريخه فكرة ألقت عليه عبئًا ثقيلاً كهذا العبء، وهي الفكرة الأكثر إلحاحًا ومطالبة في تاريخ الإنسانية، لا لأنها صعبة الإقناع، على العكس: فهي البساطة عينُها، بل لأننا إذا صدَّقناها كان علينا أن نمنح في سبيلها كل ما نملك، كل ما يمكن لنا أن نعطيه.

الإيمان بإله قديم محبٍّ يرعانا من موقع علوٍّ وقدرة لا يمكننا بلوغه بحال هو أمر، والإيمان بإله يريد لنا (حرفيًا) أن نبلغ مكانه ونملك قدرته وحكمته، أن نصير هوَ، أمر آخر تمامًا.

حين نعتقد أن بمقدور الإنسان أن يصير إلهًا، فهذا الاعتقاد بطبيعته يلقي علينا واجبًا يجعلنا نحاول بلوغ الممكن، لكننا لا نرغب بهذا الواجب، نهرب من هذا العمل الشاق، من هذه المسؤولية الإلهية.

نحن لا نريد أن تقع علينا مسؤولية التفكير طيلة الوقت، فما دمنا نعتقد باستحالة بلوغ الألوهة بأنفسنا لن نقلق بشأن نموِّنا الروحي، ولن يكون علينا أن ندفع بأنفسنا إلى درجات أعلى من الوعي وفعل المحبة، يكفينا حينذاك أن نسترخي ونكون "بشرًا عاديين". إذا كان الله في عليائه ونحن هنا في الأسفل – ومحال أن يلتقي الاثنان – فيمكننا أن نلقي بالمسؤولية الكاملة على عاتقه فيما يخصُّ نموَّنا وتطوُّرنا وإدارة الكون، ويكفي أن نؤمِّن شيخوخة مريحة وننهي حياتنا بصحة جيدة محاطين بأولاد وأحفاد سعداء، لا داعٍ ثمة لإزعاج أنفسنا بأكثر من هذا، فهو هدف صعب التحقيق ولا يمكن الاستهانة به.

لكننا حين نؤمن بإمكانية أن يصير الإنسان إلهًا، لن يكون بإمكاننا أن نرتاح ونقول: "حسنًا، انتهى عملي، أتممت مهمتي"، بل سيجب علينا أن ندفع بأنفسنا نحو حكمة أعظم وأوسع، وتأثير أكبر وأشد؛ بهذا الاعتقاد – إذًا – نكون قد كرَّسنا أنفسنا – أقلَّه حتى لحظة موتنا – لجهدٍ لا يتوقف غايته تطوير نمونا الروحي ، ونكون قد ألقينا مهمة الله على عاتقنا نحن؛ ليس من المستغرب إذًا أن يكون الاعتقاد بإمكانية تحقيق البشر لألوهتهم فكرة مرعبة تخشاها الغالبية، ففكرة أن الله يرعانا على نحو يمكن من خلاله أن ننمو لنصبح هوَ، تضعنا حالاً في مواجهة كسلنا الذاتي.

ترجمة: سامر زكريا

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود