|
نافخ الزجاج الأعمى
مجموعة جديدة للشاعر التونسي آدم فتحي
لعل الرؤية الشعرية عمياء قبل أن تبصر. وإن حدث وأن أبصرت لبرهة أو أكثر، فقد ترتد إلى عماها من جديد. من على التخوم القريبة على الحد الفاصل بين العمى والإبصار، تنتقل الرؤية بين هذا وذاك وهي على خشية من أن يدوم العمى طويلاً وتتقلص دهشة الإبصار إلى حدودها القصوى. ومع ذلك ثمة خلل فاضح في هذه المعادلة. فقد يفتح العمى منافذ الرؤية على الرؤية. وقد يقفل الإبصار منافذ الرؤية على الرؤية. يعول الشاعر التونسي، آدم فتحي، على هذه المعادلة المرهفة في مجموعته الجديدة نافخ الزجاج الأعمى الصادرة حديثًا عن "منشورات الجمل" في بيروت. يلجأ في نصوصه إلى استخدام نموذج الأعمى الذي راح ينأى بنفسه عن توظيف غريزة النظر بالعين واستبدالها، من دون تردد، بغريزة النظر بالقلب. الأولى معاينة هشة ومتسرعة ومقتضبة في هندسة الأشكال والألوان وهي تتكدس عشوائيًا في واقع يبدو مستقلاً كثيرًا عن هندسة اللغة وذاكرتها. الثانية، معاينة في دلالات المشهد. في روحه التي تتحرك بصمت في داخله، في صورته الشعرية التي تعود به إلى أصله المتحول. هذا الأعمى نافخ الزجاج، كما توحي به النصوص، هو ذلك الشاعر الذي حملته رغبته في الرؤية على الانتقال من ذاكرة الأبصار بالعين إلى ذاكرة الإبصار بالقلب. من الاستمتاع الموقت بالنظر إلى الأشكال وأشكالها إلى الاستمتاع الدائم بالنظر إلى الأشياء في ماهيتها الداخلية العميقة. في دلالاتها المتحركة التي تختطف المعنى من وجوده التلقائي المباشر، إلى وجود آخر يذهب بعيدًا في عالم الظلال. هناك في ذلك المنعطف بين العدم والوجود، يصبح بمقدور الصورة الشعرية، من خلال الرؤية الداخلية المغرقة في العمى، أن تهتدي إلى معنى المعنى. إلى لغة مغايرة ليس مردها إلى اللغة بل إلى ذاكرتها الدفينة في اللغة. المتوارية عن الأنظار خلف أشكال الكون، إلى حقائقه المتحولة في دلالات شاسعة من الظلال الذاهبة إلى ظلالها. قرابة السبعين نصًا تشتمل عليها المجموعة المُشار اليها، تتماثل في الحجم والايقاع، بشكل أو بآخر. يروي آدم فتحي من خلالها سيرة هذا الأعمى الذي وجد ضالته المنشودة في عماه. فراح ينحاز إلى ذلك النور المتلالئ في الظلمة منسحبًا بالكامل من تلك الظلمة التي تغلف النور في نسيجه الداخلي. المسافة بين النور والظلمة هي عينها المسافة بين ذاكرة النور وهو يضيء الأشكال في خارجها. وذاكرة الظلمة التي تستخرج المعاني وظلالها من الأشياء ومشاهدها وأشكالها. الأعمى يذهب عكس التيار. يتسلل خفية، إذا جاز التعبير، من الخارج إلى الداخل. ثم يعود القهقرى من الداخل إلى الخارج. ومع ذلك، فهو لا يتوجه إلى الخارج بأشكاله المألوفة. بل يمضي قدمًا من العمى إلى خارجه. من النفق المظلم للعمى، إلى الصور المتدفقة خارج هذا الدهليز المعتم. من الذاكرة المظلمة للأشكال المرصوفة في عالم الإبصار بالعين، إلى الذاكرة المضيئة للدلالات المنتشرة على ضفتي الرؤية بالمخيلة. يروي آدم فتحي سيرة هذا الأعمى، وهو يرتحل من دون توقف، من ضوء الظلمة إلى ظلمة الضوء المشرع على أنوار كاشفة من الدهشة. الدهشة، في هذا السياق، لا تكون بالنظر المجرد، بل في التفرس الدقيق في ما ينطوي عليه القلب ومخيلته من معانٍ متفجرة تتعذر معانيها بغير هذه الوسيلة. هذه باختصار سيرة نافخ الزجاج الأعمى وهو يمارس مهنته المفضلة: النفخ في الروح التي تحاكي الزجاج في شفافيته. يتوسل الأعمى النفخ في الزجاج كلما أراد الخروج من ظلمته إلى النور المشع في قلبه، وكلما فعل ذلك ارتجت روحه في جوفها مؤذنة لارتجاج مماثل في اللغة وذاكرتها. روح الأعمى، في هذا الإطار المترابط، هي حقيقته، ماهيته، هي اللغة التي تنير له الطريق وهو يتكبد المشاق ليقطع المسافة الطويلة بين عتمة النفق والنور المتهافت عليها من خارجها. زجاجه هو روحه هي اللغة هي حقيقته التي يراها بنور القلب، اللغة هي القلب، هي المخيلة التي تسترشد بها لتستكشف المعاني المستورة وراء جدران الأشكال الملقاة في عالم النظر بالعين. الروح التي ينفخ فيها هي اللغة التي تدل عليها وتضفي عليها أيضًا نعمة تسمية الأشياء بأسمائها. الأصل في اللغة العارية هذا ما توحي به نصوص المجموعة. من التفاصيل المشوقة لسيرة هذا الأعمى، أن انسحابه من الإبصار الخارجي إلى الرؤية الداخلية، جاء بقرار منه اتخذه بإرادته البحتة. الحقيقة الشعرية يتعذر الوصول إليها بالإبصار الاعتيادي. يتطلب ذلك أداة أفعل وأدهى وأقدر على تعقب الحقائق والكشف عنها. يستلزم ذلك العودة، قدر المستطاع، إلى الأصل الذي تنبع منه المعاني بدلالاتها المتحولة. الأصل في هذه الحال هو اللغة ولكن بعد أن تكشف عريها أو جزءًا وفيرًا منه، على الأقل. عري اللغة هو ذاكرة اللغة. هو غريزتها التي لا تظهر على حقيقتها إلا بعد أن تتطهر من أرديتها. عندئذٍ، تتحرك في غريزة اللغة ذاكرتها كما كانت في الأصل. كما تكونت في البدء. كما كانت عندما راح الكون، مدفوعًا بغريزة التحول، يعيد تشكيل كل الأشياء وفقًا لرؤيته، وفقًا لظلاله، وفقًا لذاكرته. زجاج الأعمى، كما يلاحظ في النصوص، هو روحه، هو حقيقته الافتراضية، هو لغته، هو ذاكرة هذه اللغة، هو غريزة هذه اللغة، هو الكون، هو غريزة هذا الكون كما كانت في الأصل. الأعمى، وهو يستند إلى عماه ويتوغل فيه عميقًا، يتوغل في الوقت عينه في الزجاج والروح والحقيقة واللغة وذاكرة اللغة وغريزة اللغة والكون. الزجاج، كما قد يتبادر إلى الذهن في النصوص، هو الكون نفسه الذي استولد في ذاكرته كل الأشياء. ثم راحت هذه الأخيرة بعد ذلك، تعيد استيلاد نفسها من خلال البحث عن ظلالها، عن معانيها البعيدة، عن دلالاتها المحتملة في عالم الظلال. سيرة لهذا الأعمى المثير للجدل، هي ذاتها سيرة الصورة الشعرية التي يرويها آدم فتحي، في نصوصه السبعين، بكثير من الهدوء والرؤية والتقدم الحذر من عالم الإبصار بالعين إلى عالم الإبصار بالقلب. الصورة الشعرية، في هذا السياق المضطرب، هي عينها سيرة هذا الأعمى الذي قرر أن يتعقب الحقائق المتحولة في اللغة وذاكرتها، فإذا به يكتشف أن هذه الحقائق المتحولة هي من نسيج اللغة المتحولة، وأنها أيضًا، وعلى نحو مماثل، من نسيج الذاكرة المتحولة، وأيضًا من نسيج الكون المتحول. من حقيقة إلى أخرى، على طريق التحول الطويل، يوقن هذا الأعمى، أن لا حقيقة على الإطلاق. ولكن من دون أن يشكك في أن اللغة وذاكرتها وظلالها أيضًا، هي وحدها من بث في نفسه هذه القناعة، هي وحدها من أهدته إلى عالم الحقائق المفككة الافتراضية في طبيعتها، المضللة في مكوناتها وما ينبعث منها من إشارات ورموز على هذا الصعيد. المعرفة بالقلب هذه المعاني ودلالاتها التي توحي بها الصورة الشعرية في نصوص المجموعة، هي مدهشة، مثيرة للجدل والريب والقلق والخوف، لأنها ذات طبيعة افتراضية متحولة في الأساس. إنها الصورة المتطلِّعة إلى ما ينبغي أن تكون عليه، غير أنها لا تصل إلى مبتغاها، حتى وأن خُيِّل إلى صاحبها أنه حقق مأربه منها. غالبًا ما يستدرك آدم فتحي هذه المسألة ليعود ويلقي بصوره في سياق واسع من دلالاتها المختلفة. يطارد الأعمى صوره ومشاهده بدفع قوي من غريزة المعرفة بالقلب. ولأن الأمر كذلك، فإنه أميل، بطبيعة هذه الحال، إلى أن يكون كثير الشك في ما يتوصل إليه من أسرار ورموز تلقيها عليه رؤيته الشعرية دفعة واحدة. الأعمى يختلي بذاكرته وحيدًا صامتًا مترقبًا ما قد يسفر عن هذا الاختلاء وهذا الصمت. ولأنه أعمى، ولأنه استقر على الرؤية الشعرية طريقًا وحيدًا لبلوغ الحقائق المتغيرة، فإنه لا يعود كثير الاهتمام بماهية مشاهده الشعرية بقدر اهتمامه بالانتقال من صورة مدهشة إلى صورة مدهشة أخرى. الدهشة بالقلب والإثارة بالمخيلة والسعي الدائم إلى البحث عن الصورة في جوانبها الداخلية الخفية، أمور باتت تغنيه عن الإبصار بالعين المجردة. كثيرة هي الشواهد في نصوص الكتاب التي تشير بشكل ملحوظ إلى أن هذا الأعمى يرى ما يريد أن يراه في عالمه الداخلي العميق. هو أعمى من ناحية، ومبصر من ناحية أخرى. يبتكر عالمه بالرؤية التي تجعل عينيه العمياوين مفتحتين بالكامل على عالم آخر يتعذر وجوده في الخارج، عالم يقوم بالدرجة الأولى على الإبصار في ذاكرة اللغة. ولعل إصرار الشاعر على الانتقال بهذا الأعمى من اللغة إلى ذاكرة اللغة، يشكل الميزة الأساسية التي تضفي على نصوصه نكهة خاصة به. الانتقال المستمر من اللغة إلى ذاكرتها هو كمثل الانتقال من الإبصار بالعين إلى الإبصار بالقلب. هو أيضًا كمثل الانتقال من النفخ بالزجاج الشفاف إلى النفخ بالروح. هو عينه الانتقال من ذاكرة الروح إلى ذاكرة الكون. ليصبح مآله في نهاية المطاف ذا علاقة وثيقة بين ذاكرة اللغة وذاكرة الروح وذاكرة الكون. أقاليم ثلاثة على الأرجح، تنسج خيوط هذه النصوص على ايقاع صور شعرية يتوخى بها الأعمى الخروج من باب العمى إلى متاهة النور وهو ما يزال أعمى متكومًا في ظلمته. النافخ في الروح من النور إلى الظلمة، ومن الظلمة إلى النور، ومن العمى إلى الإبصار خلف أسوار العتمة، مراحل يجتازها هذا النافخ في الزجاج، هذا النافخ في المتاهة، هذا النافخ في الروح، في اللغة، في ذاكرة اللغة، في ذاكرة الكون. ينتقل الأعمى من النفخ في المتاهة إلى النفخ في متاهة أخرى. كلما قادته رؤيته القلبية إلى صورة مدهشة للحقيقة وهي تتفكك، وهي تتحول، وهي تخلع عريًا لترتدي عريًا آخر، راح ينتقل في الوقت عينه من متاهة إلى أخرى. من متاهة الإبصار بالعين المجردة إلى متاهة الإبصار بالقلب، إلى متاهة الإبصار بالزجاج والروح. شبكة متداخلة متقاطعة من المتاهات المنهالة على النصوص. ومع ذلك، فإن الأعمى مغتبط بهذه المنظومة من المتاهات، بذريعة أنها تحرِّره من الحقيقة ثم تضعه وجهًا لوجه أمام حقيقة مختلفة، ثم تلقي به في عالم مثير من الحقائق التي توشك ألا تعود كذلك. الأعمى، وفقًا للنصوص السبعين في المجموعة، يستخدم الحقيقة للوصول إلى اللاحقيقة. ثم يستخدم ثانية هذه اللاحقيقة للوصول إلى لاحقيقة مختلفة. وهكذا دواليك. تسقط الحقائق في عالم هذا الأعمى كما تتساقط أوراق الخريف، وكما ستتساقط أوراق خريفية أخرى. ولعل المتاهة أيضًا، في هذه النصوص هي من جنس أوراق الخريف. كلما انقلب الأعمى على صوره الشعرية انقلب في الوقت عينه على إحدى متاهاته، استعدادًا للانتقال إلى صورة أخرى ومتاهة أخرى. الصور الشعرية بمتاهاتها المدهشة لا تدل الأعمى على الطريق الذي ينبغي عليه أن يسلكه. على النقيض من ذلك، فإنها تضلله، وكأنها تقوده إلى اللاطريق كما تقوده إلى اللاحقيقة، كما تقوده إلى اللاذاكرة. ومع ذلك فالأعمى مسرور للغاية لأنه يريد أن يصل ثم لا يصل إلى حيث يريد أن يصل. لعله يستهدف المتاهة اكثر من استهدافه الطريق. المتاهة هي طريقه التي تقوده إلى حيث لا مكان، لا طريق، لا زمان، لا أحد على الإطلاق. المتاهة هي سبيله إلى المتاهة فقط، إلى حيث تبدو المشاهد أكثر بريقًا واستحواذًا على عين القلب. المتاهة هي طريقه للخروج من عالم البصر إلى الرؤية الداخلية، وهي أيضًا طريقه إلى الخروج من اللغة إلى ذاكرة اللغة، إلى ذاكرة الكون. المتاهة الكبرى هي محاولة الوصول إلى الكون في دهشته الكبرى. المتاهة القصوى هي الدهشة القصوى. نصوص من الكتاب نافخ الزجاج
تسأل الطفلة أباها: كيف تكتب؟ كتف الأشياء
ينفخ الأعمى روحه في القصبة، ينفخ في القصبة أحلامه البيضاء. من كل ثقب تفيض
الأحلام على كتف الأشياء، دون أن ينتبه ترقص له أحلامه بحب، ثعابين بيضاء ترقص
لحاوٍ عجوز. أغنية صحيحة
تعرَّ قبل أن تفجعني فيك قالت، تجرد من قماش الحياة انغمس في مياهها الخاطئة، انصت
إلى جسدك يغرد. الكمين
أنام مع جسدي منذ سنين بعين مواربة، الفراشة
دودة القز تخرج من شرنقتها. *** *** *** |
|
|