الخاسرون والرابحون من اللاعنف٭

 

زهير الدبعي

 

المهاتما غاندي أول من استخدم كلمة "اللاعنف" وقاد الهند إلى الحرية والاستقلال في العام 1947، بعد قرون من الاستعمار البريطاني الذي كان يعتبر الهند "درة التاج البريطاني". قبل غاندي بقرون طويلة مارس الأنبياء صلوات الله عليهم، وكثير من القديسين والمصلحين والمفكرين، اللاعنف كنهج يرفض الظلم والاستبداد، من استعمار واحتلال واستغلال وفساد. واللاعنف يرفض الظلم لأنه:

1.    يرفض اللامبالاة.

2.    يرفض الامتثال والإذعان، وكل الأفكار والثقافة التي تسوغ الركوع والخضوع وطأطأة الرؤوس.

3.    يرفض التواكل، لأنه يعتمد التوكل، الذي يعني الأخذ بالأسباب.

4.    يرفض الجهد العشوائي والتحليل الساذج والتشخيص غير الدقيق.

5.    يعتمد العمل الجماعي، ويراهن على أقوى وأرقى ما في الإنسان، وقطعًا ليست الأنياب والمخالب، وإنما الإيمان والوعي والإرادة والقدرة على التخطيط والمتابعة والتقييم واستخلاص العبر والعظات، والجهد الجماعي، والعمل بروح الفريق.

6.    يرفض العنف، وذلك للقناعة بأن "العنف حفرة يحفرها الظالم ليقع فيها المظلوم". و"الحرب شباب يقتلون بعضهم بعضًا ولا يعرفون بعضهم لمصلحة من يعرفون بعضهم جيدًا"، وبالتالي فإن العنف يؤذي ويدمر ويتلف، لكنه لا يبني، ولا يحقق العدالة التي تخلصنا من الظلم، ولا يحقق الحرية التي تخلصنا من الاستعباد.

7.    النظر بعمق وشمولية إلأى الظلم، وكذلك إلى العدالة، فليس المطلوب استبدال ظالم أجنبي بظالم محلي، وإنما التخلص من الظلم بكل صوره.

8.    الرهان على قوة الناس بوضعهم حدًا للإذعان والامتثال للظالم الذي يتغذى من طاعة المظلومين، وبالتالي تسخير قوتهم لتتحدى قوة الظالم، بكل وعي ومسئولية وإصرار على الحرية والاستقلال الكاملين.

9.    يرفض العنصرية والطائفية والقبلية، وكل الأفكار التي تصنف الناس إلى أصناف ودرجات تسويغًا لاستغلالهم واحتلال أرضهم ونهب مقدراتهم وتدنيس مقدساتهم.

10.                       تحدي الظالم في نقطة ضعفه، لأنه لا يوجد ظالم ومحتل ومستبد إلا وله نقطة أو عدة نقاط ضعف.

11.                       تحدي المظلوم للظالم بنقطة قوة المظلوم الذي يملك دائمًا نقطة أو نقاط قوة، وأساسها الوعي والإيمان والصبر والقدرة على العمل الجماعي والعمل بروح الفريق.

12.                       النهوض بالمقاومة من مستوى مقاومة العشرات أو المئات إلى مستوى مقاومة الملايين. أي النهوض بالمقاومة من المقاومة بالوكالة والإنابة إلى الانخراط الفعلي للقوى الحية في المجتمع بكل أطيافها وشرائحها وفئاتها العمرية.

13.                       تغيير دور الجماهير من دور المتفرج والمشاهد والمصفق والمكبر إلى دور المشارك في المال العام، والقرار العام، وبالتالي وضع حد كلي وقطعي ونهائي للعلاقة "الأبوية" التي تمنح القائد حقوقًا ومسئوليات كحقوق الراعي على القطيع بدعوى البيعة، أو بدعوى متطلبات العمل الثوري. فإذا أمر الله سبحانه وتعالى رسوله المعصوم عليه الصلاة والسلام بالشورى فلا يحق إضفاء هالة من القداسة على أي مسئول في أي مرحلة من المراحل، ولا لأي سبب من الأسباب.

14.                       اختيار العمل الأهلي والجماعي العلني، ورفض العمل السري والنشاط وراء الكواليس وفي الغرف المعتمة السوداء، لأن العمل السري تتخلله أفكار وخيالات أسطورية تتسم بالمبالغة والتهويل، طالما استغلت للنصب والخداع والتضليل.

15.                       دراسة تاريخنا المعاصر بعامة وتاريخ المقاومة بخاصة، دراسة علمية موضوعية بعيدًا عن استخدام نتف وصور من التاريخ لأغراض التعبئة الوعظية الخطابية التي تراهن على العواطف والانفعال على حساب الحقائق والأرقام والمعلومات، وكما قال المفكر محمد الطالبي: "من اعتنى بالتاريخ فقد ضم إلى عمره أعمارًا وإلى تجربته تجارب". وقال آخر: "إذا لم نستطع أن نغير التاريخ فإننا نستطيع الاعتبار به".

16.                       رفض حالة الفوضى والانفلات، واحترام القوانين والقضاء، والرفض العلني للقوانين التي تكرس الظلم وتنتهك العدالة وتقييد حرية الناس.

17.                       التخطيط الدقيق لمناهضة الظلم اعتمادًا على المعلومات والأرقام والحقائق، والابتعاد عن نهج الرهان على الشعارات والخطب الرنانة على حساب الجهد العلمي المنظم والإدارة الرشيدة.

18.                       الترفع عن الشتائم والسب والقذف والتجريح، والعمل على تسليط الأضواء على الظلم والتعسف وتعرية الظالم، ورفض الظلم وتفنيده برزمة من الحقائق والبراهين.

19.                       الإقرار والإيمان بأن الاختلاف أصل من أصول الكون وقاعدة من قواعد الحياة والخلق التي أرادها الخالق سبحانه وتعالى، وبالتالي الاعتراف بالآخر واحترامه، كي نصنع من التعددية قوة، ومن التنوع غنى، وأن نضع مكونات هويتنا بصورة التكامل والتعاون، وليس بصورة التناطح والصراع.

20.                       اللاعنف لا يعني الضعف، كما أن العنف لا يعني القوة، فإذا تعرض اللاعنفي لهجوم على بيته مثلاً، فهو يدفع العنف بالعنف كضرورة، وليس كنهج وخيار مقاومة، لأن اللاعنفي إذا وجد نفسه بين خيارين لا ثالث لهما، وهما إما الجبن أو العنف، فهو لا يختار ولا يقبل الجبن، فاللاعنف مسئولية وشجاعة.

21.                       يميز اللاعنفيون بين القوة والعنف، لأن العنف ينطوي على الضعف وعدم الثقة بقدر ما ينطوي اللاعنف على القوة والثقة والإصرار على التمسك بالحقيقة ونيل الحرية والعدل. ورموز العنف في التاريخ بقدر ما اتصفوا بالصلف والعنجهية والشراسة فإنهم سرعان ما انهاروا تحت الضغط، وأصبحوا كالفئران المذعورة التي تلتمس الرحمة، وتستعطف العفو، أو تلجأ إلى الانتحار حتى لا تواجه الحقيقة التي حاولت إخفاءها لأعوام طويلة.

22.                       وكلما كان الاحتلال عنصريًا ودمويًا وعدوانيًا كانت مقاومته باللاعنف ضرورية وناجحة، وذلك لأنه يجيد استخدام البطش والقدرة على الافتراس وسفك الدماء. وتاريخ البشرية حافل بكثير من قصص كفاح الشعوب التي نجحت باللاعنف في مقاومة الاحتلال النازي، ومقاومة التمييز العنصري في الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة مارتن لوثر كنج الذي قاد نضالاً لاعنفيًا أنهى قوانين عنصرية استمرت قرونًا طويلة.

وبناء على ما تقدم بعرض بعض الملامح الأساسية للاعنف فإن الخاسر رقم (1) هو الاحتلال، الذي يشل اللاعنف فعالية ما يملكه من أسلحة الجو وأسلحة المدرعات، وما يحيد قوة النيران، وما يفسد تفوقه في المعلومات؛ وذلك لأن المقاومة اللاعنفية "المثمرة" مقاومة علنية، بلا مخابئ وخنائق وأنفاق ومطلوبين. فالمجتمع بكل أطيافه وشرائحه يقاوم بشكل علني بعيد عن السرية وحتى عن المواربة والضبابية.

والخاسر رقم (1) هو الاحتلال لأنه يجد نفسه يتعرض إلى تحد ومجابهة ليس في ساحة تفوقه الحاسم والمضمون وهي ساحة العنف وقدراته على القتل والتدمير وسفك الدماء، ويتعرض إلى تحد بنقطة ضعفه، وهي الحقيقة، حقيقة أن فلسطين فيها شعب زرع أجداده أشجار الزيتون المثمرة قبل ميلاد سيدنا المسيح عليه السلام بآلاف السنين.

والاحتلال هو الخاسر رقم (1) لأن اللاعنف لا يسمح له باستغلال أجواء العنف والحرب ليواصل تنفيذ مخططاته في طرد مزيد من شعبنا، كما استغل جميع الحروب التي خاضها لطرد مزيد من الفلسطينيين.

والاحتلال هو الخاسر رقم (1) لأنه يفقد الصهيونية مبرر وجودها التي تدعي أننا نكره اليهود لمجرد أنهم يهود، وأن الصهيونية هي الحامي الوحيد لهم من خلال السلاح والعنف وسفك دمائنا ومصادرة أرضنا ومقدراتنا.

اللاعنف يطرح خطابًا مقاومًا قويًا وواضحًا وعقلانيًا، مما يسهم في حصار الأكثر عنصرية ودموية في المجتمع الإسرائيلي، ولتذكيرهم أن الصراع المفروض على الفلسطينيين لرفضهم وجودنا، وليس لأننا نرفض وجودهم، وهذا يفند دعوى الصهاينة الذين يزعمون أن اليهودي مستهدف لمجرد أنه يهودي، وأن طريقة خلاصه الوحيدة هي الصهيونية الطافحة بالعنف والروح العدائية والرغبة المحمومة في مزيد من التوسع على حساب وجودنا المادي والمعنوي كبشر ومواطنين.

والخاسرون من اللاعنف أصحاب مصانع الأسلحة والذخائر، وتجار وسماسرة السلاح، وحفاري القبور، ومقاولي الجنائز، وكذلك الأميين، والأميين المقنعين الذين تنتفخ مكانتهم بالعنف، وترتفع درجاتهم بالجريمة، كما تنتفخ جيوبهم بفرض أنفسهم أوصياء على الناس ليحققوا كثيرًا من المال الحرام، والمناصب الحرام. لتجد الذين ساموا المواطنين سوء العذاب خلال فترة الفوضى والانفلات قد أصبحوا من الأثرياء وأصحاب العقارات والسيارات الفارهة، ومن حملة المناصب والألقاب، وفي هذا قال الشاعر:

أتذكر إذ لحافك جلد شـاة                وإذ نعلاك مـن جلد البعير
فسبحان الذي أعطاك ملكا                وعلمك الجلوس على السرير

فالحروب والعنف والاقتتال تغرق أكثر من 99% من الناس في الهموم والعذاب والرعب، وتمنح أقل من 1% من الناس ثروات وصلاحيات لم يكونوا ليحلموا بها في جموح خيالهم. وذلك لأن اللاعنف يحمي البلاد والعباد من السلبيات الكثيرة التي يفرضها العنف على جميع نواحي الحياة، وساحات العمل الرسمي والأهلي والخاص.

ويعطينا كرس هدجز في كتابه الحرب: حقيقتها وآثارها – تعريب أيمن أرمنازي، منشورات الحوار الثقافي، بيروت، الطبعة العربية الأولى، 2005 – يعطينا المؤلف في صفحة 44 صورًا كثيرة من خسائر الأكثرية، وأرباح الأقلية نتيجة الحرب في يوغسلافيا السابقة:

لم يكن هناك مبرر للاقتتال بين أبناء الشعب الواحد سوى رغبة عدد من المجرمين والقادة السياسيين التافهين في التمتع بالسلطة وحتى بالثروة، حتى لو اقتضى الأمر القتل والتعذيب والإعدامات الجماعية. لقد استخدمت هذه الوسائل، ومن ضمنها التطهير العرقي، لتأجيج نار الفتنة وايجاد مبررات لم تكن موجودة في الأصل، مما أدى إلى تعميق الكراهية المتبادلة. أصبحت الحرب التي تغذيها تجارة رابحة، والدليل على ذلك عدد سيارات المرسيدس والقصور التي اقتناها أمراء الحرب القابعون في بلغراد. ومن هم أمراء الحرب في يوغسلافيا السابقة؟ إنهم ليسوا سوى حثالة المجتمع اليوغسلافي، مجموعة من اللصوص والمختلسين وأوباش العامة، وثلة من القتلة المحترفين. ولبعضهم تاريخ ملفت للنظر. وخذ على سبيل المثال كابتن دراكان أو فويسوف سيسلي أو زيلكوا رزنياتوفتش: الأول مغامر من المرتزقة، ويقال إنه محكوم سابق قدم من استراليا، والثاني شخصية ديماغوجية فاشية، أما الثالث، ويلقب أيضًا "دراكان"، فله سجل إجرامي موثق في عدد من البلدان الأوروبية. ويمكن أن يقال الشيء نفسه عن الكروات. مثال ذلك بارانيميركلافاش الذي قاد المليشيات التي اقتحمت عددًا من القرى الصربية، وأعدمت مجموعة من المدنيين وأفرادًا من الشرطة الكرواتية حاولوا حماية الأهالي من الغوغاء. أما أفراد العصابات التي استولت على سراييفو لقتال الصرب في بداية الحرب فقد عمدت هي الأخرى إلى السلب والنهب. وفي جميع الحالات كانت الغاية الأساسية النهب والاستئثار بالسلطة.

أما الرابحون من اللاعنف فهم الأمهات والأطفال والشباب والأطباء والمعلمون والقضاة والمنتجون والمثقفون والمفكرون والعمال والزراع، وكل الشرائح المعنية بالحرية والعدالة والخلاص الكلي القطعي والنهائي من الاحتلال، وكل أشكال الظلم.

الرابحون من اللاعنف "المقاومة المثمرة" في كل مجتمع، وفي كل العصور، هم المنتجون المبدعون المخلصون الذين لا يعتاشون على المال العام، ولا يتغذون ويبنون مجدهم من الهم العام.

*** *** ***


 

horizontal rule

٭ نشر هذا المقال في العدد الثاني من مجلة نابلس الغد التي تصدرها محافظة نابلس، تموز، 2010.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود