|
المجتمع المدني... مفهوم بحاجة إلى مراجعة
من بين التمظهرات الجدلية والاستفهامية التي تتعلق بمفهوم "المجتمع المدني" برز في الآونة الأخيرة نقاش انتلجنسي حول معطياته ودلالاته اللغوية، فضلاً عن طبيعة العلاقة التي تجمعه بمجموعة من المفاهيم والمصطلحات الأخرى كالمجتمع السياسي والمجتمع الأهلي... إلخ. وإذا بدأنا بدلالة المصطلح لغويًا للاحظنا أن ثمة تحفظًا مبدئيًا على هذه الدلالة من منطلق أنَّ لفظة "مدني" تحيلُ في لغتنا العربية إلى "المدينة"، ومن ثم، يمكننا بشيء من التجاوز أن نضع عبارة "المجتمع المدني" في مقابلها العربي، ألا وهو: "المجتمع البدوي"، تمامًا كما فعل ابن خلدون من قبل حينما استعمل "الاجتماع الحضري" ومقابله "الاجتماع البدوي" كمفهومين إجرائيين في تحليل المجتمع العربي خلال عصره والعصور السابقة له. هذا، ويميِّز معظم الباحثين بين مرحلتين رئيستين في تاريخ المفهوم، أولاهما: العصر الكلاسيكي لمفهوم المجتمع المدني. وثانيتهما: التصور الغربي الحديث في كلٍّ من الفكر الماركسي والليبرالي. كما يميِّز البعض الآخر بين مفهومين مهمين أيضًا: الأول مرتبط بـ"مفهوم المجتمع المدني بالمعنى المؤسساتي والدستوري" باعتباره الصيغة المُمارسة على أرض الواقع. والثاني: ذلك المرتبط بمفهوم "المجتمع المدني بالمعنى المعرفي" وهو المرهون أصلاً بالمساحة المرجعية التي يوفرها مجمل الإنتاج الفكري لنخبة هذا المجتمع، أو التي يستفيد منها. أي أنَّ مفهوم المجتمع المدني، صعودًا، وفق محور الصيرورة الزمنية، خاضع لجملة من الحدود الفاعلة فيه، أهمها فعل الصيرورة ذاته، باعتبار أنه مفهوم ناتج عن مجموعة من التفاعلات، الداخلية والخارجية، السياسية والاقتصادية والثقافية، وهو ما لاحظه أحدهم حين أكد أن ثمة فرقًا كبيرًا بين أن تجعل المجتمع المدني هدفًا تسعى إليه، من خلال رصد مساحات قادرة معرفيًا على تأسيس هذا المفهوم، وبين أن تطلب بسحب مفهوم محدَّد حول هذا المعنى، باعتباره صيغة قادرة على الإنتاج المباشر، في مجتمع ما من نظام ما وقلب هذا النظام إلى نظام مؤسساتي، يقوم في تفاصيله على معنى سياسي أساسه المجتمع المدني، دون البحث في مساحة المتاح وفهم الممكن المعرفي، أصلاً، لإمكانية حراك هذا المفهوم واقعيًا. والواقع أن كلا من مفهومي السلطة والمجتمع المدني من أشد المفاهيم التباسًا بالرغم من كثرة تداولهما في الكتابات السياسية والصحافية، لدرجة أنه بات من العسير بالفعل تحديد الإطار الذي تنتمي إليه الكتابات المتعلقة بهذا المفهوم: هل تندرج ضمن سياق الفكر السياسي والنظرية السياسية، أم ضمن حقل علم الاجتماع السياسي، أم تحت الدراسات الإعلامية المهتمة بالرأي العام والجماعات المؤسِسة للمجتمع المدني، أم في إطار العلاقات الدولية بخاصة بعد أن كثر الحديث أخيرًا عن ما يسمى "المجتمع المدني العالمي"؟! هنا يجب أن نفرِّق بين أمرين مهمين: بين أن نطرح هذا الشعار، تكتيكيًا، بغية حجز مساحة سياسية تؤمِّن لنا إمكانية ممارسة طموح ما محدد وواضح، وبين أن يكون هذا الشعار غاية في حد ذاته وهدفًا وتصورًا لمرحلة مستقبلية أفضل. فإذا كان الاحتمال الأول هو الوارد في سياق الاهتمام بمفهوم المجتمع المدني، وهو أنَّ هناك بعض الفعاليات التي تريد أن تشرِّع لهذا المفهوم، رهنًا لطموح سياسي تمتلكه، فما عليها إلا أن تطالب – وبشكل مباشر – بالتعبير عن هذا الطموح، والذي لا بدَّ من أن يتقدَّمه وجبة معرفية كافية قادرة على حجز الحجم الكافي لصيغته من ضمن البنية الاجتماعية للمجتمع، وليس الاتكاء على تقديم مساحات سوداء تشوب المجتمع، وتقديم نفسها مخلِّصًا، من مجمل المنتج السلبي الذي شاب الحراك السياسي والاقتصادي، خلال مراحل سابقة. أما إذا كان هذا المفهوم يُطرح على أنَّه هدف وتصوُّر لمستقبل أفضل، فما على من يتبنى طرحه إلا أن يضع له أسسه، ويبحث في ثقافة الأمة عن مفردات تضمن له حراكه، ويُفعِّل هذه المفردات بغية أن يصَّاعد فعل الداخل ليصل أخيرًا إلى مستوى المتصَوَّر، أو المتخيَّل. وعليه أيضًا أن يحاول إنتاج المساحة المعرفية القادرة على استيعاب عناصر وملحقات المجتمع المدني، الذي يعمل أو يطمح إليه، ليصبح العنصر القادر على التمييز والإنتاج، في ظلِّ فهم متقدِّم لمجمل ما يحتويه المجتمع العربي عامة. تاريخيًا، نشأ مفهوم المجتمع المدني في الفكر الغربي إبان القرن السابع عشر عندما بدأ جون لوك وتوماس هوبز يبحثان عن مفهوم جديد في مقابل الملكية والكنيسة انطلاقًا من فكرة المواطنة. ففي الملكية لا يتم النظر للمواطن إلا باعتباره رعية من الرعايا، وفي الكنيسة ينظر إليه باعتباره مؤمنًا في مجتمع المؤمنين. وفي كلتا الحالتين كان الوجود الإنساني يستمد مقوماته من خارجه، من السلطة السياسية تارة أو السلطة الدينية أو من كليهما معًا تارة أخرى. ومن ثم، كان مفهوم المجتمع المدني يطرح آنذاك باعتباره بديلاً عن كل من الدولة والكنيسة معًا! وفيه يصبح المرء عضوًا بمحض إرادته يقرر شكل السلطة في المجتمع بحسب ما تمليه المصلحة العامة عن طريق العقد الاجتماعي كما حدده لوك واسبينوزا في القرن السابع عشر، وروسو في القرن الثامن عشر. ولعل ذلك هو ما دفع البعض إلى الحديث عن تطور المفهوم بتقسيمه إلى مرحلتين رئيستين: المرحلة الكلاسيكية، والمرحلة الحديثة. على أن المجتمع المدني كان يقصد آنذاك كل مجتمع بشري خرج من حالة الطبيعة (الفطرية) إلى الحالة المدنية التي تتمثل بوجود هيئة سياسية قائمة على اتفاق تعاقدي. ومن ثم، فهو لا يعرف المراتب الاجتماعية ولا التدرج الاجتماعي، كما أن تركيبته الداخلية لا تعرف بالمثل السيطرة ولا التبعية، لأن العلاقات داخله ليست علاقات بين قوى اجتماعية أو طبقات اجتماعية، ولكنها علاقات بين أحرار متساوين. وهو المعنى الذي تغير بشكل جذري فيما بعد على يد كل من: هيجل، وماركس، وأنطونيو غرامشي، وماكس فيبر. المستقبل، السبت 5 حزيران 2010، العدد 3672، رأي وفكر، صفحة 19 ٭ أكاديمي وباحث مصري.
|
|
|