|
القباب السبع
تناقل المؤرخون العرب أخبار ملوك العجم، وأشهرهم بهرام جور الذي نشأ في كنف ملوك الحيرة، فأتقن العربية ونظم بها أشعارًا، وعُرف ببراعته في الصيد. بخلاف والده "الأثيم"، حكم بهرام جور بالعدل، وقاد حملات واسعة انتصر فيها على الهنود والروم والترك، وعاد ظافرًا إلى مملكته، وقضى غرقًا بينما كان يصطاد حمارًا وحشيًا. استعاد الفردوسي سيرة هذا الملك الساساني في ملحمة شاهنامه، ونسج نظامي كنجوي حولها قصيدة مطوَّلة تُعرف باسم بهرامنامه، أي كتاب بهرام. عنوان القصيدة هفت بيكر، ومعناه الصور السبع، وهذه الصور هي تلك التي رآها الأمير في صباه في قصر الخورنق بالحيرة، وكانت تمثل سبع أميرات فائقات الحسن ينتمين إلى سبعة أقاليم. وفقًا للتقليد المتبع في الأدب الفارسي، يستهل نظامي كنجوي قصته المنظومة بالدعاء والمديح النبوي. بداية القصة معروفة: حمل الملك الساساني يزدجرد بن بهرام وليده إلى الحيرة لصحة هوائها وعهد بتربيته إلى ملكها النعمان بن المنذر. نشأ الطفل وتلقى أعلى العلوم في قصر الخورنق البديع، وهو القصر "الذي ذكرَتْه العرب في أشعارها وضربت به الأمثال في أخبارها"، كما كتب ياقوت الحموي في معجم البلدان، وهو يشرف "على النجف وما يليه من البساتين والنخل والجنان والأنهار مما يلي المغرب، وعلى الفرات مما يلي المشرق". تعلم الأمير فنون الفروسية والصيد خلال إقامته في الحيرة وبرع فيها في صباه، واصطاد بسهم واحد أسدًا وحمارًا وحشيًا كما قضى على تنين رهيب. الرواية معروفة في الميراث العربي، ونقلها ابن الأثير في تاريخه: بدأ الأمير بتلقي العلوم في الخامسة من عمره، ولما بلغ اثنتي عشرة سنة، "فاق معلِّميه" علمًا، فصرفهم حاكم الحيرة، وأتى بمعلِّمي الفروسية، فأخذ عنهم بهرام كل ما ينبغي له. وظهرت مهارته حين ركب الفرس ولحق بحمار وحشي، فإذا بأسد ينقضُّ على هذا الحمار، فرماه بسهم "فنفذ في الأسد والعير ووصل إلى الأرض، فساخ السهم إلى ثلثه، فرآه من معه، فعجبوا منه". أميرات الدنيا في قصر الخورنق، دخل الأمير في يوم من الأيام صالة مقفلة لم يدخلها من قبل، واكتشف فيها سبع صور بديعة تمثل كلٌّ منها صبية فائقة الحسن. وعرف أن هذه الصور الشخصية هي في الحقيقة لسبع أميرات جعلتها الأفلاك من نصيبه: الأولى ابنة راجا الهند، والثانية ابنة خاقان الصين، والثالثة ابنة ملك خراسان، والرابعة ابنة قيصر الروس، والخامسة ابنة ملك المغرب، والسادسة ابنة امبراطور الروم، والسابعة ابنة كسرى الفرس. يخرج بهرام من قصر الحيرة ويعود إلى موطنه إثر إبلاغه نبأ موت والده، ويعتلي العرش بعد أن ينجح في الوصول إلى التاج المنصوب بين أسدين ضاربين. تماثل هذه الواقعة ما نقله ابن الأثير في عرضه سيرة الملك الساساني، وفيه: حمل بهرام جرزًا [قضيب من الحديد] وتوجه نحو التاج فبدر إليه أحد الأسدين، فوثب بهرام فعلا ظهره وعصر جنبي الأسد بفخذيه وجعل يضرب رأسه بالجزر الذي معه، ثم وثب الأسد الآخر عليه فقبض أذنيه بيده ولم يزل يضرب رأسه برأس الأسد الآخر الذي تحته حتى دمغهما، ثم قتلهما بالجزر الذي معه وتناول بعد ذلك التاج والزينة. بعد عرض سريع لأهم إنجازات الملك، يتحدث نظامي عن عزم بهرام على المجيء بالأميرات السبع إليه إثر عودته من الحملة العسكرية وانتصاره على الخاقان. لأجل هذا الغرض، يأمر الملك بتشييد سبعة أجنحة تعلو كلاً منها قبة عظيمة الشأن. تأخذ القصة بعدًا "فلكيًا" واضحًا. لكل يوم من أيام الأسبوع السبعة جناح تتوِّجه قبَّة، ولكل جناح من هذه الأجنحة السبعة لون يجعل منه صورة لكوكب من كواكب الكون. في الجناح الأسود يدخل الملك إلى كوكب زحل، وفي الجناح الأصفر يزور الشمس، وفي الجناح الأخضر يصل إلى القمر، وفي الجناح الأحمر ينتقل إلى المريخ، وهو في الجناح الأزرق على أرض عطارد. الجناح السادس بلون خشب الصندل، ويرمز إلى كوكب المشتري. والجناح السابع أبيض، وهو كوكب زحل. على مدى أسبوع، يختلي بهرام جور في كل يوم بأميرة تروي له قصة تنفتح على مجموعة قصص. يوم السبت، يرتدي الملك أجمل ثيابه السوداء، ويذهب إلى لقاء أميرة الهند في الجناح الأسود. على مثال شهرزاد، تقص الأميرة عليه قصة الملك الذي زهد وتقشَّف، وتتخلل هذه القصة طائفة من الأخبار والحوادث. يفوح الجناح بطيب المسك، ويحل الليل ملقيًا سواده على الحرير، وبحلوله يختلي بهرام بأميرته بعدما استمع بشغف إلى قصصها. في يوم الأحد، يلبس الملك رداء من الذهب ويدخل الجناح الأصفر حيث تنتظره ابنة امبراطور الروم. يشرب الملك من كأس ذهبية، ويغدو في مقصورته شبيهًا بجمشيد: كسرى الفرس الذي ملك ألف سنة، وهو الذي اكتشف الخمر ونشرها في مملكته. تروي أميرة الروم قصة ملك العراق الذي هام بصبية حسناء، ويستمع الملك إلى قصصها إلى أن يجمع الليل بينه وبين الصبية. في يوم الاثنين، ينتقل بهرام إلى الجناح الأخضر، ويلتقي بأميرة خراسان التي تختم قصصها بمديح اللون الأخضر، "زينة الملائكة"، وحلَّة حور العين. في يوم الثلاثاء، يجتمع الملك العاشق بأميرة الروس في الجناح الأحمر، ولهذه الأميرة ضفائر بلون النار، وهي أعذب من مياه السبيل. تحكي الصبية قصصًا من بلادها، ثم تهب نفسها إلى الملك. في يوم الأربعاء، يحل الملك في الجناح الأزرق، ويختلي بأميرة المغرب تحت قبة الفيروز حيث تحكي الأميرة قصة رجل مصري ثمل وهام وضاع في شوارع القاهرة. في يوم الخميس، يدخل بهرام الجناح السادس، وهو جناح من خشب الصندل. يشرب الملك من خمرة الجنة حتى المساء، ثم يستمع إلى حكاية شابين يتشاجران باستمرار، وهما "خير" و"شر". في اليوم الأخير، يتزين الملك بالأبيض، ويمضي إلى جناح كوكب زحل حيث يختلي بأميرة الفرس التي تحدثه عن حفل نسائي تروي فيه كل امرأة قصة واحدة. الجد واللهو في كل هذه الروايات والأحاديث والأخبار، يمزج نظامي بين الجد واللهو، جامعًا بين الموعظة والعبث الجميل. يتلقى الملك من خلال هذه القصص دروسًا في أصول الحكم والعدل، ويكتشف ظلم وزيره ويأمر بإعدامه شنقًا أمام أعين الناس. وقد نقل وزير السلاجقة الأكبر نظام الملك الطوسي هذه الرواية في كتاب سياست نامه الذي وضعه بعدما طلب منه السلطان ملكشاه مراجعة أخبار الملوك السالفين العظام والبحث عن السنن الصالحة التي سار بها كبار الحكَّام القدامى. يختم الشاعر قصته بالحديث عن رحلة بهرام الأخيرة: ذهب الملك إلى صيد الحمير الوحشية بعد اجتماعه برعيته، فتعقب فريسته ودخل وراءها في كهف مظلم، واختفى أثره منذ تلك اللحظة. في كتب التراث العربية، يتردد خبر موت الملك غرقًا في رحلة الصيد الأخيرة. في رواية ابن الأثير، أمعن الصياد في طلب الوحش، فارتطم في جبٍّ فغرق، فبلغ والدته ذلك فسارت إلى ذلك الموضع وأمرت بإخراجه فنقلوا من الجب طينًا كثيرًا حتى صار آكامًا عظامًا، ولم يقدروا عليه. وفي نهاية الأرب: "ولم يقدروا على استنقاذ جثته". صوَّر الرسامون فصول كتاب بهرام عشرات المرات، وتحولت صور "القبب السبع" إلى نماذج ايقونوغرافية أليفة تتجدَّد في صيغ مبتكرة تشهد لحرية الفنان في التأليف والتلوين. في مخطوط من شيراز يعود إلى عام 1410، يظهر الأمير في قاعة "الصور السبع" في قصر الخورنق. تتكرر صور القبب السبع في عدد هائل من النسخ المزوَّقة. تتحول هذه المنمنمات إلى شبكات تشكيلية بديعة يطغى على كل منها لون الجناح الذي تجسِّده. في مخطوط أُنجز في عهد الشاه عباس الأول، نرى الوزير البغيض مشنوقًا أمام جمع من الرجال اجتمعوا من حول الملك لشكره. عرف العرب هذا الملك باسم بهرام جور، والاسم الفارسي بهرام كور. يعتمد هذا اللقب على نوع من الجناس، فكلمة كور تعني الحمار الوحشي كما تعني القبر، وقد قيل في بهرام الخامس بيت من الشعر تكررت فيه كلمة "كور" بمعنييها، وتحول هذا البيت إلى مثل شائع ترجمته: بهرام هذا الذي كان يصيد الحمار الوحشي طول عمره، أرأيت كيف صاده القبر! النهار |
|
|